"عندما ترى الحب فى العيون تتمنى لو مرضت كل يوم.. عندما تسمع عبارات اليقين ممن حولك فكأن بهم يتحدثون لغة عالمية واحدة تقول لك اصبر فهذا رفع للدرجات عند الله" هذه هى الكلمات التى كتبتها د. سامية العمودى عضو هيئة التدريس بكلية الطب والعلوم الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة فى كتابها "اكسرى حاجز الصمت.. قصتى مع سرطان الثدى" عام 2006، تذكرت هذه الكلمات لهذه السيدة التى تعجز كلماتى المعدودة عن سرد السيرة الذاتية الخاصة بهذه السيدة التى كرمت ضمن أشجع عشر نساء على مستوى العالم عام 2007، تذكرت ذلك كله عندما رأيت العيون والحب بداخلها فى سباق الجرى للشفاء الذى أقيم عند سفح الأهرامات السبت الفائت.
شاركت قدر استطاعتى مع من جروا فى السباق، وعدت لأحكى لكم ما جرى، وفى الدنيا من يترفع أن يحكى عما جرى وأن يمسح دموعه فى مناديل غيره، ربما لأن ما جرى يخصه وحده.. وفقط، وربما لأنه وحده أيضاً هو القادر على أن يحول دموعه فى مجرى عيون التفاؤل والإيجابية والرضا.
مشاهد كثيرة فى السباق.. غريبة، نادرة، تجبرك حتماً على التفكير، التأمل، وأحياناً الاندهاش.
فسباق الأهرامات الأخير هذا، مثّل سباقنا فى الدنيا، نقطة بدء ونقطة وصول ثم جوائز أو لاشىء!
الكل يجرى، يحمل بداخله أفكاره، اهتمامته، ملابسه، لغته، معتقده الدينى، عاطفته، تاريخه، لونه، شكله، خبراته، هو وحده ولكنه فى سباق.
أعمار مختلفة، جنسيات شتى، رجال ونساء وأطفال، أصحاء ومرضى، اهتمامات متنوعة،
"خلطة" ومشهد يستحق التأمل، وندر أن تشهده أو تراه.
أسرة هندية، وأخرى مصرية، أسرة أمريكية، وأخرى سنغالية، الكل جاء من أجل الشفاء، الكل جاء لكى يطبطب ويدلع كما تقول د. سامية العمودى، يطبطب ويدلع بسباق لهؤلاء الناجيات، وغيرهن من المريضات، فهذه فى الحقيقة أهم سند ودعم إلى جوار العلاج.
دميانة، وهويدا، واستر، وهديل، وكريمة . بعض من أسماء أبرز الناجيات اللاتى تعافين من المرض، وتعرفت إليهن من خلال السباق، ووجدت الحب لدى هؤلاء، الإنجازات، الحياة كلها، شىء مختلف يجعلك تتساءل من جاء ليطبطب على من؟!
انشغلت قليلاً فى التفكير فى العلاقة بين الحب والمرض، فأزمة المرض تجعل من حولك ينظرون إليك بحب، والمريض نفسه تطغى ذبذبات الحب لديه وتطفو على سطح مشاعره فتتوجها، يغدو أكثر إحساساً بآلام الآخرين وأزماتهم، وأكثر تقديراً للصحة، والعمر، والوقت، يعيد حساباته، يعيد تقييم حياته، إنجازاته، سقطاته، تتبدل معانى كل الأشياء لديه وكأنه ولأول مرة يدرك معنى الحياة وفلسفة الخلق.
نشطاء، ورموز، وباحثون، ومهتمون كثر شاركوا فى الحدث، الذى قبل بدئه بدقائق انتحيت جانباً أتحدث مع الإعلامى علاء بسيونى الذى جاء مشاركاً فى السباق وفى هذه الأثناء، لمحته فتاة ترتدى نقاباً وعباءة سوداء فسلمت عليه وأخبرته بأنها ارتدت النقاب اليوم لأنه "سنة" وطلبت منه أن يدعو لها بالثبات طالبة كلمات تشجيع واستحسان، ولكن رد فعل علاء كان مفاجئاً لها إذ تحدث معها عن الأمر قائلا سأهنئك عندما تتلمسين خطى أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم فهذه هى الأهم!
لم يكن الإعلامى قاسياً وإنما كان فاهماً لما ينبغى أن يكون، وما ينبغى أن نوجه إليه الإرادات ونتحدى.. لم يكن قاسياً وإن كان، فأحيانا تكون قسوة من يطلب منه النصح مهمة لكى يفيق طالب النصح، ويتعلم.
الفتاة التى طأطأت رأسها وقالت له شكراً وانصرفت، هى نموذج لم أكن أعتقد أنه ما زال موجودا حتى اللحظة، لا لشىء إلا لأننى عاصرت فترة الثمانينات والتسعينات التى كان فيها الشباب من الجنسين متعطشاً للدين، ظنه حجابا ونقابا ففعل، ظنه لحية وجلبابا قصيرا ففعل، ظنه، وظنه، وظنه، وفعل، بحسن نية ولكن بلا عقل ولا ترتيب للأولويات ولا فهم حقيقى ولا أى شىء.
الحقيقة أننى اندهشت للفتاة التى كانت تتحدث وكأنها أنجزت شيئاً عظيماً، سعدت بحماستها وبراءتها وإرادتها، ولكننى حزنت لأن ذلك كله وجهته لكى ترتدى النقاب، وددت لو قابلتها بعد حديثه لكى أقول لها ارتدى ما شئت، ولكن هذا هو الهامش، ضعى شأنه جانباً وانتبهى لما هو أهم، وأكبر.
ليس لدى اعتراض على النقاب ولا على من يفضلن ارتداؤه، ولكنه يبقي رداء، والرداء هو الهامش وليس الحياة وليس الدين، كنا قديما نقول أن أمتنا بحاجة إلى سنوات ضوئية لكى تصبح فى مصاف الأمم المتقدمة، والآن نقول أن أمتنا قد سبقتها الصين التى تعبد بوذا، فهل سنظل هكذا أسري التواضع فى الفوز فى السباق، نرضي بالقليل والمكانة المتأخرة؟!
هل بعد هذا كله تعتبرون النقاب انجازاً فى السباق؟!
ألم أقل لكم إن مشاهد هذا السباق كانت غريبة، نادرة، تدعو للتأمل، وأحياناً الدهشة؟!
إنها مشاهد الحياة.