يا مستقبل نفسك وبقية عملي، معرفتي بكمن قبل أن تعرف نفسك وأبوتي لك التي لن أسخرها إلا لمساعدتك، حديثي لك، يا ابني الحبيب، عما يعشقه الناس ويكلفهم أموالًا وأوقاتًا. أتذكر قصة عصابة الإجرام التي رأيناها على الشاشة الصغيرة؟ تصدى لهم شخص حسن الهيئة والثقة بنفسه، ينجو بأعجوبة من رصاص كالمطر وتتساقط ضحاياه بسرعة خطواته ونظراته. ورأينا سيارات تتقلب وقنابل تُرمى وجثث ودماء، ليحسم البطل النهاية بمشاهد عنيفة يقف بعدها بأعجوبة أخرى، باسمًا ساكنًا. ورأينا قصصا فيها مشاهد تعذيب وتشويه تقشعر لها الجلود وتبقينا متوترين متوجسين. أتذكرت ذلك وتبسمتَ ساخراً من نفسك مثلي؟ حتى أنا لم أنسه وتعلمت منه. تلك الأفلام تباع في كل الدنيا وتبث في كل الفضائيات، ويراها الأقرباء والأصدقاء، الكبار والصغار، العقلاء والرعاع.
ابني وأخي ستسمع من يسمي تلك المشاهد "ترفيهًا"! أما علماء النفس ونتاج الدراسات فيقولون إن أثرها غائر في النفوس والطبائع، فالإنسان يألف ما يكثر من رؤيته. من يرى ذبح الشياه يألفه ثم يستسهله ويتخيل أن يذبحها بنفسه إعجابا أو تقليدا أو فضولا، أما من لم يألفه فينفر منه. مناظر العنف تُهوّن على الناس ممارستها وتجعلها مغامرة وبطولة، ويتعلمون أن يأخذوا ما يريدون بالعنف، أي أن يتخذ كل فرد وظائف الشرطي والشاهد والقاضي والجلاد معا! مضحك ذلك، ألا توافقني؟ وأنت وأنا يضج فينا سؤال: مع التطور والرقي الذي وصلته الدول غربية كيف يمكن استقرار الحضارة والمدنية والرقي وسط ملايين الأسلحة في أيدي الناس في تلك الدول؟
اتفقنا على أساس العيش والإنتاج في جو مطمئن وعلى رفضنا للعنف وهذا مبدأ الفطرة والعقل السليم، فكيف تستنكر وتحارب بعض دول العالمالإرهاب وتغني بالسلام وهي لم توفر لشعوبها أمنا وأسلوبا للحياة يغنيهم عن حمل الأسلحة؟ بل تتخذ العنف بضاعة تبيعها أفلاما مزيفة باسم الترفيه؟
إحصائيات وزارة الصحة الأمريكية تقول أن في عام 2003م حصلت 15جريمة يوميًا ًللأعمار من 10 الى 24 عاما، مات منهم82%! ووزارة العدل الأمريكية تقول أن في عام 2005م حصلت لجميع الأعمار أكثر من 4ملايين ونصف مليون جريمة! أرقام مفزعة لكنها موثقة معلنة من أهلها! وغلمان حلموا بأدوار رأوها على الشاشة فمثلوها وقتلوا زملاء لهم بالجامعات وبالمدارس، وكلهم ضحايا العنف الذي يدفعون قيمة أفلامه ليشاهدونها باسم المتعة وليتقبلوها باسم البطولة.
أسلوب رعاة البقر والغابة ورجل الكهف الفوضوي الأخرق قد انتهى عندما بدأت حياة البناء والعلم والحضارة. أي شيء يهون العنف لأي سبب فهو لا يرقى إلى الإنسانية.
إبني وصديقي، مناظر الضرب والتعذيب واستعراض الأسلحة والعضلات والحركات التي يراها كثيرون يوميا لا تجرّهم إلا إلى الفراغ والإنحطاط، وتذهب بعقولهم وقدرتهم على الإنتاج. شيء واحد يكتسبونه هو الوزن!
وانتبه، لاتركن للسرد الحجج ومعابة غيرك، بل ابدأ بنفسك. طوع ذهنك وقوتك ولا تنتظر غيرك أن يعمل لك، ألا ترى هذا موافقا للعقل؟ نحن نؤمن بمباديء الإنسانية الراقية بالتعاون والإحسانوأنت تعرف أن من كان كلامه لا يوافق فعله فكأنما يوبخ نفسه. فعليك بخويصة نفسك وأصلح يصلح لك الناس، ولا تنبهرن بأفلام العنف فليس فيها حكمة ولا قدوة. إن أردت أن تقلد أحدا فعليك بألآبطال الذين صنعو مجد الأمة، أو المخترعين، واتخذ هواية تفيدك وغيرك، كتربية الحيوان واستيلاده.
ما رأيك أن نتمرن معا لسباق العدو السريع "الماراثون"؟ أعلم عن أشخاص عولجوا من أمراض قلبية واكملوا بعدها -وان لم يفوزوا بالأولوية- مسافة الماراثون (42كيلومترا) استشعارا للصحة وانتصارا على النفس وتلذذا ببلوغ الهدف بعد حسن الاستعداد. أمر جميل ومحفز، ألا توافقني؟ ستسبقني بالتأكيد، وهذا ما أريده وأتمناه لك.
يسعدني رؤية عينيك تعبران المكان والزمان إلى طموحك وأنت تتأمل القمر والأفلاك، وتبحث في الأعماق والأسرار، وتنظر في الكتب وتتسائل عن الإختراعات وبصيرتك إلى مستقبلك ترى إنتاجك وابتكارك ووصولك إلى الآفاق. هنيئا لك بهذه النفس الوثابة والارادة الحرة الواضحة.
ابني الطموح المفكر، أبشر، ما كانت الإرادة إلا ووجدت طريقها، كما يقال. وأرجو أن تبلغ قناعتك لأصدقائك وان لم يقتنعوا وقتها، بأن ما في الافلام يبقى خداعًا وتمثيلًا واستجداءً منفرًا للأموال ببث العنف بين الناس، يستحث فيهم الشر لا الخير، الهدم لا البناء. ستفيدك وزملاءك أفلام الخيال العلمي ففيها ما يحرك الفكر والرغبة لاختراع ما يفيد ويبني.
سلمت لوالديك ولمستقبلك ومجتمعك يا حبة قلبي، أنت ومن تحب، وأراك قريبا وأنت فوق إحدى قمم الحياة.
التدقيق: لجين قطب