كلا، "الموبايل" ليست لفظة تسللت إلى مفرداتنا اليومية، بل نحن من أدخلها من باب كبار الزوّار وفرش لها السجاد الأحمر، وحتى لو صدقنا الفرضية القائلة أنها "تسللت"، هل لدينا حَكَم يجرؤ أن يلتقم صفارته ويطردها من ملعب منطوقاتنا اليومية؟!
إذا كنا نظن أن معضلاتنا اللغوية هي معضلات تعريب، فنحن حتما بعيدون عن الصواب، وإذا كنا نظن أن مَجْمَع اللغة العربية -على علاّته وقلة فاعليته- هو السبب، وأن "نفضة" قوية لأركانه كفيلة بحل مشاكلنا كما حل مارد المصباح العجيب مشكلات علاء الدين، فنحن حتما واهمون!
فأنا للأسف -وكثيرون مثلي- لازلت أستخدم كلمة "تِلِفون" للدلالة على الهاتف الأرضي رغم أن كلمة هاتف كلمة ظريفة ورقيقة، وليس فيها أية أحرف صعبة، ولا يمكن التباسها مع شيء آخر إذ لا يوجد شيء آخر نسميه بالاسم ذاته، فلماذا لا أزال مصرة على تسميته بالتلفون؟ صحيح أنني حينما أكتب أكثر أحرص على استخدم هذه الكلمة، لكني في حياتي اليومية ورغم حماسي المطلق للغة العربية، فإني لا أجرؤ أن أسأل أصحاب محل أو مطعم عن رقم "هاتفهم" بل حتما سأقول "تلفونهم" وإلا سيظنون أني خرجت عليهم من إحدى حلقات برنامج "المناهل" الشهير.
وحينما جاء الهاتف النقال إلى وجودنا اليومي، شاعت لدينا في الكويت مثلا كلمة "النقّال"، وفرحت كثيرا شأني شأن غيري بوجود كلمة عربية لتقنية حديثة، صحيح أن اتفاقنا ألا نتفق أخرج لكل مجموعة دول عربية كلمة مختلفة مثل "الجوال" و"الخليوي" و"المحمول"، لكني كنت أرى هذا من باب التنوع المطلوب والمحبوب. صحيح أن هذا التنوع يؤدي إلى سوء الفهم، فالثلاجة لدى اللبنانيين هي مثلا "الفريزر" في حينا أنها لدى معظم العرب تعادل "البراد" لدى اللبنانيين، والبعض أقترح استخدام "الجمّادة" أو "المجمد" كحل وسط، لكن انتهى الأمر بنا جميعا إلى اعتماد كلمة "فريزر"! وبعض التنوع قد يكون مضحكا حقا، ففي الخليج "الحماة" هي أخت الزوج، فحين أنها في مصر مثلا والشام أم الزوج، ويمكنكم أن تتخيلوا رد فعل العربيات وإشفاقهن حين تقول لهم خليجية أنها ذهبت للسوق مع "حمواتها"! وطبعا لا تنسوا أننا في الكويت نسمي الشمَّام بطيخا، في حين أن البطيخ لدى كثير من العرب هو البطيخ الأحمر الذي نسميه بالرَّقِي. واللبنانيون يسمون البرتقال ليمونا، أما الليمون فيسمونه بالحامض.
وفي ليلة حالكة انتبهت أني أقول لزميلة لي "أرجو أن تعطيني رقم موبايلك"! هكذا، ودون خجل أو وجل اكتشفت أني استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير! ترصدت حولي وإذا بي أجد الكثيرين استغنوا عن كلمة "نقال" وصارت كلمة "موبايل" ضمن قاموسهم اليومي.
أليس ما بدر مني ومن غيري أمر جدير بالالتفات والتحليل؟ إذا كان لدينا هذه الثروة من الكلمات التي تدل على الأداة نفسها، لم وجدنا أنفسنا بعد فترة نستعمل الكلمة الأجنبية التي تعوزها في كثير من الأحيان الرشاقة؟ قد يقول البعض أن سوء الترجمة هو السبب، فعندما تقول لأحد أن عليه أن "يحفظ" قصيدة الشاعر فلان، فهل تعني أن يقوم بحفظها عن ظهر قلب، أم أن عليه أن يحفظها على ذاكرة حاسوبه (أو كومبيوتره)، وانتهي بنا المطاف أن نسبك الفعل "يسيّف" لنتخلص من الالتباس. وكذلك الأمر مع الفعل "اطبع"، فعندما يطلب المدير من سكرتيره (وهذه كلمة أجنبية دخلت من صالة كبار الزوار!) أن "يطبع" له خطابا، فهل يريد المدير من السكرتير أن يكتب له الخطاب عبر لوحة الأزرار (typing) أم أنه يريد منه أيضا أن يطبع له نسخة ورقية (printing)، وطبعا كالعادة انتهي به وبغيره المطاف أن يقول للسكرتير "اعمل لي 'برنت' من الخطاب" ليوفر على نفسه مؤونة فك الالتباس. ومثل ذلك الفعل "يصور"، فقد يستخدمه البعض دلاله على التصوير الفوتوغرافي أو على نسخ المستندات (photocopying). طبعا تعدد المعاني للكمة الواحدة وارد جدا في كل اللغات، لكن شاء الله أن تكون هذه الكلمات ذات معان متقاربة جدا، ولم ننجح نحن في سبك كلمات بديلة تفك الاشتباك.
رغم ذلك، أظن أن حالة الاستلاب الثقافي هي السبب الرئيس، فنحن نشعر بأن اللغة العربية أدنى مكانة، وأن المرء لكي يكون "كُول" يجب أن يطعم حديثة اليومي بمفردات أجنبية حتى ولو كان لا يستطيع أن يفرق بين حرفي ال p والـ b، فالمهم أن يبدو عصريا، وهذا كل شيء. حالة الصَغار اللغوي (واعذروني على هذه المصطلحات التثبيطية، لكنه الواقع) هي السبب، وإذا كنا نظن أن المشكلة مشكلة ترجمة، فنحن حتما واهمون. فما أكثر الكلمات المسبوكة والتي لا تجد من يتفضل عليها بالاستخدام ، وهاكم بعضها منها: مربض أو مرآب بدلا من "كاراج"، مُدخرة بدلا من البطارية وهي أصلا كلمة معربة وليست عربية، مِسلاط بدلا من "بروجيكتر"، لاقط الصوت أو لاقط بدلا من كلمة مايكروفون الثقيلة والتي لم نجمع عليها فبعض العرب يقولون "مايكرفون" نقلا عن الإنكليزية، والبعض الآخر يقولون "ميكريفون" نقلا عن الفرنسية، أو حتى "مجفف الشعر" بدلا من كلمة "سشوار" الثقيلة على اللسان والتي تخطئ نسبة من الناس في نطقها بل ويسمونها أحيانا "استشوار"! وغيرها كثير. نعم، قد تبدو الألفاظ مضحكة قليلا، لكن من قال أن كلمة مثل "بطّارية" ليست مضحكة وفجّة إذ تذكر السامع بالبطر وهو التكبر؟!
وإذا شعرتم بالملل من مقالتي الثقيلة وأردتم أن تضحكوا انظروا إلى كلمة "أدميرال" الأجنبية التي أصلها "أمير الرحل"، استوردناها بعد أن تفرنجت رغم أن الأصل لنا وصرنا نستعمل اللفظة الأجنبية. انظروا إلى "كحول" التي أصلها "الكحل" (وأصل التسمية جاء من كون الكحل مادة مركزة أساسية وكذلك هي المشروبات المسكرة التي تسمى بالروحية أحيانا)، أعدنا استيرادها مجددا بالصيغة الأجنبية ذاتها، لكن وحفاظا على ماء الوجه أبقيتها الحاء فيها لتصدح بشيء من عروبتها. واضحكوا أكثر على كلمة "غيتار/جيتار/كيتار" التي لم نتفق على كيفية كتابتها لأننا لا نعلم قط أن الأجانب نقلوها عن الكلمة العربية "قيثار"، التي نقلناها بدورنا عن اليونانيين. الظريف أننا أورثنا الأوربيين كلمة Banan و Banana (المنقولة عن بنان بمعنى الإصبع/ الموز يشبه الإصبع) وصرنا نسميه "موزا" نقلا عن اللغة الهندية. وصرنا نقول "ترسانة" وهي كلمة تركية (ترسخانة) وتناسينا أن المقابل الإنكليزي لها Arsenal مأخوذ عن العربية "دار الصناع". ولا زلنا نفخر بأن كلمة Algebra مأخوذة عن الجبر، فيما نحار في نطق Algorithm (المحوّرة عن اسم الخوارزمي) هل هي لوغاريثمات أم لوغاريتمات أم جوريتمات متناسين أن اسمها الأصلي خوارزميات. آمل ألا يأتي يوم نقول فيه –رسيما- "زيرو" (المنقول عن الكلمة العربية صفر)، لأن حالنا سنكون حينها صفرا على الشمال.
المشهد الثقافي العربي يعوزه التحليل الصحيح، إذ أننا نفترض مثلا أن لدينا مشكلة في القراءة، وهذا غير صحيح، فنحن قوم قارئون نهمون، لكننا نقرأ الفناجين وكتب الطهي والأبراج وروايات "عبير" و"أحلام" و"زهور"، إي أننال نعرف القراءة، لكننا لا نعرف "كيف" نقرأ. وفي السياق ذاته، العربية ودود ولود في واقع قاحل عقور. ونحن قوم لدينا المقدرة على إنتاج العديد من الألفاظ الرشيقة والبليغة لتدل على المنتجات التي تشرئب علينا كل يوم، لكن تعوزنا الروح، وتعوزنا الثقافة، ويعوزنا الوعي كي نستخدمها في حياتنا اليومية دون أن ينفجر أحد في وجهنا ضاحكا من قولنا، أو يرفع حاجبيه متعجبا ويسأل فرحا: "ما شاء الله! متى أسلمت؟ وأين تعلمت اللغة العربية؟"