يعتبر مدفع رمضان أحد الرموز المرتبطة ارتباطا وثيقا بالشهر الفضيل رمضان . وهو أسلوب يهدف إلى تحديد موعد الإفطار ، وإخبار عامة الصائمين عن هذا الوقت . وقد أصبح تقليدا متبعا في كثير من الأقطار الإسلامية ، يتولى أمره جيوش البلدان الإسلامية بإطلاق قذيفة صوتية عند مغيب الشمس معلنة بذلك انتهاء صوم يوم من أيام شهر رمضان المبارك .

تشير الوقائع التاريخية إلى أن المسلمين في شهر رمضان المبارك ، كانوا في أيام الرسول عليه السلام يأكلون ويشربون من غروب الشمس حتى النوم . وعندما بدأ المسلمون باستخدام الأذان الذي اشتهر بأدائه بلال الحبشي رضي الله عنه ، أصبح أذان المغرب هو الحد الفاصل ما بين الصوم والإفطار .


وعلى مدى التاريخ الإسلامي – ومع اتساع رقعة العالم الإسلامي جراء انتشار الإسلام – كان المسلمون جادين في التفكير لاستحداث وسائل إلى جانب الأذان بغية تحديد موعد الإفطار ، إلى أن ظهر مدفع الإفطار الذي اعتمدوه منذ ظهوره إلى الآن .

وفي هذا الصدد سوف يتناول حديثنا ثلاث حكايات عن مدفع رمضان . وبداية هناك عدة روايات حول أصل هذا المدفع. إلا أن الثابت منها والأكثر موثوقية في هذا الصدد ما ترويه لنا الوقائع التاريخية أن السلطان المملوكي " خوش قدم " حاكم مصر ، كان مولعا بالمدافع . وفي أحد الأيام منذ حوالي خمسة قرون ،  كان يجرب مدفعا أهدي له من أحد ولاته ، وقد صادف تجريبه أول يوم من أيام رمضان عام 865 للهجرة ، وتحديدا عند أذان المغرب ، أي ساعة الإفطار الأمر الذي جعل الناس يظنون أن السلطان قد تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين في مدينة القاهرة إلى أن موعد الإفطار قد حان . سر أهل القاهرة سرورا عظيما ظانين أن السلطان خوش قدم قد تعمد إطلاق هذا المدفع ليشعرهم أن موعد الإفطار قد حان .

وبعد الإفطار خرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم لشكر السلطان على هذه المبادرة الطيبة ، والبدعة الحسنة التي ابتدعها . وعندما رأى السلطان سرور الناس من بدعته ، قرر المضي بإطلاق المدفع كل يوم إذانا بموعد الإفطار . ثم إنه أضاف فيما بعد إطلاق مدفعي السحور والإمساك . وهكذا فإن القاهرة كانت أول مدينة إسلامية ينطلق فيها مدفع رمضان . وهكذا ومنذ ذلك الحين تناقلت هذه البدعة كثير من البلدان الإسلامية .

وثانية هذه الحكايات تخص عاصمة إسلامية ثانية هي بيروت . فقد خصصت الدولة العثمانية أيام كان ابراهيم باشا واليا على بلاد الشام مدفعا في بيروت ، وعينت له " مدفعجيا " مهمته إثبات رؤية هلال رمضان ، وإعلان وقت الإفطار والسحور والإمساك ، وأوقات الصلوات الخمس ، وكذلك ثبوت رؤية هلال عيد الفطر السعيد ، وعيد الأضحى المبارك . كان يتم إطلاق المدفع مساء يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان إذا ثبتت رؤية هلال رضان ، وإلا كان يطلق عصر الثلاثين منه . وكانت تطلق إحدى وعشرون طلقة تبشيرا وإجلالا بقدوم الشهر المبارك . ويشرف على هذا المدفع ميقاتي اشتقت منه عائلة الميقاتي في لبنان .

وأما الحكاية الثالثة فهي من مدينة نابلس . كان الظن أن مدفع رمضان يعود تاريخه إلى العهد الفاطمي ، وقد يكون الأمر كله إضافة عفوية إلى العادات والتقاليد الفاطمية . وحقيقة الأمر أن مدينة نابلس عربية إسلامية سنية المذهب ، إلا أن كثيرا من عاداتها الرمضانية هي فاطمية شيعية . لقد حكم الفاطميون مدينة نابلس ، ومن هنا يمكن القول إن نابلس فاطمية التراث والعادات والتقاليد ، وتحديدا فيما يخص المناسبات الدينية ، ومثالا لا حصرا الإحتفالات في رأس السنة الهجرية ، والمولد النبوي الشريف ، وليلة الخامس عشر من شعبان ، وإحياء ليالي رمضان  " السوق نازل " وغيرها . وأما مدفع رمضان فليس للفاطميين فيه ما يخصهم ، ذلك أن البارود لم يكن معروفا في زمنهم .

وعلى ما أذكر كان مدفع رمضان القديم عثمانيا . وفيما بعد وفي أثناء الإنتداب البريطاني على فلسطين حل محله مدفع آخر من مخلفات الحرب العالمية الثانية كان يستخدمه الجيش البريطاني ، وقد عدل ليستخدم البارود والشرائط بدل القذائف .

يشغل مدفع رمضان مساحة كبيرة من الذاكرة النابلسية ، وصورة رمضان والعيدين لا تكتمل إلا به . كان مدفع رمضان النابلسي تابعا لبلدية نابلس . وقد عينت البلدية قيمين عليه لإعداده ولحشوه ودكه وإطلاقه . وهو في العادة يستخدم الشرائط والبارود . إلا أنه وفي أثناء الحكم العسكري الإسرائيلي ، وقبل مجيء السلطة الفلسطينية ، دأبت سلطات الإحتلال على تسليم المسؤول عن إطلاق المدفع ما يلزمه من مادة بارود على شكل أقساط يومية ، وقبل الإفطار بفترة وجيزة على اعتبار أن البارود مادة أمنية .  وعند اندلاع الإنتفاضة الأولى في العام 1987 منعت السلطات العسكرية الإسرائيلة استخدام مادة البارود التي بدونها لا يعمل مدفع رمضان ، فقبع في مخزنه صامتا حزينا .

لقد حزن النابلسيون كبارا وصغارا ، شيوخا ونساء كثيرا على غياب مدفع رمضان من الساحة ، وقد وصف الكثيرون رمضان بلا مدفعه بأنه كئيب حزين . واليوم فإن مدفع رمضان موجود ولكن في مستودعات البلدية صامت وحزين ، وكيف لا وهو تاريخ وتراث تناقلته الأجيال من الأبناء عن الآباء عن الأجداد .

وهو أيضا ما زال في الذاكرة الشعبية التي لا تغيب ولا تنطفىء . ولو أن له لسانا لحكى وحكى الكثير من ذكرياته ، ولتباهى أنه كان عنصر بهجة وسرور وفرح للناس كبيرهم قبل صغيرهم . لقد جعل لرمضان والأعياد مذاقا آخر خاصا يتحسر على فقدانه أولئك الذين عايشوه وعاصروه ، وحرما منه جراء ممارسات الإحتلال الإسرائيلي المعادية والقمعية القهرية .

ولو أن له يدا لفتح آلاف ألبومات صور أولئك المعجبين به والذين وقفوا إلى جانبه وتصوروا معه من أهالي نابلس وقراها ومخيماتها ، ومن المدن الفلسطينية الأخرى ، ومن السواح الأجانب .

كانت عملية إطلاق مدفع رمضان لها طقوسها . فقبل حوالي نصف ساعة من إطلاقه يحضر الموظف المسؤول إلى الساحة المتواجد فيها . وقد اعتاد الكثير من الأطفال وحتى الكبار والأهالي أن يتجمعوا في ساحته ، وهناك الذين يقفون خلف شبابيك بيوتهم ليشهدوا عملية الإطلاق التي كانوا يقابلونها بالهتاف والتصفيق والتصفير . وهكذا الحال طوال الشهر الفضيل . وأما عيد الفطر السيعد وفي حال ثبوت رؤية هلاله في مساء التاسع والعشرين من رمضان ، فقد كان المدفع يطلق سبع طلقات ، وإذا لم يثبت يطلق هذه الطلقات عصر يوم الثلاثين منه . وفي صبيحة اليوم الأول من عيد الفطر السعيد كان يطلق سبع طلقات ابتهاجا وترحيبا مبشرا بقدوم العيد السعيد . وكان يطلق طلقة واحدة عند أذان كل موعد صلاة في أيامه الثلاثة . وتتكرر هذه العملية في أيام عيد الأضحى المبارك بدءا بوقفة العيد وفي أربعة أيامه .

لمدفع رمضان ذكريات حميمة لدى أجيال وأجيال عاصرت أيامه ، لا تمحي من الذاكرة . وفي أيامنا الحالية ، ونظرا لترسخ مدفع رمضان في الذاكرة ، أخذت محطات التلفزة في استخدام مدافع إلكترونية ، تطلق طلقاتها عند أذان المغرب . ويظل مدفع رمضان الحقيقي له وقع آخر في نفوس الصائمين .

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية