{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}
لقد جاء هذا الدين ، دين محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، نور الهدى والحق ، نور أضاء الكون وأنار الدروب لكل مهتد وعابد ، لكل قائم وساجد ، وانتشر الإسلام بفضل الله في بقاع الأرض ، وملأ رحابها بالذكر ، وسما بالمؤمنين إلى القمم ، فالحمد لله على نعمة الإسلام ، في كل زمان ومكان.
إن المتمعن في مقومات هذا الدين ، وأسس بناءه السليم يجد ثوابت وقيم راسخة ، ومميزات فريدة سمت بالإسلام للأعالي ، وجمعت القاصي والداني ، فوحّد العرب بعد حروب سنين ، ودام السلام بعد حين ، وبدأت حشود المسلمين تزداد بعد أن أيقن العرب قديماً أن أسس الدين الإسلامي قائمة على ثوابت صحيحة ( اعتدال ووسطيّة ) ، بعد أن كانت تجمعهم وحدة اللغة والثقافة والمصالح والتاريخ ، إلا أنهم كانوا مع كل هذه المقومات الاجتماعية والثقافية في صراع دائم ، ولحام قائم على مرّ العصور ، وهي ما يسميه " محمد قطب " في كتابه واقعنا المعاصر ( علم الاجتماع الجاهلي ) .
لقد تمثلت وحدة قبائل العرب في لغتهم العربية الفصيحة وثقافتهم وعاداتهم ومصالحهم التجارية المشتركة، وأدبها العربي وشعرها المحكم ، إلا أن هذه المقومات مجتمعةً لم تتمكن من خلق رابط قوي وقاسم مشترك بين هذه القبائل ، وبقيت في غياهب ظلماتها تائهة تارة ، وحائرة تارةً أخرى إلى أن جاء الإسلام بقيمه ومبادئه ، فوحّد الجماعات على اختلاف عرقها ولونها ، وتباعد أرضها وأوطانها ، وبنى القاعدة الأساسية لحكمهم ورسّخ الثوابت الصحيحة والقويمة في نفوسهم ، وسما بأرواحهم ، فتجمعت القلوب على طاعة الرحمن وارتفعت الأيادي لشكر المنان .
{ كنتم خير أمّة أخرجت للناس ...}
فالإسلام وقوة هذا الدين تكمن في أبنائه وشبابه ، في رجالاته وقادته ، فلا بدّ إذن أن تكون البشريّة المسلمة ذات وعي وعلم ومعرفة بأمور دينها ، محكمة الصّلة بربها ، متمسكة بمبادئ عقيدتها ، كي نتمكن من الرّقي بأنفسنا والتفرّد بين هذا العوالم !! ، فالجيل الإسلامي لا يأتي من فراغ ولا ينشأ نشأة سليمة بدون عمل لذا وجب على الحكام وولاة الأمر توجيه دفّة المركب في بحر الاستقامة والطاعة والعبادة ، ووجب على الأسر الإسلاميّة أيضاَ تربية شبابها القادمين تربية سليمة ، خالية من شوائب الغرب وزيف الثقافات الأجنبية الدخيلة ، بل نملأ عقول أطفالنا وشبابنا بآيات الكتاب المبين وتدبّر آياته وتفهّم معانيه لنجني خير علم وأطهر عقول .
إن الفكر الإسلامي باعتداله ووسطيّته جاء ليرفع المثل العليا لدى الإنسان فيسمو بروحه وحاجاته ورغباته الروحانية دون الغلو في ذلك ، بل بالموازنة مع واقعه ، فلا هو أهمل رغباته المتعلّقة بالروح كالواقعيّة ولا أهمل واجباته ووظائفه ومتطلبات حياته وأهمية الحواسّ في ذلك كالمثالية ، فجاء الإسلام بين هذه وتلك موازناًُ بينها متمما لكلّ منها ، فنتجت ثمرة هذا التوازن وذلك الاعتدال شخصيّات إسلامية متفردة كما ارتآها نبيّ الهدى محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وفي كتابه الآنف الذكر يقول " محمد قطب " : ماذا يفعل القرآن في النفوس ؟؟ هل يغيّر خامتها فيخرجها من بشريّتها لتكون خلقاً آخر ؟؟ كلا، فقد نزل للبشر لا ليبدّل فطرتهم، بل ليعيدهم إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها يوم خلق الإنسان في أحسن تقويم " فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .
وقد أورد " محمد قطب " في صفحات كتابه صورة فنيّة جميلة فقال عن قرآننا العظيم ; " أنه يتخلل النفوس البشريّة فيعيد ترتيب ذرّاتها ، فتصبح قوى كونيّة وطاقات بعد أن كانت مبعثرةً من قبل ، ضائعةً في التيه " .
لقد كانت مدرسة محمد ابن عبد الله أقوى وأعظم من مدارس الفلسفة لأفلاطون وأرسطو وسقراط فخرّجت أجيالاً مؤمنة عظيمة وشباباً أبطال ، فكان الفكر الإسلامي والعقيدة المحمّديّة أسمى من كل المبادئ والقيم العالميّة ، فنحن إذ كنا هنا في صدد المقارنة بين فلسفة المثال والواقع ، وأفكار ومبادئ ديننا الحنيف نجد أن المثاليّة أعلت من شأن الروح والمثال ، واعتمدت في بناء أسس التربية على السمو بالخيال وإثارة العقل دون أن يعمد الإنسان إلى التجربة والحواس كما هو الحال في الفلسفة الواقعيّة ، والذي يرى رائدها أرسطو أن العناية بالحواس أهم من التركيز على الخيال والتأمل الذي ارتآه أفلاطون مثل أستاذه سقراط وكانت فحوى هذه الفلسفة تتجسّد في أن الفضائل والقيم وأسس التربية السليمة يجب أن تعتني بالتأمل والخيال لا على الحواس والواقع أو التفكير التجريدي ، أما الإسلام فقد وازن بين الروح والجسد ورأى أن طبيعة الإنسان قائمة على الثنائية بين كل منهما ، فكان سموّاً روحيّاً وجسديّاً في آن واحد ، فكان هذا التوازن أساس المعرفة وأسلم طريق للحصول على العلم والبحث فيه .
إن الناظر في صفحات التاريخ يرى أن قيادة الإسلام للشعوب فريدة من نوعها وكان مفتاح تلك القلوب البشريّة " لا إله إلا الله "، فأرشدت الإنسانية إلى خيرها، فوجد بها – علم الاجتماع الجاهلي الآنف ذكره ضالّته فالألوهيّة جاءت لتكون علماً قائما بحد ذاته .