سوف أقتصر في هذه الورقة على مفهوم التنمية في ارتباطها بالواقع المحلي، ثم كيفية زرع ثقافة التنمية بين مختلف شرائح المجتمع، التي باكتسابها للوعي اللازم بهذا المفهوم ذي البعد الاستراتيجي، سوف تساهم لا محالة من موقعها في وضع لبنة ما في صرح التنمية، التي صارت الأمم المعاصرة تراهن عليها، وترى في تحقيقها أهم ضامن لاستمرارها وصمودها وتأثيرها.تجمع الكثير من الدراسات التي تناولت قضية التنمية، على أنه بتحقيق هذا المطمح، يتم القضاء ولو النسبي على الفقر، وسد الفجوة سواء بين الدول الغنية والدول النامية، أم بين الأغنياء والفقراء على الصعيد الوطني والعالمي، والتحرر من إسار التبعية، ونحو ذلك. وهذه المقاصد كلها، على اختلاف أصنافها، يمكن إدراجها في مقصد جامع، وهو أن التنمية تسعى إلى تحرير المجتمع من آفة التهميش، والتهميش مفهوم موسع، يشمل الإقصاء والفقر والاستعباد والتخلف والتبعية وانتهاك حقوق الإنسان، وما إلى ذلك، لذلك يمكن اعتباره يتضاد ومفهوم التنمية، فما المقصود بهذين المصطلحين المحوريين في حركة كل مجتمع سواء نحو خيار التخلف، أم إلى خيار التقدم؟
مفهوم التنمية إن الاقتصاديين يكثرون من استعمال عبارة التنمية، التي يقصدون بها رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد، لكن هذه العبارة لم تبق محصورة في المجال الاقتصادي، بقدر ما نزحت نحو أغلب حقول العلوم والمعارف الإنسانية، فيطلق على أية طريقة تستهدف تحسين وضعية ما أو تطويرها، من حالة الرداءة إلى حال الجودة والعطاء تنمية، التي يعبر عنها في المعاجم اللغوية بتكثير الشيء وزيادته؛ فتنمية النار في إشباع وقودها، وتنمية التجارة في رفع أرباحها ورأسمالها، وتنمية الجوار في تطوير العلاقات فيما بين الدول المجاورة، وهكذا دواليك. وقد تناول د. إبراهيم العيسوي قضية التنمية في كتابه (التنمية في عالم متغير)، حيث تعرض إلى التطور التاريخي لهذا المصطلح، يقول: "إذا تتبعنا تطور مفاهيم التخلف والتنمية، فسوف نجد أنها قد مالت في أول الأمر إلى التركيز على جانب النمو الاقتصادي وما يتحقق فيه من إنجاز. فقد كان التعريف الشائع للبلدان النامية منذ أواخر الأربعينات حتى أواخر الستينات أنها البلدان التي ينخفض فيها مستوى الدخل الفردي كثيرا بالقياس إلى مستواه المتحقق في البلدان المتقدمة. وعرفت التنمية بأنها الزيادة السريعة والمستمرة في مستوى الدخل الفردي عبر الزمن". ص 13 إلا أنه سوف يكتشف بأن هذا المفهوم الذي يختزل التنمية في مجرد النمو الاقتصادي السريع، ضيق وغير صائب، لأن ثمة بلدانا نامية عديدة، كما يستخلص الباحث، حققت معدلات نمو للدخل القومي قريبة من المعدل الذي حدده خبراء التنمية، غير أنها بقيت مستويات المعيشة بها متردية، وظلت الكثير من قطاعاتها تتخبط في الفقر والجهل والمرض والتخلف، ص 14 على هذا الأساس، فإن مفهوم التنمية سوف يحافظ على البعد الاقتصادي، وفي الوقت ذاته يضيف إليه أبعادا متعددة، وهكذا فإن خبرة الخمسينات والستينات سوف تساعد "على صقل المفهوم الأوسع للتنمية، بتحجيم دور العنصر الاقتصادي في مفهوم التنمية (أي النمو الاقتصادي)، وبإبراز دور الجوانب المؤسسية والهيكلية والثقافية والسياسية". ص 17مفهوم التهميشيعنى بكلمة التهميش الترك أو التقليل من قيمة الشيء، فقد اكتسبت دلالات متنوعة؛ إذ تعني هيمنة الدولة واستعباد الرعية عن طريق الاستحواذ عن ممتلكاتها، مادية كانت كالأرض والبدن وسائر المنتوجات وغير ذلك، أم معنوية كالرأي والفكر ونحو ذلك، فهي تقلل بذلك من قيمة الرعية! أو تشير إلى إقرار نفوذ مجموعة من المستحوذين وإقصاء الآخر من بنية المجتمع المدني، أو تدل على العمل على حضور نمط معين من الفكر أو التراث أو الإبداع أو التقاليد، وتغييب وترك أنماط أخرى وغيرها من الدلالات. وهذه الدلالات التي يوحي بها مصطلح التهميش، تتضاد ومعنى مصطلح التنمية، مما يجعلنا ننصب هذين المصطلحين (التهميش # التنمية) على طرفي نقيض، إذ أينما ساد التهميش، كانت التنمية غائبة أو مغيبة، وكلما انتهج أسلوب التنمية، تبددت آثار التهميش.من هذا المنطلق، فإن مصطلح التهميش ينتصب ندا لند مع مصطلح التنمية، عوض مصطلحات الفقر أو التخلف أو الركود أو الاستعباد، أو نحو ذلك، فالتهميش يستوعب معاني تلك المصطلحات كلها، وهو لا يقع من تلقاء ذاته، وإنما تسببه عوامل خارجية شتى، قد تكون ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو تنظيمي، في حين أن الفقر آفة داخلية وذاتية ترتبط بالفرد قبل المجتمع، والتخلف نتيجة مشتركة لتقاعس الجميع، والركود يتولد عن الأزمة التي تعتري قطاعات الاقتصاد، من صناعة وتجارة وخدمات وفلاحة وملاحة، وغير ذلك، والاستعباد ممارسة غير ديمقراطية من قبل حاكم أو جهاز مستبد، وهذه التجليات وغيرها، يمكن أن تندرج كلها في دائرة التهميش الموسع، الذي عادة ما ينبعث من مصدر موحد، وهو السلطة أو المخزن أو كل ما هو فوقي، ليعتري بنتائجه الوخيمة شرائح أو مجالات متعددة. من التهميش إلى التنميةهكذا فإن التنمية بمفهومها المتطور تعتبر بديلا لآفة التهميش التي تأتي بويلاتها على الأخضر واليابس، ومن بين أهم تجليات هذا التهميش نجد، كما سبقت الإشارة، التخلف الذي أصبح حسب الباحثين ج. جازيس وج. دومينجو، "منذ ربع قرن تقريبا، حقيقة يومية، صارمة، ومتسلطة ومهيمنة، وكأنها التعبير الشائع عن سوء الأحوال العامة"، (ينظر كتابهما: دراسات في جغرافية التنمية، ص 20). وعندما نتأمل بنية مجتمعنا الريفي المحلي، ندرك أن هذه الحقيقة حاضرة فيه بقوة وكثافة؛ فالواقع الذي ننتظم فيه، بصراحة مرة وتامة، واقع يمكن نعته بالتخلف، الذي لا يقتصر على الحيثيات الخارجية الملموسة والمرئية للمدن والقرى، من بنى تحتية ومرافق عمومية وغير ذلك، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما هو إداري وتنظيمي، حيث ترين مظاهر التخلف على مختلف أنواع الإدارات والمصالح والمؤسسات، سواء أكانت صحية أم تعليمية أم ثقافية أم سياسية أم إدارية، بل والأفظع من ذلك كله، أن التخلف يمتد بظلاله إلى جانب حساس في مجتمعنا المحلي، وهو الإنسان نفسه، الذي يتخبط في مستنقع الجهل والأمية والأنانية والتقوقع... ونعني في هذا الشأن الإنسان بمفهومه العام المجرد، أما على الصعيد الواقعي والميداني، فيمكن أن نقسم المجتمع إلى أصناف من الناس، من أمي، ومتعلم مبتدئ، ومتعلم عادي، وحامل شهادة، ومثقف، وغير ذلك، ونستطيع أن نستخلص من هذه الأصناف كلها، فئة متقدمة تفكيرا وسلوكا ومشاركة، قد يحضر فيها الأمي، ويغيب منها المثقف أو خريج الجامعة، لأن التقدم لا يقاس بنسبة التمدرس فحسب، وإنما بحجم المشاركة البناءة والمعطاءة في المجتمع، فما أكثر المواطنين المتعلمين تعلما عاليا، غير أنهم لا يترجمون ذلك التعلم على مستوى الواقع الذي ينخرطون فيه، فهم سلبيون أكثر من الذين لم يحظوا بالتعليم، بل وأميون أكثر من الأميين العاديين!إن التوقف عند التهميش الذي يلحق بالإنسان نفسه، لا يعني الحط من قيمة ذلك الإنسان أو الإساءة إليه، وإنما لأن الإنسان في خطاب التنمية الأخير المتطور، صار نتيجة التنمية وغايتها، لا أداتها ووسيلتها، كما كان سائدا في الماضي، إذ ظلت التنمية توظف الإنسان وجهده من أجل أهداف، قد لا يجني منها ذلك الإنسان إلا مزيدا من التعب والاستنزاف والاستعباد، كالاقتصاد الذي كان دوما غاية التنمية، فكان يسخر إنسان العالم الثالث لخدمة اقتصاد العالم الرأسمالي، أو خدمة مصالح البورجوازية المحلية، ويبقى هو بعيدا عن ثمار ذلك الاقتصاد ومكاسبه!ثم إنه في الآونة الأخيرة نشأ وعي عالمي بأهمية إشراك الإنسان في أي مشروع تنموي، ليس إشراكا مبنيا على الاستغلال، وإنما على الأخذ والعطاء وتبادل المصالح، وعادة ما يتم ذلك الإشراك عبر مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، (ينظر مقالنا: المجتمع المدني؛ قراءة في النشأة والمفهوم)، ومن شأن فعل الإشراك هذا أن يقلص من التهميش الذي أقحم فيه الإنسان، محليا ووطنيا وعالميا، لأنه بإشراك الجميع في مشاريع التنمية المحتملة، نتمكن من تهيئ سياق صحي وملائم لغراس التنمية، التي سوف تثمر لا محالة، طال الزمن أم قصر، ويتأسس هذا السياق المنشود على الركائز الآتية:· حتمية منح الفرصة لسائر مكونات المجتمع؛ أفرادا وجمعيات ومؤسسات، للمشاركة التلقائية والفعالة في تنمية المجتمع وخدمته، وهذا ما يطلق عليه في أدبيات التنمية: التنمية الشعبية.· إشراك سائر تلك المكونات ينبغي أن يكون على أساس ديمقراطي عفوي، لا أيديولوجي أو عشائري أو رأسمالي.· عدم تبعية التنمية، بمعنى أن التنمية لا تنجح إلا إذا كانت مستقلة، سواء عن تأثير الدول المتقدمة، أم عن تدخل الأجهزة الرسمية، التي قد توجه التنمية الوجهة التي تحلو لها، أي حسبما يتماشى وسياستها الاحتكارية والتسلطية.· ثم إن مطمح التنمية لن يتحقق ما لم يعمل الجميع على نشر ثقافة التنمية، في المنزل والشارع والمدرسة والجمعية، ومختلف النوادي والمجالات. زرع ثقافة التنمية لدى الجميعإن مصطلح التنمية هو المقابل الأنسب لمصطلح التهميش، وكما رأينا فالتهميش يتخذ أبعادا متنوعة، قد تتمثل في الفقر، أو التخلف، أو الاستعباد، أو التبعية، أو غير ذلك، وغالبا ما كان هذا التهميش نتيجة للسياسة المنحرفة التي كانت تمارسها أجهزة الدولة، بمعنى أنه في الأصل غير مترتب عن عجز ذاتي، وإنما مقحم مما هو خارجي وفوقي، حتى أنه كان في الماضي القريب، لا يسمح للإنسان العادي أن يفكر في خدمة واقعه، وبالأحرى أن ينزل إلى الشارع للدعوة العملية والميدانية إلى التنمية، إذ كان مجال المجتمع المدني ضيقا ومحاصرا، أما الآن وقد تغيرت تلك الرؤية، ولو نسبيا، فإن من حق أي مواطن أن يشارك من خلال مؤسسات المجتمع المدني في تنمية، ولو محيطه المحلي الضيق، كالحي، والمدرسة، والشارع... ما لم يتعارض ذلك مع القوانين الرسمية المنظمة لذلك الشأن، مما يعني أنه أصبحت ثمة فسحة للمشاركة والعمل وخدمة الصالح العام. وأي إسهام من هذا النوع، قد يندرج في نطاق العمل التنموي، الذي يسع لكل الحقول والمجالات، من ثقافة وتعليم وصناعة ورياضة وفلاحة وترفيه، وغير ذلك. على هذا الأساس، فإنه أصبح من الإمكان الحديث عن ثقافة جديدة، وهي ثقافة التنمية، التي تستند إلى مجموعة من الدعامات، ويتحدد أهمها في: تعميم الوعي اللازم: ويقصد بذلك أنه ينبغي أن تعمم ثقافة التنمية بين جميع مكونات المجتمع، وعلى مختلف المستويات والصُّعُد، ويشارك في تنفيذ هذه المهمة الكل، بدءا من أصحاب القرار، مرورا برجال التعليم، وصولا إلى الفاعلين الجمعويين، على أن يعتبر هؤلاء كلهم أجمعون أن لا مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها الواقع الوطني المغربي عامة، والمحلي الريفي خاصة، إلا بالتنمية المنظمة والشاملة، وهذه التنمية المنشودة لا تحصل فجأة، أو في لمح البصر، وإنما تتحقق عبر أطوار مختلفة، أهمها توعية جميع شرائح المجتمع بمدى أهميتها القصوى، وحاجتنا الملحة إليها، وهذه التوعية تتم عبر مختلف الآليات التواصلية، من تعليم وإعلام وتنشيط وترفيه، ونحو ذلك. مسؤولية الجميع: التنمية لم تعد مسؤولية طرف معين دون الآخر أو الآخرين؛ التنمية ليست مسؤولية الدولة وحدها، ولا المدرسة وحدها، ولا المثقفين وحدهم، ولا الأئمة والعلماء وحدهم، ولا المجتمع المدني وحده... التنمية أصبحت في العصر الحديث مسؤولية الجميع، وقد أدركت كبريات المؤسسات الدولية المؤثرة (منظمة الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي...) أن سر فشل مشاريع التنمية التي تبنتها عبر عقود ما بعد الاستقلال في الكثير من دول العالم الثالث، يتعين في تغييب مؤسسات المجتمع المدني، وعدم إشراك المواطنين في تلك المشاريع التنموية! ثم إن مختلف دول العالم النامية، بما في ذلك المغرب، أصبحت تدرك قيمة المجتمع المدني ودوره الفعال في دعم مشاريع التنمية المحلية والوطنية، مما جعل الدولة تطلق من حين لآخر مبادرات جادة، تسعى من خلالها إلى تحسيس مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته بأهمية ما تنظمه من أنشطة، وما تقدمه من أفكار واستراتيجيات، وما تقوم به من مشاريع وأوراش. مثل المبادرة الوطنية للتنمية التي بدأت في 2005، ومسلسل تأهيل الجمعيات الذي أطلقته وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن في 2008، وسوف تستفيد منه حوالي 2000 جمعية خلال عام 2008، وشراكة المعهد الملكي للثقافية الأمازيغية مع الجمعيات الوطنية العاملة في مجال النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين. وما إلى ذلك من المبادرات. العمل التطوعي: إن ما نعهده دوما أن مشاريع التنمية تتطلب ميزانيات ضخمة تعد بالملايين أو المليارات من الدولارات، لذلك فلزام على كل من يفكر في أي مشروع تنموي أن يتوجه إلى المؤسسات البنكية الكبيرة والمؤثرة، التي قد تمول ذلك المشروع، هذا ما حصل مع مختلف دول العالم الثالث، التي استنجدت بالأبناك الدولية لتمويل مشاريعها التنموية، التي راهنت عليها طوال عقود ما بعد الاستقلال، غير أنها سوف تجد نفسها فيما بعد مغرقة في الديون، دون أن تحقق ما قد كانت سطرته أو سطر لها من مشاريع وأوراش! والمرجع الأساس في ذلك، إلى هيمنة العقلية التي ترى أن المال لا يأتي إلا بالمال، وأن التنمية لا تتحقق إلا بالأموال الوافرة، وقد تشربت هذه الأفكار مختلف أجيال العالم الثالثي، التي تربت على مثل هذه الأفكار والقيم الغثة، مما ضخم في عيونها وأذهانها مفهوم التنمية، الذي له وقع لا يقاوم! لا سيما في حديث السياسة والإعلام. في حين أن التنمية في حقيقتها ممارسة عادية، لا تقتضي هذا التضخيم كله، فهي تتخذ مستويات متنوعة، حسب إمكانات كل فاعل تنموي المادية والفكرية والتنظيمية، إذ أن بمستطاع الجميع الانخراط في هذه الممارسة، بالكيفية التي يقدر عليها، سواء أكان أميا أم متعلما، فقيرا أم غنيا، ذكرا أم أنثى، فردا أم جماعة... بعبارة أوضح، إن التنمية تفشل كلما طغى الهاجس المادي على فاعليها، وتنجح كلما حضر الهاجس التطوعي بكثافة وقوة، وهذا ما توصلت إليه مختلف التقارير الدولية، التي راحت تركز على أهمية المجتمع المدني، وأهمية إشراك المواطنين. ثم إن التنمية لا ينبغي أن تختزل فقط في المشاريع الضخمة والعملاقة، التي تتطلب ميزانيات هائلة، قد ترهق كاهل الدولة، وتستنزف طاقات وخيرات الأمة، وإنما ينبغي التفكير بجدية في الأوراش الصغيرة والأنشطة العادية، التي قد تؤتي أكلها في الحين، وبتكاليف منخفضة وأحيانا رمزية، وهذا ما تقوم به العديد من الجمعيات المغمورة، التي توجد في المدن المهمشة والقرى النائية والأحياء المنعزلة، إذ أنها من اللا شيء تصنع الأشياء الكثيرة، فمنها من يساهم في التنمية الثقافية والتعليمية من خلال دروس محو الأمية والتقوية والحملات التوعوية، ومنها من يساهم في التنمية الفلاحية من خلال تأسيس الجمعيات المتعددة الاهتمامات (الحليب، النحل، الزيتون...)، ومنها من يساهم في التنمية الرياضية، والتنمية البيئية (النظافة، محاربة أسباب الحرائق...)، والتنمية الاجتماعية، وغير ذلك. المشاركة/الإسهام: بمجرد ما سوف ينتشر الوعي بثقافة التنمية، باعتبارها المخرج الناجع لواقعنا المتردي، من شتى المعضلات والمآزق التي يتخبط فيها، ثم يدرك الكل أن تنمية المجتمع، إنما هي مسؤولية الجميع، سلطة ومثقفين وشعبا، وأن التنمية الحقيقية والمثمرة لا تتم إلا من خلال مؤسسات المجتمع المدني، مما يعني أن كل مواطن ملزم بأن يتطوع بقسط من وقته أو جهده أو ماله، للمساهمة في تنمية المجتمع الذي يحضنه، هكذا فإنه لا محالة سوف تنشأ لدى الأغلبية العظمى من مكونات مجتمعنا قابلية المشاركة العفوية والفورية في مخطط التنمية الحقيقية، الذي لا يرتهن بالسياسات الحكومية التسويفية، ولا بالإملاءات الدولية المعقدة، فلا هو مخطط خماسي ولا سداسي ولا عشري، وإنما يظل مفتوحا على مصراعيه للمستقبل، إذ الجميع يتمتع بحق الإسهام فيه، كل حسب طاقته، وكل انطلاقا من مقامه.الإحساس بالمواطنة: إن ثقافة التنمية كما هي مطروحة في العناصر السالفة الذكر، تجعل الإنسان أكثر تعلقا بوطنه، ليس على المستوى الشكلي والرمزي فحسب، وإنما أيضا على صعيد العمل والعطاء والإسهام.إن مفهوم الوطن عادة ما يقصد به الانتماء إلى المكان الذي هو مسقط رأس الإنسان، أما مفهوم المواطنة فهو يضيف إلى ذلك الانتماء الشعور بالتعلق النفسي بالوطن وبمختلف مكوناته التاريخية والثقافية واللغوية والاجتماعية، أكثر من غيره من الأماكن. غير أن هذا المفهوم يهيمن عليه البعد النظري والمعنوي، خصوصا وأن أي إنسان يمكن أن يدعي المواطنة أو الوطنية قولا، لكنه على المستوى العملي لا يقدم أي شيء للوطن، لذلك أعتقد شخصيا أن مفهوم المواطنة لا يكتمل إلا بحضور الجانب العملي فيه، بمعنى أن ذلك التعلق بالوطن ينبغي أن يترجم إلى أفعال وإنجازات وتضحيات على صعيد الواقع. ولا يتم ذلك في الغالب الأعم إلا من خلال انخراط المواطنين في مؤسسات المجتمع المدني، وخدمة مختلف قضايا الوطن، ولا يقصد بهذه الخدمة، الخضوع إلى السياسات الرسمية والحكومية، بل وإن مواجهة بعض خروقها، والكفاح ضد جوانبها المنحرفة والفاسدة، يندرج في نطاق المواطنة وخدمة الوطن، لا سيما عندما تكون أهداف المناضلين شريفة؛ غير مؤدلجة، وغير انتهازية، لأنه من خلال ذلك النضال تقدم خدمات جليلة للوطن، في شتى المجالات الحقوقية والثقافية والاجتماعية والتنموية... إن ثقافة التنمية بالصيغة التي ندعو إليها، وهي صيغة مبسطة، وفي متناول جميع شرائح المجتمع وجمعياته ومؤسساته، من شأنها أن تجعل الجميع على وعي تام بأهمية هذه الثقافة، فيدرك المسؤولية المنوطة به، فيتذوق عسيلة العمل التطوعي، ويهرع للمشاركة والإسهام، بل وأهم من ذلك كله، يكتشف أنه بهذا النوع من العمل التنموي، يصبح أكثر تعلقا بالمكان، كما الجذور التي تتغذى من التربة، وفي الوقت ذاته تتأصل في عمق الأرض، لتقويها وتمتنها فتجعلها أكثر مواجهة لظواهر التعرية والتصحر! خلاصة القول..حتى لا يظل هذا الكلام حبيس ما هو نظري، وتوضيحا لكل من قد يتساءل عن مدى تنزيل هذه الأفكار على مستوى الواقع، وكيفية تطبيق ثقافة التنمية ميدانيا، أشير إلى أنه يمكن على المستوى المحلي أن نبدأ بالجوانب المتاحة لنا، وقد بدأ بها الكثير من الفاعلين الجمعويين، غير أن هذه البداية تحتاج إلى أمرين، وهما: التوجيه الصحيح، والاستمرارية، لأنه ما أكثر المشاريع والأفكار التي تطرح، غير أنها، إما تتوقف، أو لا تفعل. وهذه الجوانب المتاحة لا تخفى عن أحد من الفاعلين المدنيين والمثقفين والإعلاميين، ورغم أنها تبدو عادية وبسيطة، إلا أن تأثيرها عميق، وتجدر الإشارة في هذه الخلاصة، إلى التنمية التعليمية من خلال تنظيم دروس محو الأمية، ودروس التقوية للتلاميذ الضعاف، ومساعدة التلاميذ الفقراء بالكتب والأدوات المدرسية، وإلى التنمية الرياضية من خلال تنظيم التظاهرات الرياضية المتنوعة، والبحث عن الطاقات الرياضية الواعدة وتوجيهها التوجيه الصحيح، وزرع حب الرياضة من خلال الحملات التطوعية الجماعية، وإلى التنمية البيئية من خلال تعميم ثقافة الحفاظ على البيئة، وتنظيم حملات النظافة، وتخصيص تدريبات لذلك في المدارس والجمعيات والمساجد، وإلى التنمية الاجتماعية من خلال الدعوة إلى التحلي بالأخلاق الحميدة، ونشر ثقافة المعاملة الحسنة، والتربية الصحية، ومحاربة مظاهر العنف المنزلي، وزيارة المستشفيات ودور الأيتام والداخليات، وغير ذلك من أنواع التنمية التي لا يلتفت إليها الكثيرون، ويستخف منها الآخرون الذين يرون أنها لا تمت بصلة إلى ما هو ثقافي، ويتغاضى عنها البعض، الذي يحسب أن التنمية تتعلق بالمشاريع الكبرى التي تتطلب الميزانيات الهائلة والضخمة... في حين أن التنمية الحقيقية هي التي لا تستثمر الإنسان، وإنما تستثمر في الإنسان ومحيطه الطبيعي، من خلال العناية التلقائية المباشرة بمشاكله اليومية، خارج أسوار المساطر القانونية، والمخططات المتنوعة، والميزانيات الضخمة.