غاب جمال دور المثقف الحقيقي فى مجتمعه فى ارساء الحرية والعدل عن العزيزة فاطمة ناعوت عندما ظهرت مؤخرا على شاشة قناة الحرة لكى تدافع عن المرأة فإذا بها تشحذ أسلحتها مسمية الحجاب بـ" البتاعة "!
هذا الوصف الذى نعتت به ناعوت الحجاب معبرة به عن انحيازها، ثم اتهامها للإسلام السياسي بأنه وراء الفتنة الطائفية، والردة الحضارية، والعنصرية، ومصادرة الأصوات المعارضة والمخالفة لهم فى الرأى أوقعها فى الفخ نفسه، فكان تهكمها من المحجبات ورفضها للحجاب، بمثابة رفضاً لما يمكن تسميته بالآخر، ومصادرة أفكاره ومبادئه، بل إنها لم تكتفى بذلك كله وإنما تحدثت نيابة عن نساء مصر المحجبات وفى تعميم واضح، قائلة:" هما لبسوه نتيجة ضغط ذكورى، أو مجتمعى، ولكن ليس عن اقتناع ورغبة حقيقية"!
الحقيقة أن كلمات ناعوت كانت صادمة على الأقل بالنسبة لى، فصحيح أننى لم يجمعنى بها نقاش فكرى من قبل، إلا أننى لم أكن أتردد مثلا فى الحرص على الترحيب بناعوت كلما زارت مقر اليوم السابع التى كنت أعمل بها لثلاث سنوات مضت، لم أقل أن ناعوتاً غير محجبة، أو أنها علمانية، لم أكن أر نصف كوب ناعوت الذى يبدو لدى البعض فارغا، وربما ملوثاً بآراء وأفكار مستوردة، غريبة، متطرفة، وإنما كنت أرى نصفه الملآن، أرى الكاتبة التى تصر على تشكيل مقالها، وأحب حرصها على الحديث باللغة العربية، وأعجب بل وأتلاقي معها فى أفكار كثيرة لا يختلف حولها بشر، انسان، سوى ، حول العدل ، والحب، والخير، والحرية، والجمال، لم أسمح لنفسي ولو بينى وبين نفسي بأن أقصي ناعوتاً من الحياة والمجتمع لأى اختلاف ظاهر، كالذى بدا واضحاً من طريقة حديثها عن المحجبات، والدين، الذى لا تعرف عن قرآنه سوي أنه حمّال أوجه وبالتالي فلا يصلح لكل مكان وزمان كما يشاع!
لست هنا أيضا لأدافع عن المحجبات، ولا عن الإسلام السياسي، ولا حتى عن الدين، إنما أنا هنا فقط لأنتصر لجمال طالما تحدثت وكتبت عنه ناعوت، ناسية ربما أن هذا الجمال لا يستوى والصدام، وأن القبح ليس قاصرا على صدام بين مسيحي ومسلم، وإنما القبح هو فى أى صدام، بل هو فى صدام الإنسان نفسه مع ذاته، قبل الآخرين، وأن الصدام أى صدام هو ضد الحضارة والنهضة، التى هى من شأن المثقفين، فهم صناّعها لمجتمعاتهم، وهو ما يبدو مثيرا للأسي بعد حديث ناعوت، إذا كان هكذا يفكر المثقفون فى بلادنا.
بعض المثقفين فى بلادنا وهم كثر للأسف يدّعون الموضوعية، ثم - وإذ فجأة - تجدهم قد انتقلوا بقدرة قادر إلى التحيز عند عرض وجهات نظرهم، ثم وبقدرة قادر وبقفزة أسرع ينتقلون بك أيها المخالف إلى الإقصاء والتهميش، ثم وفى تدرج منطقي إلى التهكم والسخرية.. فهل هذا معقول؟ فمتى يكف المثقفون عن صنع الخصومات، والفتن؟ إنهم ينتقدون من يرونهم صانعى الفتن ومشعليها، ولكنك تبحث عن دورهم فلا تجد بناءاً قبل الحريق، ولا اطفاءاً بعده، ففيم دورهم؟ ومتى يأبه المثقف لمسئوليته الإجتماعية؟
ومتى يراجع بعض هؤلاء آراءهم لصالح مجتمعاتهم، وليس وفقا لأجندات مطروحة بتمويلات مشبوهة؟!
انتقدت ناعوت الثنائيات، وأنا معها، لكنها عادت وصنعت ثنائية، الإسلام والعلمانية، المحجبة وغير المحجبة، وما أراه أن هذه ليست متضادات ولا ثنائيات.
أنا هنا أيضا لرفض اختزال المرأة والحديث عنها دائماً فى " الزى "، فمن يسمون أنفسهم بالمثقفين فى بلادنا يفعلون ما يعيبونه على المشايخ، المثقفون أنفسهم يا سيدتي يتواطؤون على المرأة وحريتها وليس الذكر، ولا التفسيرات المتشددة لبعض النصوص الدينية، ولا المجتمع فحسب كما قلت، وإلا فما قولك فى المثقف الذى يكفهر وجهه عندما يتعامل مع مبدعة أو مثقفة محجبة، وما رأيك فيمن يدعى الليبرالية ويترأس تحرير صحيفة ثم يحكم على الصحفيات وفقا للزى، فيقصي المحجبات، أو يطلب منهن خلعه، حتى تنل الواحدة منهن الرضا السامى، والعفو المهنى، والإغداق المادى؟! أليست هذه رجعية واستعباد للمرأة؟!
أليست هذه عنصرية، وأليس هذا متواطئ؟! ألا ينبغى محاكمته وأمثاله من المجرمين انسانياً، وفكرياً، والمشبوهين قيمياً؟! ألا يكرس أمثال هؤلاء للصراع داخل مجتمعاتنا؟!
ألا تتفقين معى أنه لو افترضنا جدلاً أن هناك من تتغطى من النساء ارضاءاّ لتواطؤ ذكورى، ومجتمعى، هناك أيضاً من تتعرى ارضاءاً لهذا التواطؤ نفسه؟!
أنا هنا أيضاً داعية ناعوت العزيزة لكى ترى نصف الكوب الملآن للمحجبات، والدين، أدعو فاطمة.. الإنسان قبل الكاتبة والإعلامية والشاعرة، أن تحرص على حب من يحبها "انسان" داع للجمال، وللعدل، وللحرية، لا مصفقين ينطبق عليهم القول" من أضحكنى وأضحك الناس عليّا"، كما نقول فى أمثالنا العامية، أدعوها لكى تنظر حولها بروحها الشاعرة الشفافة وتسأل أسئلة منطقية، عن مثقفات وأستاذات يملأن الجامعات فى مختلف التخصصات بدأً من الطب والهندسة وصولا للفلسفة والعلوم السياسية، هل هؤلاء جميعهن أصابهن سهم التخلف أو الإسلام السياسي، أو السلفي، إلخ هذه المسميات.. فارتدين الحجاب؟ لن أسألك عن العوام من النساء ولا الشابات، ولكن أسألك عن هؤلاء وغيرهن الكثيرات، وليس فى مصر فحسب، وليس فى بلاد العرب فحسب، فالحجاب يا سيدتى قرار وعلى المخالف احترام القرار.
أدعو ناعوت لأن تنظر إلى شخصية المرأة ، ودورها الحضارى، والقيمي، والعلمى، والفكرى، أن تنظر إلى عقلها لا حجابها، لما فى ذلك من احترام للإرادة، والتعددية، والتنوع، والحرية الشخصية، أدعوها للتعاون على الارتقاء بهذه العقلية بعيدا عن الزى، وأدعوها أخيرا للحرص على" المشترك" والمشتركات كثيرة ورفيعة وسامية، فما قيل سيدتى ينافى الحرية، وحقوق المواطنة، يلغى جزءا مهما من صورة الوطن وفسيفسائه المستعصية على الحداثة، ما قيل وأسماه البعض دفاعاً عن المرأة كان إهانة.. وللملايين من النساء والرجال أيضاً الذين شاهدوك أو جانبهم الحظ، أما أنا فقد حالفنى الحظ، الذى كنت أرجو أن يكون سعيدا.