لماذا ارتبطت كلمة "الحب" في الثقافة العربية المعاصرة ، وبشكل خاص في لغتها الشعرية الغنائية بمعاني الحرب والمستحيل والعذاب والنار ؟! سؤال طرَحَتْه عليَّ الباحثة "غ. خير الله " مرفقة إياه بجدول من الاحصائيات المهمة على بساطتها وعدم شمولها ، فلقد وجدت أن لفظة "مستحيل" في مجموعة الأغاني العربية المتداولة اليوم عن الحب والمحبين قد ترددت مايقارب 6%،

بينما نسبة تداول هذه الكلمة في الأغاني التي تتحدث عن الحب في اللغة الانكليزية كان 0 % ، كما  استعملت الأغاني العربية كلمة "نار" بنسبة 8 % بينما انعدم استخدامها في الأغاني الانكليزية التي تمت دراستها ، ولعل أكثر المجازات استعمالا في أغاني الحب العربية كانت تلك المتعلقة بالحرب، ولو أن الباحثة توسعت في البحث لارتفعت لديها نسبة استعمال هذه المجازات الثلاث إلى أضعاف مضاعفة في اللغة العربية الشعرية المعاصرة دون أدنى شك.

ولابد لنا هنا من تبيان بعض المفاهيم : "الميتافورا" ، "المجاز" ، أو " التعبير اللغوي المستعار " هي نوع من "الاسقاط اللغوي" المستعمل بطريقة شاعرية ، يعني كما يقول الأستاذ (زياد الزعبي ) في  كتابه " الترجمة وتوليد المصطلح" : (مصطلح محوري في التفكير البلاغي الأسلوبي ، يدل على محمولات اللفظ الوظيفية ) ، ومنه يمكننا فهم تلك الاستعارات المجازية لكلمة الحب في كل من اللغتين محل الدراسة ومن ثم الثقافتين ، من خلال المقارنة بين بعض الحقول اللغوية- النفسية  التي استعملت فيها.

كيف انتقلت ثقافة الحرب عبر العصور بألفاظها الثقيلة إلى لغة الحب ، يتساءل "عبد الله السمطي" في موقعه الالكتروني " جسد الثقافة"  وتحت عنوان " المرأة عندما تقتل وتأسر وتجرح، علاقة شعر الحب بشعر الحرب" فيقول : (الأمر المثير المدهش هو أن الشعراء العرب القدامى نقلوا الأجواء الحربية إلى قصيدة الغزل، وقصيدة الحب ، وأعطوا المرأة التي يقدرون جمالها، ومكانتها، وأحيانا قداستها، أوصافا حربية، فهي: تقتل، وتجرح، وتأسر، وأهدابها كالسيوف أو الرماح، وعيونها قتالة الهوى، والعاشق هو: القتيل، والمجروح، والأسير، وهو القتيل الذي لا دية له. هذا المعجم الحربي لماذا أصبح هو المعجم المهيمن على شعر الغزل العربي حتى اليوم، ولماذا انتقل حتى للأغنية المكتوبة بالعامية اليوم، حين يغني مطرب ما مثلا:" جراحة عيونك جراحة" أو " جرحوني عيونه يابا" فيربط بين فتنة العينين والجرح، أو كما نرى في نماذج غنائية كثيرة في القصائد المغناة، عند فيروز مثلا:" يا عاقد الحاجبين. إن كنت تقصد قتلي . قتلتني مرتين" ، لماذا استوطنت قصيدة الحرب قصيدة الحب؟ وما دلالة ذلك؟) . وأقول : إن دلالة هذا الأمر بالغة البساطة والعمق في آن واحد في الثقافة العربية ، إذا نحن فهمنا أن موضوع الحب ودائما ارتبط في هذه الثقافة بموضوع الشرف والحفاظ عليه ، بل إنه يراوح بين مفهوم الشرف ومفهوم العفة التي قد تصل أحيانا إلى درجة تشبه الرهبانية في الثقافة الغربية ، ويقول العرب " إذا نكح الحب فسد"  ، شعور المحب بالتمزق بين ثقافته ومشاعره يجعله كالمحارب الذي يحارب نفسه في اشتياقها للحبيب من جهة ، ويحارب المجتمع للوصول الى الحبيب من جهة ثانية ، ويحارب نفس هذه الثقافة التي تفرض عليه طقوسا غير إنسانية ، بالضبط كما هو الحال في مفهوم الرهبنة وتطهير الجسد لدى الثقافات الغربية والتي اتصلت بالدين وانفصلت في المجتمع!، وقد اعتاد العرب في الجاهلية – ومازالوا - حرمان المحبين من الزواج إلى درجة أن يموت بعض المحبين شوقا ، وماذلك إلا ليثبتوا لمجتمعهم "القبلي " أن فتاتهم طاهرة شريفة في ذلك الحين ،أما اليوم فإن أسباب منع المحب من الزواج بمن يحب يعود لأسباب تتعلق بشعور الوالدين بامتلاك الولد والسيطرة على حياته ومماته ومقدرات أموره ، بحيث لايريدون لقلبه أن يتعلق إلا بمن يختارونه هم ، ولايريدون لنفسه أن تصبو إلا لمن رضيتها له الأم والاخت والأب ، حتى لو لم يكن يحبها أو يرضاها أو يتفاهم معها !، ومثل ذلك يقال عن البنت ، ولانستغرب مع هذا الوضع الشاذ المنتشر عُرفا في بلادنا أن ينتشر معه عدم التفاهم الزوجي ، ونفور الأزواج من بعضهم البعض ، وحال عدم الرضى الزوجية السائدة .

من هنا نشأ مجاز "الحب المستحيل" في اللغة العربية والذي لاوجود له ألبتة في الشعر الغنائي الانكليزي " الغربي" المعاصر، لأن الثقافة الانكليزية اليوم لاتعرف حائلا حقيقيا يحول بين المرء ومن يحب حتى لو كان متزوجاً أو متزوجة!!، لاعادات ولاتقاليد ولاأي تدخل من قبل الآخرين في حياة الأفراد ، ولاقيم أخلاقية "جوفاء" ولا قيم اجتماعية " عقيمة" ، ولاأسباب مادية تتعلق بالحياة المعيشية اليومية للأفراد ، استطاع البريطانيون " الغربيون" أن يقضوا على العوائق كلها بخيرها وشرها ، ويتخلصوا من تقاليد المجتمع غير الانسانية التي طالما سببت الآلام لكثيرين وكثيرات -على الطريقة العربية-  كما يدون ذلك الأدب الانكليزي قديما .

لقد ورثت الثقافة العربية المعاصرة كل أدوات الهدم في حياة العشاق من الثقافة الانكليزية " الغربية" الغازية !!: رفعت الحدود بين المحبين ، وقامت التقاليد بمعول هدم في هذه القضية ، إضافة الى حياة مادية صعبة قاهرة تجعل من الحب أمراً مستحيلا في حياة الشباب والشابات في المنطقة العربية – دون أن ننسى أن الزواج هو الطريقة الوحيدة لتواصل المحبين في الحضارة الاسلامية- ، لقد قرنت الثقافة العربية المعاصرة بين أمرين أحدهما من موروثات الجاهلية وهو الحب العذري المستحيل بسبب الطبقية والعنصرية والمادية ، والثاني من موروثات الاستعمار ومااتصل به من شكليات "الزواج المؤبد" و"الطلاق المستحيل" وكلاهما دخيل على حضارة بلاد الاسلام !!، وصار الحب المستحيل تاريخيا ، مستحيل بشكل دائم !، تعبر عن ذلك مئات الأغاني بمئات الاستعمالات اللغوية الشعرية.

إلا أن المفارقة في هذه القضية تأتي من مقارنة هذا الاسقاط "الحربي" على الحب بين الثقافتين ، فبينما توقفت هذه المعاني تماما وتُركت في القرون الوسطى بالنسبة للثقافات الغربية "الانكليزية" ، استمرت  في الثقافة العربية حتى اليوم متجلية في الغالبية العظمى من الأغاني المعروفة في طول المنطقة العربية وعرضها ، بل وتعتبر الأغاني – الفيديو كليب- المعبرة عن "الجنس" بطريقة شبه مباشرة اليوم أغان هابطة لايستمع إليها ولايرددها "الشرفاء"!! ، لكنها وفي الواقع هي الأغاني الأكثر اقبالا من قبل شرائح الشباب اليوم!! مما يعني بدء مرحلة جديدة من التغييرات في الفكر "العربي" المعاصر فيم يتعلق بهذا الموضوع شديد الخطورة .

هذه المفارقة منشؤها اصطلاح الثقافات الغربية المعاصرة مع الغرائز الإنسانية ، والذي بلغ أحيانا حداً مؤلما وقبيحا تجاوز حدود اللياقة الإنسانية ليصبح شهوة حيوانية مفتوحة دون قيد ولاحدّ ، و يعتبر الاستماع إلى بعض الأغاني الغربية " الاسبانية" الحديثة – على سبيل المقارنة- جارحا وخادشا للذوق العام وبطريقة فجة قذرة ، هذه الطريقة في التعبير الغنائي الحديث لاتعتبر اصطلاحا مع الرغبة الانسانية بقدر ماتعتبر "بورنوغرافيا" – استعراض جنسي- مجاني ، إلا أن الأصل الفلسفي لهذه "المصالحة" أن يستطيع الانسان عيش رغباته الإنسانية دون شعور بالذنب ، وهذا هو السبب الرئيس في اختفاء معان "العذاب والمستحيل والنار والحرمان" من قاموس الأغنية الغربية المعاصرة –بشكل نسبي- ، ونجد هذا الأمر مختلفا تماما عنه في الثقافة العربية المعاصرة التي نستقرئها من خلال الأغاني التي تتحدث عن "الحب" ، فحياة المحب في مدّ وجزر من جراء التقلبات التي يعيشها و"الصراع المرير" الذي يحياه بين رغباته الإنسانية وبين توجهات العادات والتقاليد في مجتمعه والتي تكاد تكون صارمة إلى درجة غير إنسانية ، وبين الدين الذي يمنح الإنسان منطقة وسطية بين تحقيق إنسانيته وضبط شهواته، هذا الانفصام هو السبب الرئيس في استمرار لغة الحرب في التعبيرات المجازية التي يستعملها شعراء الأغنية العربية حتى اليوم.
هذه المقارنة -التي لاترتقي بحال إلى درجة التحليل العلمي وإن كانت تحاول الاقتراب منه والحث على البحث في هذا المجال الهام- تلقي بعض الضوء على خلل في مفهومنا عن "الحب" ، كما أن هناك خلل في مفهوم الثقافة الانكليزية " الغربية" عن الحب ، وكلاهما يؤدي إلى معاناة إنسانية كبيرة جدا في المجتمعات " الغربية" كما "العربية" ، حيث يتعلق الأمر في العربية منها بتجريم  وتحريم الحب الذي هو عاطفة إنسانية طبيعية تحرك البشرية بدءًا من كراسي الحكم ، مرورا بالأسواق العالمية ، دون أن ننسى الآداب والفنون والحياة ، "الحياة" التي نحتاج في المنطقة العربية إلى إعادة صياغة عقولنا لنفهمها على حقيقتها ، منحة ومحنة ، هبة وعطاء ومعاناة ، ليقف في حياتنا هذا التشاكس والشقاق بين ديننا وعاداتنا وماتتطلبه إنسانيتنا

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية