لا أعرف لماذا بدأتُ أملُّ الكتابة، وأصبحتُ أقصُرُ من الساعات التي أخلو بها مع نفسي، ربما لأسباب كثيرة لا سبيل لتفصيلها في هذا المقام، لكني على قناعة من أنّ الذين يكتبون بمداد الدم يُعْذَرون، فأنت أحيانا تكاد تفقد الصواب حتى وأنت في أتمّ هيئاته وقواعده، أو يُخيّلُ إليك أنك تفكر بعقل خاص، وإن لم يكن ذلك؛ فلماذا لا يشعر بقية البشر بما تشعر به أنت؟
كان صاحبنا المسكين ينتظر انتهاء صلاة الجمعة بفارغ الصبر، ليحمل سجادة قديمة، ويضعها على ناحية مدخل المسجد، ويقول:من أجل بناء مسجد يا إخوان، ويأتي بالأحاديث والآيات التي تُذكّر بفعل الخير. وهل الذي يدخلُ المسجد ويؤدي الصلاة ويعي عظمتها بحاجة إلى كل هذا التذكير يا شيخ؟ سامَحَكَ الله، فالخير أبوابه مفتوحة، دائمًا لا تُغلق! لكنّ أهله وما أدراك ما أهل الخير في هذا الزمان يا شيخ!
عاد المسكين يحمل القليل من المال الذي جمعه من أهل الخير، وقد أصابه الذهول من قلة ما جمع. لم يمضِ على ذهاب صاحبي أيام قليلة على الرغم مما آل إليه مشواره الذي أَسِفَتْ له نفسي، وانفطر منه قلبي، وتصدع به رأسي، وما زاد في دهشتي أن تلك البقعة التي زارها المسكين الشيخ يطلب المساعدة لبناء مسجد، ولم يحصل إلاّ على قروش أو دريهمات شهدت بعد يومين أفراحًا لا نظير لها، فقد ماج الشباب في رقص واختيال، وظهرت الحسان الغيد يلبسن الجديد النفيس، وقرعت الأجراس ودُقّت الطبول، وعُزفتْ الموسيقا، وتغنى المغنون، ثم غصّت الموائد بالطعام، وتكللت الأطباق بقطع اللحم الكبيرة، ثم احتسى الحضور الشراب بأنواعه، فقلتُ في نفسي: ما أعْجَبَ أمرَ هذه البقعة! يُدعى أهلها إلى الخير فيحجمون، ويدعون إلى اللهو والإسراف فيتسابقون!
ما أعجبّ فرحها! حين يبتاع بآلاف الدنانير ويكون رقصًا وخفّة وإسرافًا في الطعام والشراب، ويتبخر بعد ساعات هباء منثورًا، ثم يصبح بعد يوم كأنه لم يكن. هذا الفرح الذي كان يمكن أن يكتمل لو عُمِلَ بقصد؛(أعني باعتدال)، أو لو أن أصحابه ساعدوا ذلك المسكين الشيخ الذي قطع المسافات ليسهم في بناء مسجد يُرفع فيه اسم الحقّ جل وعلا.
عدتُ، وقد انتابني الصداع، الذي لم يدع لي مساحة في جسمي أتنفس فيها هواء حرّا سهلاً دون زفرات. ثم صرختُ:ما الفرح الذي يستحق أن يعيشه الإنسان في وطننا العربي؟ أليس فعل الخير، وسعادة الآخرين؟ وفي ذلك رضا لله ولرسوله وللمؤمنين!
أليس ذلك في البعد عن إيذاء الناس، وفي الاقتصاد وعدم المبالغة في اللهو والإسراف، وفي ابتغاء المنفعة للمجتمع؟ أمّا هذا الذي يعيشه أهل تلك البقعة ففرح عابر سرعان ما تخبو بهجته، وتذوب سعادته؛ فهو فرح عابر لا يستقيم وفطرة العربي المسلم التي جُبلت على الخير والكرم والمساعدة ونصرة الحقّ.
رحم الله صاحبي، فقد أراد ان يُعمّر بيتًا لله ، فأيقظ في صدري جراحات، جعلتني أجمع امتعتي، وأغيبُ عن الوجود ساعاتٍ علّني أعثر على إجابات لأسئلته. وصار حاله مع الناس حين شيعوه ميتًا على الأكتاف بين بكاء وعويل، كما قال الشاعر:
لأعْرِفنَّكَ بعد الموت تنْدُبُني وفي حياتي ما زوّدتني زادا
تدقيق: لجين قطب