استكمالا لما بدأته من الحديث حول الاستعمالات الدلالية في موضوع الحب والمحبين في الشعر الغنائي في الثقافة العربية المعاصرة، نستمر في اكتشاف الكثير من الدلالات النفسية والسلوكية لدينا في هذه القضية الشائكة التي يصعب الخوض فيها. فرغم أن مجال الشعر الغنائي ليس بالمجال «المحترم» في بلادنا، ولكنه في واقع الأمر المجال الأمثل لدراسة طريقة تفكير شعب من الشعوب، ورؤيته للأمور، وفهمه للحياة. ويسمح هذا المجال الذي لا يكاد يقترب منه كثيرون من العاملين في ميادين السياسة والفكر والدين، بالغوص العلمي الحقيقي في فكر شعب من الشعوب،


والبحث عن جذور الألفاظ والمعاني التي يستعملها هذا الشعب في ثقافته، كما يمكننا الكشف من خلال ذلك عن أصول السلوكيات المتبعة في هذا المجتمع أو ذاك، لنكتشف حقولا واسعة للعمل اللازم للتنقيب والتشذيب والاستصلاح والحرث والري والزرع، تماما كما يفعل الفلاح النشيط مع الأرض الكريمة.
مشكلة المجتمعات في المنطقة العربية لا تتعلق بجدب وقحل أو قصور في النفس البشرية، ولكن بالعجز الكامل عن إعادة القراءة، وإعادة الصياغة، وإعادة النظر في العملية التربوية، وإعادة تشكيل العقول، وهذا عنوان مبدع لكتاب للدكتور العراقي عماد الدين خليل (إعادة تشكيل العقل المسلم) بعض الكتب تكفيك منها عناوينها! وهذا الكتاب من هذا النوع، نحن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة تشكيل وتركيب عقولنا ونظريات التربية في بلادنا ونظرتنا إلى الحياة والإنسان.
لا يمكن للإنسان أن يحيا دون «حب». أرعبني وأصابني بزلزلة استفتاء أجرته إحدى الباحثات الكويتيات عرضته في برنامج الأستاذة حنان القطان في قناة الرسالة، قالت فيه إن %70 من الفتيات المراهقات ذكرن في هذا الاستفتاء أن مرادف كلمة «أم» في أذهانهن هو كلمة «الوحش»، أو كلمة «القسوة»، أو كلمة «الاستبداد»!! وبينما كنا نؤدي صلاة التراويح هذا العام في رمضان، فوجئت بإحدى المصليات التي تقف إلى جانبي تندفع نحو ابنها البالغ من العمر خمسة أعوام فتضربه ضربا مبرحا و «تقرصه قرصا» مؤلما وتحمله بعنف متوحش فترميه أرضا وتجلسه مسمراً أمامها، ثم تعود إلى الصلاة وكأنها لم تفعل شيئا لتدخل في حالة من الوجد والتجلي وتسيل دموعها وهي تسمع آي الذكر مرتلا!! ماذا كانت جريمة ذلك الصبي؟ كان يتحرك ذات اليمين وذات الشمال في نصف المتر المربع الذي وقفت أمه تصلي فيه ودون أن ينبس ببنت شفة! فتاة أخرى في الثامنة من عمرها جاءت صلاة التراويح مع أمها في أبهى حلة وزينة احتفالا بهذا المهرجان الرمضاني، فوقفت غير بعيد عن مكان أمها تتحدث إلى صديقاتها الصغيرات وهي تتباهى حسنا ودلالا بثيابها الوطنية المزركشة، فلما علا صوتها ما كان من الوالدة إلا أن قطعت الصلاة وأمسكت بالبُنية أمام الجمع وصفعتها على وجهها ورمتها بين يديها في حركة إجرامية قضت على كبرياء الطفلة وثقتها بنفسها! الصفعة على الوجه تستغرق ثواني، وتنهي المشكلة في دقيقة، وتترك آثارا تدميرية لا تُمحى مدى الحياة! الكلام والحوار في رفق، يتضمن بذل الجهد لمساعدة الآخر على الفهم، ويستغرق صبراً كثيرا، ودأبا يطول سنين كثيرة، ومحاولات مستميتة للتغلب على شهوة الغضب وقهر الولد أو الزوجة وإلغائه وإسكاته، ولكن هذه المحاولات تخرج نبتا مستويا على سوقه يعجب الزراع ويصنع المعجزات على المدى الطويل، وعلى مستوى الإنسان والأسرة والمجتمع والأمم.
كيف يمكننا أن نفهم أن هؤلاء أمهات يحببن أطفالهن؟! ما ماهية هذا الحب الذي لا يتردد في الضرب والرفس والقرص والصفع؟! ولمن؟! لفلذة الأكباد، أو لرفيقة العمر والحياة، أو لخادمة مسكينة تعمل في البيت! هل يمكن للحب أن يعيش مع كل هذا الحجم من العنف؟! وهل هذه هي جذور العلاقة «الآثمة» القائمة في ثقافتنا بين الحب والعنف؟ والتي جرّمها حديث أخرجه البخاري ذكره «نبي أمي» قبل ألف وأربعمائة عام عندما قال: «لا يضرب أحدكم امرأته كالعير، يجلدها أول النهار ثم يضاجعها آخره»! كيف يمكن لنا أن نفهم كل هذا الحجم الهائل من أغاني الحب والعشق والغرام في أمة تفتقر إلى أبسط معاني الإحسان في قضايا الحب والعشق والغرام؟ حب الأم لأبنائها، حب الأب لأولاده وزوجته، حب الإنسان للإنسان، حب الإنسان للطبيعة، حب الرجل للمرأة، هذا الحب الذي جعله الله مودة ورحمة، وجعلناه رفسا وعضا وضربا وامتلاكا واستعبادا للآخر وإلغاءً لوجوده وكرامته الإنسانية.
تُحدثنا الإحصائيات عن واقع مذهل تعيشه المنطقة العربية في هذا الباب، يُعجب الكثيرين منا أن يبرروه بإحصائيات يعيشها الغرب ويعترف بها، إحصائيات مخيفة عن جرائم القتل ضد النساء والتي بلغت جريمة قتل يوميا -على الأقل- قبل عامين في إسبانيا على سبيل المثال، ما جعل من هذا الموضوع لافتة انتخابية إجبارية لدى جميع أحزاب الأمة، ودفع بحملة إعلامية حكومية هائلة للدفاع عن المرأة والعمل على القضاء على شهوة العنف المتأصلة ضد النساء لدى بعض الرجال!
ما الفرق إذن بيننا وبين الغرب في هذا المجال؟ الفرق أن الغرب يُجرم هذه السلوكيات، ونحن نبررها بنصوص القرآن العظيم البريء مما نقول ونفعل. الفرق أن الغرب يدافع عن المرأة المظلومة، ونحن ندافع عن حق الرجل في ظلم المرأة. الفرق أن المجتمع الغربي لا يمتهن المرأة بصورة منظمة مؤطر لها، ونحن نفعل باسم الإسلام، والإسلام من هذا براء. الفرق أن الغرب يحمي النساء المضطهدات بقوة القانون وسلطة الدولة ورجال الأمن، ولا تجد المرأة المظلومة المضطهدة في بلادنا من يحميها أو يؤويها أو ينصرها أو ينظر في أمرها. الفرق أن الغرب يؤمِّن للمرأة المعذبة بين يدي زوجها المأوى والغذاء والكساء والرعاية الاجتماعية والطبية والنفسية، ونحن لانفعل. الفرق أن الغرب لا «يضرّ» والدة بولدها ولا ينتزعه منها ويعتبر الأمومة حقا مقدسا لا ينبغي أن تؤذى المرأة من خلاله، بينما يقوم المجتمع والأسرة في بلادنا بانتزاع الأطفال من أمهاتهن بنص قانون وضعه الاستعمار في بلادنا وليس له أصل في الشرع ولا العقل ولا المنطق، ويقدم حق الأبوة في بلادنا على حق الأمومة، الذي نص المُشرع على أنه يفوق حق الأبوة بثلاثة أضعاف، ولكن ليس هناك من يستمع أو يفقه أو يرحم! الفرق بيننا وبين الغرب أن الغرب لا يمكنه أن يفقه أن الحب يعني الإذلال والامتهان، وأنه لا المجتمع ولا الدولة ولا القضاء يمكنه أن يقبل بسوء معاملة الناس حتى لو قام بعض الأفراد بذلك، فرق كبير بين أن يعرف المجتمع الحق ويلتزمه حتى لو انتهك البعض هذا الحق، وبين أن يؤطر المجتمع للظلم ولانتهاك الحقوق بل ويبرره ويجرم البعض ممن يرفعون أصواتهم للدفاع عن هذه الحقوق!
عن أي حب نتكلم ولأي حبيب نغني؟! «حب إيه اللي انت جاي تقول عليه.. إنت عارف أبله معنى الحب إيه»؟!! إنها سلسلة متصلة من سوء المعاملة تبدأ من المهد إلى اللحد، حياة لا حب فيها ولا مودة ولا احترام ولا أمل، الزوج يمتهن المرأة ويعجز أن يعيش معها معاني حب إنساني سامٍ راق يحترمها فيه ويكرمها ولا يهينها. والأم الممتهنة المجروحة بدورها تعامل الأولاد بنفس القسوة والإهانة. والأولاد يعاملون بعضهم بعضا بالطريقة ذاتها. أُسرٌ لا تعرف الحب ولا الحنان ولا العطف، وبالتالي ينتفي فيها الاحترام والإكرام والأمان، بينما قنواتنا الإعلامية تصدح ليل نهار بأغاني الحب والعشق والغرام، ويعيش مراهقونا حياة بوهيمية خيالية ويسبَحون في بحار عشق رومانسي يتطلعون عبر أمواجها إلى حبيب خيالي غير مخلوق من لحم ودم، جنّيات بحر نصفها سمكة يمكن أن تشوى أو تقلى مع البصل والثوم والبهارات!! ونصفها الآخر حورية من حوريات الجنة أرسلها الخالق هدية مسبقة لعباده الصالحين ممن لا يمتلكون من مؤهلات الرجولة غير صبغيات تؤكد انتماءهم إلى هذا الجنس من الخلق!! وأمراء ذوو دماء زرقاء يتراقصون على أوتار الألحان ويتمايلون تمايل العذارى في أخدارها، يسلبون ألباب فتيات ضائعات مضيعات ينتظرن فرسانهن على أبواب المحلات التجارية، وربما على أبواب بعض المساجد الجامعة التي بنيت بأموال الملايين من الذين بقوا دون «شغلة ولا عمل» إلا ارتياد هذه الأماكن لاصطياد القلوب! في أمة لا تسمح بالتقاء القلوب التقاء مشروعا طيبا مباركا ميسرا مسهلا!!
لا تلوموا القلم الذي يسطر لكم شيئا عن الواقع القبيح الذي نحياه، ولكن انظروا في مرآة الواقع من حولكم، حيث لا حاجة لنا إلى الاطلاع على الإحصائيات المخزية المخجلة عن أوضاع العلاقات بين الرجال والنساء في بلادنا، لعلنا ننسى ولو قليلا الحديث عن الغرب ونستحي من الله والتاريخ ونبحث في أعطافنا عن الخلل الذي أدى بنا إلى كل هذا الحجم من المعاناة، بينما «نانسي عجرم» معبودة الجماهير تتنطط في فضائياتنا وقلوب شبابنا وشاباتنا، تقدم لهم الصورة بالمقلوب، صورة عروس البحر «المستحيلة» التي صنعها الإعلام باسم «الحب» لتضفي على حياتنا بعضا من السكر الذي اعتدنا أن نرشه على الموت، ونمشي ملتصقين بالحائط ونقول.... يااارب: السترة.. السترة!
-يتبع-

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية