لم تستطع كل مهرجانات الدعاية الإعلامية ، في شرق الأرض وغربها أن تحملني على الخوض في موضوع "عيد الحب" هذا القادم إلينا خلال أيام ، والذي لايخرج عن كونه مظاهرة اقتصادية ، اخترعتها المراكز التجارية الكبرى لترويج البضائع بعد انقضاء موسم "رخص رأس السنة وأعياد الميلاد" ، ليستمر المستهلك في مزاولة العادة الأجمل لدى التجار وهي الإنفاق والإنفاق والإنفاق ، موسما وراء موسم ، وعيدا بعد عيد ، ومناسبة بعد مناسبة .
طلبت مني احدى الباحثات في مقارنة اللغات في مدريد أن أساعدها في بحث تعده حول المقارنة بين المجازات المستعملة في موضوع الحب في الشعر الغنائي المعاصر بين اللغة العربية واللغة الانكليزية ، واعتذرت إلي أنني قد أجد الموضوع من التفاهة والسخافة بمكان قد اعتذر فيه بدوري عن مساعدتها !، لكنني لم أجد في هذا الموضوع أي سفاهة ولاتفاهة ، بل لقد وجدته من أهم الموضوعات التي مرت علي وأثارت اهتمامي ، وذلك لما له من علاقة وثيقة بطبيعة تفكير أمة من الأمم ، وبناء مشاعر مجموعة من الناس ، وقد وجدت في هذا الأمر فرصة سانحة للكتابة في موضوع "الحب" الذي كنت قد رغبت قبل سنوات إلى مسؤولة في احد المواقع الالكترونية ، أن أفتتح به زاوية ثابتة تحت عنوان "مساحة صغيرة للحب" ، لكن تلك السيدة التي كانت قد طلبت إلي الكتابة في موقعها "المحترم" ، لم تحترم رغبتي تلك ، بل لقد صدمها ذلك الطلب المريب ، فهي تريدني أن أكتب عن المرأة المسلمة !!، وكأن قضية كهذه لاتخص المرأة المسلمة ، وكأن الحديث عن المرأة المسلمة ينحصر وفقط في أربعة أمورلاخامس لها : طاعة الزوج وحسن تبعله – وانظر تبعله هذه في هذا الموقع!- ، وتربية الأولاد – وفي الاسلام فقط!- ، وفنون الطبخ – باعتباره أقصر طريق لقلب الرجل!- ، وفقه الحيض والنفاس ! ، المرأة المسكينة في بلادنا من وجهة نظر أصحاب الدين ومثلهم أصحاب التقاليد والعادات ،لايرغب أحد في اعتبارها إنسانا ، ولا يريد أحد أن يعترف أن لديها قلبا ، ولايسمح لأحد بأن يتعامل معها إلا من خلال الوظيفتين الرئيسيتين التي أناطها الفقهاء بالنساء ، واللتين ماأنزل الله فيهما نصا ، بل إن النص الوحيد الذي يختص علاقة المرأة والرجل في القرآن الكريم ، كان قد جاء بكلمتين فاصلتين في هذه القضية وهما " المودة والرحمة" ، أو وبتعبير آخر "الاحترام والحب" .
ذلك البحث أثار في نفسي الكثير من الهموم التي يمكن طرحها على الساحة الفكرية "الناطقة بالعربية اليوم " ، فمن جهة نحن نعاني من مشكلة معاصرة فيم يتعلق بهذا الموضوع بالغ الخطورة ، بالغ الخطورة لما له من انعكاسات مصيرية في حياة شبابنا وشاباتنا ، وفيم يتعلق بعلاقات الأزواج والزوجات ، وفيم يتعلق بما نسميه السلام الداخلي في حياة الأسرة في المنطقة العربية وفي المهاجر ، ونحن نحتاج في هذا المجال إلى بذل جهود جبارة لوضع كثير من النقاط على كثير من الحروف في هذه القضية بالذات .
ومن جهة ثانية وفيم يتعلق بموضوع البحث مباشرة فإن المجازات المستعملة في لغة من اللغات تدل بما لايقبل الشك على طريقة فهم وإدراك وتفكير ووعي شعب من الشعوب لتلك المعاني التي حامت حولها تلك المجازات . والمقارنة بين هذه الدلالات أو المجازات المستعملة في لغة ما ولغة أخرى يعطينا حقولا واسعة جدا من الاطلاع على آفاق التفكير والسلوك لدى الشعوب التي تتكلم هذه اللغات ، باعتبار الثقافة مجموعة المكونات الفكرية والسلوكية واللغوية التي يتعاطاها شعب من الشعوب للتعبير عن نفسه ، وتبقى الاستعمالات اللغوية أداة لاتخطيء في فهم الوضع الثقافي العام لمجموعة بشرية معينة ، وارتباط هذه الثقافة بأسس الحضارة التي تستند إليها أم انشقاقها عنها.
هذه المقارنة على كل حال تعتبر من أنجع الوسائل المعاصرة لفهم قدرة ثقافة ما على تلبية الحاجات الانسانية الحضارية لشعب من الشعوب ، وتخدم بصورة أساسية العاملين – من أمثالنا- على التنقيب في تلك الثقافات لتجديد الوعي بالحضارات التي تستمد منها وجودها ، وبقدر بعد الثقافة عن الحضارة نستطيع أن نحكم على قدرة تلك الثقافة على الصمود !، والأمر في غاية الخطورة والأهمية عندما يتعلق بالثقافتين الانكليزية والعربية ، أو على وجه الدقة الثقافة السائدة في انكلترا اليوم ومستعمراتها العسكرية السابقة ومستعمراتها الثقافية الحديثة ، والثقافة السائدة في المنطقة التي تعتبر حكوماتها و شعوبها على اختلاف مشاربها اللغة العربية لغة رسمية للبلاد.
لقد كان من وجهة نظري اختيار " المجازات المتعلقة بكلمة الحب " في الأغنية المعاصرة ، اختيارا موفقا لدراسة وضع تلك المجازات بين اللغتين العربية والانكليزية ، في وقت نحن فيه بأمس الحاجة لاجراء تلك المقارنة بين ثقافتين تتبادلا الأدوار في غزو بعضهما بعضا اليوم عن طريق الثقافة والدين . فالأغنية الشعبية المعاصرة أداة بالغة الخطورة في نقل الثقافة ، وثانيا موضوع الحب موضوع عميق وخطير جدا في أي ثقافة معاصرة بدلالاته اللغوية والفكرية والانسانية ، ومايعكسه من طرق تفكير الناس في مجموعة بشرية ، وثالثا ليس مثل موضوع الحب وموضوع الأغنية الشعبية مجالا لسبر متاهات ثقافة أمة من الأمم ، وفهم قيمة الإنسان فيها ، وكيف يتعامل الناس فيم بينهم من خلال هذه الثقافة ، وهل تصلح هذه الثقافة للتصدير ، أم أنها تختنق في قاذوراتها وبعدها عن منابع الحضارة الإنسانية التي تشيع بين البشر الخير والجمال والتفاهم ، بدلا من أن تجعلهم يغرقون في مستنقعات الكراهية والبغضاء والرفض والعنف ، لاأتحدث عن كراهية ورفض الآخر ، واستعمال العنف كلغة وحيدة للتعامل معه ، ولكنني أتحدث عن معاملتنا بعضنا بعضا ، في بيوتنا ومساجدنا وأنديتنا ومجتمعاتنا ، فمن هنا أوتينا ومن هنا يجب أن نبدأ .