خرج حزب الوسط المصريّ إلى النور فى 19 /2 / 2011م بعد مخاض عسير طويل منذ انبثاقه كحزب سياسيّ له قبول عام بين الكافة أو أكثرهم لفكره الوسطيّ فى 10 /1 / 1996م، وذلك لخوض رجال الحزب حروبًا شرسة مع أذناب نظام المخلوع الذين اصطنعوا العراقيل لوأده مبكرًا .

يتميز الوسط بأنه أول حزب مصريّ صاغ مرجعية الحضارة المصريّة العربية الإسلاميّة في شكل مشروع سياسيّ ببرنامج مدنيّ، ويوضح الدكتور عبد الوهاب المسيريّ وهو يقدم لبرنامج الحزب ولائحته معنى (المرجعية الإسلامية) كمرجعية نهائية للمجتمع المصريّ: \"بأنها بعيدة عن فكرة الحكومات الدينيّة وحكم الكهنوت، لأنه بدون المرجعية، لا يمكن للمجتمع أن يحدّد أولوياته أو يسيَّر أموره؛ فالمرجعية إذن أمر حتميّ، ومرجعيّة الإسلام العامة مرجعية دينيّة للمسلمين، ومرجعية حضاريّة لغير المسلمين، كما أن الشريعة الإسلامية لا تستبعد أحدًا\".والحق أن الدكتور المسيري قدم فكرًا مستنيرًا رشيدًا عن الشريعة الإسلاميّة كمرجعيّة، وكيف أن الحزب لا ينظر إليها على أنها نصوص تُتلى أو أحكام يتمّ تطبيقها أمام المحاكم، وأنها ليست مجموعة من القيم الساكنة .   

ونأتى إلى الفقرة الأهم والحاسمة التي نورد نصًّا بدون تصرف: (وحينما يطرح الحزب الشريعة كمرجعيّة نهائية فإنهم يسعون إلى جعلها متفاعلة مع جوانب الحياة جميعها ووضعها موضع التطبيق عن طريق تخيّر الاجتهادات التي لا تصيب حركة المجتمع بالشلل، وهي اجتهادات بشريّة تستضيء بمقاصد الشريعة العامة وكليّاتها الأساسية، ولكنها تظلّ اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، وقابلة للأخذ والردّ والنقد والمراجعة، كما أنها قابلة أيضًا لإعادة النظر والتغير من زمان لزمان ومن مكان لمكان)، وهو عين ما قاله الأستاذ \"عصام سلطان\" أيضاً فى تصديره للبرنامج: (فلا قداسة لشكلٍ معيّن من أشكال الدولة أو الحكم على مر التاريخ، ولا لممارسات معينة، كما أنه لا قداسة لرأي فقهيّ لعالم من العلماء على مر التاريخ أو لمذهب أو لفرقة؛ فالبشر هم البشر يخطئون ويصيبون، وكلُّ أحدٍ يؤخذ من كلامه ويُرَّد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم). وانطلاقاً من هذا النهج القويم، والفكر الحكيم، أرى أن أقول للتاريخ كلمتي وأمضي سواءً أخذتم بها أم لا؛ لعل أجيالاً تأتي بعدنا ممن سيقودون سفينة الحزب، يوافقونني على ما ذهبت إليه؛ فيأخذون ببعضها أو كلها. ولعل من يقرأ كلام المغفور له -بإذن الله- أستاذنا الدكتور المسيري عن المرجعية النهائية للإسلام ثم يشرع في قراءة برنامج حزب الوسط، وخاصة (ثانيًا: المحور الاقتصاديّ) سيكتشف أن الصلة منبتة تمامًا، والمرجعية غائبة برمّتها، حتى أن كلمة (إسلام) لم ترد نصًّا أو روحًا فى المبادئ العامّة أو السياسات؛ بيد أن هناك ذكر للزكاة والصدقات، لكن لم يُذكر أن المحور الاقتصاديّ للحزب له مرجعية إسلامية أبدًا، لا من قريب ولا من بعيد، بل المذكور هذا النص الصادم: (فيما يلي مجموعة من المبادئ العامّة والسياسات المقترحة لحل الأزمة الإقتصادية المصريّة، ونحن لا نرسم سياستنا الإقتصادية في فراغ فهي من ناحية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقؤاءتنا لطبيعة الأزمات الإقتصاديّة التي تعاني منها مصر في اللحظة الراهنة، بينما ترتكز من ناحية أخرى على علم الاقتصاد، بل والاستفادة من التجارب المختلفة حول العالم، بما فيها التجربة المصريّة ذاتها عبر العصور المختلفة). ولقد شرح بعض من رجال الحزب البرنامج الاقتصادي على شاشات التلفاز، وأكدوا أن الحزب يتبنى نظام الإقتصاد الحر، ويستغرب من استغرب متسائلًا: وأين الإقتصاد الإسلاميّ؟! ألم يكن هو الأولى بتبني الحزب له؟ خاصة وأن الاقتصاد الإسلامي نظرته وسطيّة كفكر واسم الحزب؛ فهو لا يبيح الشيوع، كما أنه لا يبيح إطلاق الملكية بلا حدود، وإنما يقيّد الملكيات كلها -خاصة وعامة- بقيود الشرع، حيث ينظر إلى الفرد وإلى المجتمع بلا طغيان أو إخسار، فيعطي الفرد حقه في التملك، ويقر له بالملكية الفردية، ولكن ذلك يتمّ بأسسٍ وضوابط محددة، كما أن الاقتصاد الإسلامي يراعي مصلحة المجتمع ومصلحة الفئات الضعيفة فيه، وذلك لإقامة التوازن والعدل بين الفرد والمجتمع.قاطعت من استغرب وأكدت له أن الحزب ربما تأثر بفكر الآباء المؤسسين من أمثال الدكتور \"سليم العوا\" والذي يتبنى أيضًا الاقتصاد الحر، فقد كان هذا ضمن برنامجه الانتخابيّ الرئاسيّ، وذلك حين سألوه حول رأيه في النظام الاقتصاديّ، فأجاب: (أنا ضد القسمة إما اقتصاد حرّ أو اقتصاد موجّه، وأنا مع الاقتصاد الحر غير المستغِلّ مع الاقتصاد الحر الذي يعطي الدولة حقها ويفيد المستثمر، أنا مع الاقتصاد الحر دون الإضرار بمصلحة الفقير بموجب تشريعات). وربما كان تبنّي الحزب لهذا النظام حال تأسيسه له وجاهته، ولكن الظروف تغيرت وظهرت على السطح أحزاب من ذات المرجعيّة الإسلاميّة، منها ما يتبنى أنظمة اقتصادية غير الاقتصاد الإسلاميّ؛ بيد أن أشهرها من نص صراحة فى برنامجه على أنه يستمد رؤيته الاقتصادية من مرجعية النظام الاقتصاديّ الإسلاميّ.   

إن الاختلاف حول المساواة الكاملة للمرأة، وولاية غير المسلم على المسلم، من المبادىء التي يتبناها الحزب تحتمل الخلاف وإعمال العقل، ومناقشة الآراء الفقهية، لكن أن يكون هناك نظام اقتصاديّ كامل ضمن مرجعيتنا الدينية، فنقصيه ونتنصل منه، ونفضّل عليه نظام اقتصاديّ آخر بمرجعية أخرى؛ فهذا انقلاب على المرجعية التي نص عليها الحزب في برنامجه ولائحته، إذ أنه من المعلوم أن لكل نظام اقتصادي عقيدة فكرية تستنبط منها مفاهيمه وأسسه، وتُعتبر مرجعيته في التطبيق, والمرجعيّة الإسلامية للنظام الاقتصادي الإسلاميّ هي فقه المعاملات والفتاوى الاقتصاديّة المعاصرة الصادرة من مجامع الفقه الإسلامي, ولذلك لا يُمكن فصل الاقتصاد الإسلامي عن العقيدة وعن الأخلاق وعـن الفقه، وهذه المرجعية تختلف عن المرجعيات الوضعية الماديّة الليبراليّة والتي ينتمي إليها نظام الاقتصاد الحر بالضرورة. وكم كان أولى بمن وضع المحور الاقتصادي للحزب لو أطلّ إطلالة على الدستور الإسلاميّ الذي وضعه علماء وفقهاء مجمع البحوث الإسلامية، وأصدره الإمام الأكبر الراحل: الدكتور عبد الحليم محمود، وخاصة الباب الرابع منه والمعنون بـ: (الاقتصاد الإسلامي) لوجد أن موادّه تفي بالغرض وأكثر، وتحافظ على مرجعيّة الحزب ومصداقيّته في ذات الوقت، ومن هذه المواد:     مادة 20: يقوم الاقتصاد على الشريعة الإسلامية بما يكفل المصالح الشرعية المعتبرة، ويجوز اعتبار ما يثبت صحته من القوانين الاقتصادية فيما هو حلال، كما تجوز الاستعانة بالوسائل الاقتصاديّة العصرية في حدود الشريعة الإسلامية.   مادة 21: حريّة التجارة والصناعة والزراعة مكفولة في حدود الشريعة الإسلامي.   مادة 22: لا يجوز التعامل بالربا أخذًا أو عطاءً. وكل ربا تمّ التعامل عليه موضوع .      

لقد ثبت فشل نظام الإقتصاد الحر عند تطبيقه فى مصر، فقد أكد الدكتور إبراهيم العيسوي أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي، فَشل النموذج الاقتصادي الحالي في تحقيق التنمية في مصر، مؤكدًا أن هذا الفشل كان أحد الأسباب الرئيسيّة لاندلاع ثورة 25 يناير، واستغرب العيسوي من إصرار المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومة د. عصام شرف بالتمسك بالاقتصاد الحرّ وعدم تغيير المسار الاقتصادي.(الأهالي 16/6/1102)، وقال أحمد سيّد أحمد فى الأهرام الرقمى: \"أن مصر قد تبنت النظام الاقتصادي الحر منذ نهاية الثمانينيات وحتى الآن والذى تجسّد في سياسات الإصلاح الاقتصادى وعمليات الخصخصة للقطاع العام التي طبقها النظام السابق، والذى بدوره فشل فى تطبيق الاقتصاد الحر كفشله فى تطبيق الاشتراكية). وهذا ما دعا الدكتور محمد مرسي إلى تبنّي نظام الإقتصاد الإسلامي فى حديثه الذي ورد بمجلة الأهرام الإقتصادية حيث قال: (إن الاقتصاد الإسلامي الأفضل لتوجيه اقتصاد مصر المرحلة المقبلة؛ لأنه يبتعد عن أخطاء وعيوب النظامين الاقتصاديين الحر والموجه اللذين مرّت بتجربتهما مصر السنوات الماضية؛ فالاقتصاد الموجه ثبت فشله فى استقامة اقتصاد الدولة؛ حيث أنه لم يُتح الفرصة لحرية الاقتصاد والمنافسة بما جر مشكلات عديدة عانى منها أصحاب الأعمال على وجه الخصوص، وبالنسبة للاقتصاد الحُرّ فقد ثبت أيضًا أن له مساوئ عديدة أهمها: تهميش صغار أصحاب الأعمال من التجّار والصناّع وتكوين رأسماليّة متوحشة تقودها كبرى الكيانات وبالتالي تصبّ فى مصلحتها وحدها، ذلك إلى جانب ما جرّه من ضرر على المستهلك يتمثل أهم جوانبه فى الارتفاع المبالغ فيه فى أسعار السلع الأساسية. وأضاف: إن نظام الاقتصاد الاسلامى الأفضل لضمان تكافؤ الفرص وحسن توزيعها على أصحاب الاعمال بما يحقق العدالة داخل مجتمع رجال الأعمال فضلًا عن انعكاسه ايجابًا على مصلحة المستهلك. وبعد كل ما تقدّم وبناءً على المرجعية الفكرية لحزب الوسط التي أرساها الراحل الكبير الدكتور المسيري، وأكد عليها السيد نائب رئيس الحزب، وذكرناها آنفاً، بأنه لا قداسة لرأي فقهيّ لعالم من العلماء على مر التاريخ أو لمذهب أو لفرقة، والاجتهادات قابلة أيضًا لإعادة النظر والتغير من زمان لزمان، ومن مكان لمكان؛ نرى أنه بات لزامًا أن يعاد التفكير بل والمضيّ نحو تغيير المحور الاقتصاديّ للحزب من نظام الاقتصاد الحر إلى الاقتصاد الإسلاميّ، وذلك حتى يتطابق المنهج الاقتصاديّ مع المرجعية الدينية والحضارية للحزب. ولأن القاعدة فى الحزب هى الاستفتاء دون الاسئثار بالرأي، فمن الممكن أن يطرح تغيير الهويّة الإقتصادية للحزب فى استفتاء عام على كافة الأعضاء، ولو أن أمرًا يمسّ الشريعة، والمرجعية لا تحتاج لمثل هذا الإجراء.



التدقيق اللغوي لهذه المقالة: أفنان الصالح.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية