تعاني الأمة الاسلامية في عصرها الحافل بالرزايا والنكسات والمنغمس في لجج الهزائم والنكبات من فوضى عامة عارمة تجتاح حياتها فرادى وجماعات حتي غدت السمة المميزة لها بين الامم شرقا وغربا، فالفوضى تتسيد صناعة قرارها وتصبغ نمط سلوكها على صعد شتى: فوضى في ترتيب الاولويات وفقه المصالح والمفاسد، وفوضى في مناهج التربية والتعليم، وفوضى في شؤون الحكم والسياسة وفوضى ادارة الاقتصاد والثروات، ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة للافراد فالفوضى تضرب بجرانها على دقائق مجريات حياتهم وتتدحرج بسلاسة على خرائط اهدافهم مجهضة احلامهم الوردية البرئية، لتنتج اشأم مولودين في الوجود: يأس مطبق يأخذ بكظام الانفاس واحباط يعشش في حنايا الفؤاد! ومن المفجع حقا في هذه الحقبة المرة ان يكون الامر الوحيد المتحرر من سلطان الفوضى والقادر على السير في نظام منضبط مطرد ووفق ترتيب محكم لا يتخلف ولا يتبدل هو الفوضى ذاتها!!
ويهل شهر رمضان المعظم في كل عام على امة الاسلام وقد حمل اليها بشائر الخيرات من الرحمات والبركات وفي جعبته من العظات النافعة والدروس الجامعة الكثير الطيب الذي يغفل عنه المسلمون، يحل رمضان ليعلم المسلمين - فيما يعلمهم - معنى النظام والانتظام، ويدربهم شهرا كاملا على فقه الانضباط وتمثله قولا وفعلا، فيروض النفس الشموس الجموح لتتحكم في شهواتها المباحة وفق نظام دقيق، ومنذ لحظة قدومه الاولى تتجلى النظامية في تحري الهلال واحصاء عدة شعبان وتأمل منازل القمر وتباين مطالعه بحسب الاقاليم، ومع الليلة الاولى منه يخلع الناس لباس الفوضى مكتسين حلة الانضباط، فيستيقظون مبكرين قبيل صلاة الفجر لتناول طعمة السحور استعدادا للصيام، والاستعداد السابق للشروع في العمل يمثل الاجراء النظامي الاول دوما، ومن ثم تنطلق عجلة جديدة للحياة تختلف عن يومها السابق جملة وتفصيلا، ويستشعر الصائمون قيمة الوقت مع تطاول النهار واقتراب موعد الافطار، وللوقت مكانه الركين من فلسفة النظام، فحين تؤسس خطط وتوضع مشاريع تغفل منها التواريخ والمواعيد فان مصيرها الاخفاق والخيبة, وحين يصدع اذان المغرب تتجلى الروح النظامية في ازهى صورها حينما يشترك المسلمون في الوقت نفسه في الانتقال من فترة الحظر الى فسحة الاباحة بل ربما كان المظهر الاكثر وضوحا وجلاء في هذا المشهد الجليل ان يفتتح الناس افطارهم بصنف واحد: تميرات يتناولونها وترا، فهل مرت بك لوحة للانضباطية والنظامية اروع واجمل من هذه اللوحة التلقائية الجميلة!
ومن السنن الحميدة التي يعتادها الناس في هذا الشهر الفضيل ختم القرآن الكريم، اذ يعمد القارئ الى تخصيص جزء من القرآن يتلوه كل يوم ليتم اجزاءه الثلاثين مع انصراف الشهر الكريم، ومنهم من يختم عدة ختمات فيضع لذلك قسمة اخرى تتلاءم مع غايته، ومن المعلوم ان من ابرز اسس النظام في اي عمل كان ان يسقط مسار الاجراءات على مستوى الزمن بما يتيح في النهاية انجاز الاجراءات المحددة المتلاحقة وفق جدول زمني مضبوط لينتظم عند الانتهاء عقدها في صورة مشروع كبير ناجح.
والمعجب في هذا الشهر الكريم ان الناس يسيرون وفق نظام دقيق محدد بمحض ارادتهم دون ان يلزمهم بذلك حكم قانون او فرمان ولا متخوفين من سوط السلطان، لقد نجحوا في تكييف شؤون حياتهم وسياسة نفوسهم وفق متطلبات الشهر الايمانية، ونجح رمضان في ان يزرع الثقة في نفس الامة الفوضوية ليبرهن لها انها قادرة على استيعاب فلسفة الانضباط وفقه محاسن التنظيم والانتظام ونقل ذلك من حيز التنظير والتجريد الى واقع التنفيذ والتطبيق شهرا باكلمه، وان كان الامر كذلك فحري بها ان تكون أمة الانضباط الاولى بقية العام!.