تمهيد:
يقول الأديب الألماني الكبير غوته: "إنّ الإنسانَ لم يولد ليحل مشاكل هذا العالم، ولكن ليحدد مكمنها، وبالتالي يتمكن من ضبطها في مفاهيم واضحة".1*
ربما تشكل هذه المقولة خلاصة ما حاول قوله ماكس فيبر في دراساته الإبستمولوجية والميتودلوجية في إطار العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. الوضوح، الدّقة، الضّبط، الثّبات، صفات يأمل فيبر أن تصل إليها مفاهيم العلوم الثّقافيّة. لقد وعى تمامًا أنه لا يمكن لنا أن نُخضع الظواهر الإنسانيّة للمناهج المطبقة في العلوم الطّبيعيّة، إننا لا نتعامل هنا مع مادة جامدة يمكن لنا ضبطها كميًا ورقميًا، كما في الظواهر الفيزيائيّة، بل نحن نتعامل مع الأفعال الإنسانيّة، بتداخلاتها النّفسيّة، والتّاريخيّة، والاجتماعيّة. ولكن بالمقابل لا يمكننا أن نترك الأفعال الإنسانيّة من غير محاولات فهم وتفسير للكيفية التي تسير عليها، ومن ثمّ إمكانية التنبوء بها مستقبليًا. ومن هنا بدأت محاولات "فيبر" في صياغة مفاهيم واضحة ودقيقة للعلوم الثقافية، لكي يحاول فهم الفعل الاجتماعي تفسيريًا. وننوه هنا إلى أن مصطلح علوم ثقافيّة "Kulturwissenschaften" هو المصطلح الذي ورثه فيبر عن الفيلسوف ريكرت "Heinrich Rickert" بوصفه أحد أتباع المدرسة الكانتيّة الجديدة"Neukantianismus" ، والّذي يقصد به العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والّتي تشمل عادةً حسب تصنيف نظرية المعرفة الألمانيّة: علم النّفس، علم الاجتماع، علم الاقتصاد، علم السّياسة، علم التّاريخ، علم التّربيّة، الإعلام، الإنتربولوجيّة، علم الآثار.
ومن هنا فإنّ أول خطوة يقوم بها من يحاول فهم النّظريّة الاجتماعيّة عند فيبر يجب أن تبدأ بالتعرف إلى مفاهيمه، ومصطلحاته الأساسيّة، وهذا ما قام به فيبر فعليًا من النّاحية المنهجيّة، فقد بدأ أبحاثه دائمًا بتحديد وضبط المفاهيم.
من جهة ثانية يمكن لنا – بصورة نسبيّة - أن نحصر الأسئلة الّتي حاول فيبر الإجابة عليها في إطار دراسته للعلوم الثّقافيّة بسؤالين أساسيين، تتفرع عنهما بقيّة القضايا، والمفاهيم الّتي عالجها، وهما:
السّؤال الأول:
كيف يمكن تجاوز الهوة "Aporie" المنهجيّة بين المفاهيم العامة من جهة، والوقائع الإمبيريقيّة المُحددَة والخاصة من جهة ثانية؟
السّؤال الثّاني:
ما الّذي يميز المعرفة العلميّة من المعرفة اللاعلميّة في إطار العلوم الثّقافيّة؟
لمحاولة الإجابة على السّؤال الأول اقترح فيبر منهجية بناء المفاهيم الّتي يشتهر بها؛ وهي: بناء الأنماط المِثاليّة"Idealtypische Bergriffsbildungen" أو منهجية النّمط المثالي "Idealtypus"، وقام بتطبيق هذه المنهجية في مجال ما يسمى بـسوسيولوجية فيبر الفهميّة "Webers verstehenden Soziologie"، وهذا يستوجب بالضرورة دراساته الإبستمولوجيّة في مجال نظرية الفعل الاجتماعي "Handlungstheorie"، وإمكانيات تفسير الحوادث التّاريخيّة "historische Geschehen".
ولمحاولة الإجابة على السّؤال الثّاني، حدد فيبر الفرق المنهجي بين نوعين من المعرفة من حيث الهدف، الّذي يفترضه طرح أحد السّؤالين التّاليين حولها:
1- ماذا ينبغي أن يكون؟"Seinsollenden" 2- ماذا يكون؟ "Seienden"؛ أي التّفريق بين المعرفة العلميّة من المعرفة التّقيميّة.
وللوصول إلى هذا الهدف وضع فيبر مفهوم الحيدة التّقيميّة أو اللاتقيميّة في العلوم الثّقافيّة؛ "Werturteilsfreiheit" أو "Wertfrei".
وعلى ذلك فإننا سنشرع في هذا المقال في الحديث عن مفهوم الفعل عند فيبر، ولكن قبل ذلك نرغب بالتنويه إلى أن الأصل- كما هو معروف - في العمل العلمي التّضايف أي أن يضيف اللاحق إلى السّابق، وهذا من طبيعة نماء المعرفة العلميّة، فالمعرفة العلميّة في إطار الفرضيات المُتشابهة أو (الفرضية الواحدة) تكون – غالبًا - تراكميّة. أما حالة الأُحاديّة والفرديّة والتّصادميّة الّتي تميز الأبحاث أو الكتب المنشورة باللّغة العربيّة فهي انعكاس أو تجسيد لنزعات الفرقة والأنانيّة السّياسيّة والدّينيّة ... إلخ، الّتي تُعاني منها العقليّة العربيّة العلميّة – إذا صح التّعبير - ثم إننا حاولنا أن نبني جسرًا صغيرًا للتواصل مع بعض المهتمين بدراسات فيبر في عالمنا العربي، إلا أننا للأسف لم نجد تجاوب! وكذلك لم نجد أشخاص مختصين بدراسات فيبر على وجه الدّقة، أو هذا ما انتهى إليه علمنا، إذ أننا لا نستطيع الزّعم بأننا على إحاطة شاملة بكل ما ينشر من أبحاث في الجامعات العربية أو بأسماء كل الباحثين وتخصصاتهم. ولكن نتمنى – وهذه دعوة - ممن لديه اهتمام بأعمال فيبر ليس كمترجم، بل كـمختص ومهتم بالدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفيبرية من الزّملاء – أساتذة وطلبة - أن يتواصلوا معنا وسنسعد بالعمل البحثي المشترك معهم.
مفاهيم ماكس فيبر الاجتماعيّة الأساسيّة:
عاش فيبر بين عام (1864- 1920)، ونحن هنا لن نتطرق إلى سيرته الشّخصيّة، فهي تكاد تكون الموضوع الأكثر انتشارًا فيما يخصه على الصفحات العربيّة. بل نهتم بأن نلفت انتباه القارئ – بشكلٍ سريع - إلى أن هذا الرّجل على الرّغم من قصر حياته، فإنه قد قدم الكثير على المستوى المعرفي. والأهم من ذلك أن نبين، بأنه في المرحلة الأخيرة من حياته حوالي عام (1913) شرع في كتابة نصه المعنون بـ "Soziologische Grundbegriffe" أي:المفاهيم الاجتماعيّة الأساسيّة، وهو النّص الذي سوف يصدّر به عمله العظيم "الاقتصاد والمجتمع"، ويعتبر هذا النّص المدخل المنهجي الأساسي لـنظريته الاجتماعية، ولم ينشر هذا العمل مُجتمِع إلا في عام (1922)، أي بعد موته بعامين. ونود هنا أيضًا الإشارة إلى أن التعريفات التي قدمها فيبر لمفاهيمه في هذا النّص لم تكن جديدة بالنسبة لأعماله السّابقة، ولكنها كانت – إذا صح التّعبير - الصّيغة الأنضج والأوضح. فهذا النّص بشكل أو بآخر كان تطوير أو استكمال لنص سابق عليه نشره "فيبر" في حياته في نفس عام (1913) تحت عنوان: "Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie" أي: بعض مقولات السّوسيولوجية الفهميّة. ونحن هنا سوف نعتمد على نص فيبر المنشور للمرة الأولى في عام (1922)، حيث أَشرفتْ على نشره بصورة شخصيّة "ماريانا فيبر" (1870- 1954)، المؤرخة القانونيّة والمدافعة عن حقوق المرأة الألمانيّة، وهي زوجة "ماكس فيبر". ونضيف بأن فيبر الّذي كان شديد التّعلق بوالدتهِ "هيلينة فيبر" (1844- 1919)، وكثير الإجلال لها، كان قد أوصى بأن يُهدى عمله "الاقتصاد والمجتمع" - الّذي يشتمل على نص المفاهيم الاجتماعية الأساسيّة - عند نشره لها. ولا ندري إن كان موت فيبر بعد وفاة والدته بعام واحد فقط له صلة مباشرة أو غير مباشرة بمضاعفات مرضه – الغريب الإسباني - الّذي مات بسببه؟ أم هي كانت - فقط- تدابير القضاء وأعاجيبه؟
وكذلك يجب أنْ نشيرَ إلى أنّ فيبر بنى مفاهيمه الاجتماعية الأساسيّة على خلفية نظرته لـلواقعة الاجتماعية، الّتي يرى أنّها تحدث في إطار ثلاث مستويات مختلفة، هي:
المستوى الأول: هو مستوى الفعل الفردي؛ أي النّشاط أو الفعل الّذي يقوم به فرد واحد، وهنا سوف يسعى "فيبر" إلى فهم المعنى المقصود الّذي أراده الفاعل من هذا الفعل أو البواعث الكامنة خلف قيامه بهذا النّشاط.
المستوى الثاني: هو مستوى العلاقة الاجتماعية، الّتي تجري بين فاعلين أو أكثر في إطار الحياة الاجتماعية داخل مجتمع ما.
المستوى الثالث: هو مستوى التّرابطات أو النّظام الاجتماعي، الّذي ينبغي أن يعكس الأبعاد المعقدة لمستويات الواقعة الاجتماعية داخل المجتمع.
وهذه المستويات الثلاث هي التي تحكم البناء المفهومي للنظرية الاجتماعية الفيبرية.
في هذه المقالة سوف نتطرق – فقط - إلى ثلاثة مفاهيم من مجموع مفاهيم فيبر الاجتماعية الأساسيّة، وهي: "السّوسيولوجية الفهميّة"، "الفعل الإنساني"، "الفعل الاجتماعي"؛ أي المستوى الأول من مستويات الواقعة الاجتماعية. في حين نتناول بقية المفاهيم بصورة متتابعة في مقالات أخرى - إن شاء الله -.
المفهوم الأول: السّوسيولوجية الفهميّة:
يبدأ فيبر مفاهيمه بتعريفه المشهور للسّوسيولوجية الفهميّة:
"بوصفها ذلك العلم، الذي ينبغي أن يفهم معنى الفعل الاجتماعي، وبالتالي يفسر (سببيًا) حدوثه وبواعثه ومؤثراته".2*
وبهذا المعنى فإن السّوسيولوجية عند فيبر، هي: علمٌ خاص بالفعل الإنساني- الاجتماعي، أي العلم الثّقافي الذي لا يريد (فقط) أن يفهم قصد وبواعث الفاعل من قيامه بفعله، بل هو يريد كذلك أن يفسر بصورة (سببية) مترابطة الأسس التي تكمن خلف قيام الفاعل بفعله أو نشاطه.
وهذا العلم سوف ينتمي للنزعة "المنهجية الفردية" أو "الفردانيّة المنهجية"، لأنه يسعى لفهم المعنى المقصود ذاتيًا من قبل الفاعل أثناء قيامه بفعله.
والسّوسيولوجية عند فيبر هي أيضًا علم للخبرة التّجريبيّة، وليست علم معياري؛ يهتم بطرح قضية (ما ينبغي أن يكون عليه الفعل الاجتماعي) كما هو الحال في "الفلسفة الاجتماعية". وهي كذلك قليلًا ما تكون بمستوى علم اجتماعي تقني - إذا صح التعبير- كالسياسة الاجتماعية. وهي علاوة على ذلك "علم للواقع" يتخذ مكانه بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.3*
المفهوم الثّاني: الفعل الإنساني:
يلي تعريف السّوسيولوجية عند فيبر، مفهومه للفعل الإنساني عمومًا، الذي يعرفه على الشّكل التّالي:
"الفعل: ينبغي بهذا أن يدعى سلوكًا إنسانيًا (بغض النظر عما إذا أذعن أو امتنع لفعلٍ خارجي أو داخلي)، إذا أو طالما أن الواحد أو الفاعل يربطه بمعنى ذاتي".4*
بهذا المعنى فإن فيبر يعتبر الفعل الإنساني، هو (فقط) ذلك السّلوك أو النّشاط، الّذي يمكن أن ننسب إليه قصد أو معنى ذاتي لتبرير ما قام به الفاعل من نشاط.
ولكن هذا التّعريف سيطرح جدلًا واسعًا حول كيفية ربط الفعل بقصد الفاعل، وإلى أي درجة يمكن أن ننجح بمثل هذا الرّبط. فكثيرًا ما تكون نتائج الفعل المُتحصِّلة ليست هي القصد الّذي أراده الفاعل من فعله، وكذلك قد تتحق نتيجة لها معنى من فعل غير مقصود.5*
فمثلًا: لو أنّ شخصًا ما، أراد أن يستند إلى ذرفة الباب، فوضع يده على المقبض، فإذا الباب وقد فتح من غير أن يقصد ذلك. من وجهة نظر فيبر فإن هذا النّشاط ليس فعل إنساني، لأن الفاعل لم يعنِ أو لم يقصد من حركته تلك فتح الباب، بل كان هدفه فقط أن يستند عليه، ولكن من جهة أخرى فإن المراقب لا يستطيع أن ينكر بأن عملًا قد أُنجز بالفعل؛ وهو فتح الباب، فكيف لا ندعُ هذا النشاط بـفعل إنساني؟
ربما أنّ الأمر هنا لم يتضح؛ لذلك نأخذ مثالًا آخر من الحياة العملية؛ كأن يريد شخص ما، أن يركن سيارته في الموقف المخصص لها، حسب "فيبر" المعنى المقصود هو ركن السيّارة، وهذا ما يجعل من هذا السلوك فعل لأن شرط ربطه بمعنى ذاتي للفاعل متحقق. ولكن ماذا يحدث لو أن هذا السّائق أثناء محاولته ركن السّيّارة في مكانها ألحق ضررًا بالسيارة المجاورة من غير أن يقصد فعل ذلك؟ حسب فيبر إن هذا السلوك ليس فعل؛ لأننا لا يمكن أن نربطه بقصد الفاعل، على الرغم من حدوث نتيجة واضحة عنه، الفاعل قصده أن يركن السّيّارة لا أن يلحق الضرر بالسيارة المجاورة. ولكن القانوني مثلًا لا يستطيع أن ينظر إلى هذا السّلوك على أنه ليس فعل كما يريد فيبر، بل هو في هذه الحالة يُجِّرم السّائق ويلزمه بأن يعالج الضّرر الّذي ألحقه بالسيارة الأخرى، فرغم أن السّلوك الذي قام به لا يمكن أن نربطه بقصده – كما يقول فيبر - لأنه ليس المعنى الذاتي الذي أراده من فعله، إلا أنه من وجهة نظر العلوم القانونية (فعل إنساني) يتحمل صاحبه تبعاته. وبالتالي فإن التعريف الذي يورده فيبر في تحديد السّلوك البشري الذي يمكن أن نطلق عليه صفة (فعل إنساني) لا يستطيع أن يشمل جميع أنواع الفعل الإنساني حقيقةً، بل طائفة محددة منها فقط؛ وهي تلك التي تحقق فيها شرط ربط الفعل بالمعنى الذي قصده الفاعل.
المفهوم الثّالث: الفعل الاجتماعي:
الفعل الاجتماعي: هو أحد أنواع الفعل الإنساني، وله خصوصيّة تميزه عن غيره من الأفعال، وهو يعتبر الأساس الذي تقوم عليه "السوسيولوجية الفيبرية"، ففي الوقت الذي رأينا فيه فيبر يعرف الأول على أنه سلوك أو نشاط يرتبط بمعنى ذاتي خاص بالفاعل، فإن فيبر يعرف الثاني على النحو التالي (بتصرف):
"يكون الفعل اجتماعيًا؛ إذا تعلق معناه المقصود من قبل فاعله أو فاعليه بسلوك الآخرين، الذين يوجهون حدوثه".6*
إذاً الفعل الاجتماعي هو الذي يتوجه بسلوك الغير، ويرتبط بمعنى مشترك معه، فمثلًا: إذا قمت بفتح نافذة الحجرة لكي يدخل الهواء النّقي، فإن هذا السّلوك هو فعل إنساني، له معنى ذاتي مقصود للفاعل، ولكنه ليس فعلًا اجتماعيًا، وكذلك الحال إذا أردت أن أُروح عن نفسي، فأخذت أُدندن وأنا جالس وحدي في غرفتي، فإن هذا الفعل ليس اجتماعي، ولكن لو أنني كنت أشاهد مباراة كرة القدم مع مجموعة من الأصدقاء، وأخذنا ننشد سويًا أناشيد حماسيّة لتشجيع الفريق في الملعب، فإن هذا السّلوك يمكن أن يسمى: فعل اجتماعي، لأنه ارتبط بسلوك الآخرين، الذين وجهوا سلوكي. والأمر كذلك لو أنني كنت في عرسٍ ريفي واصطف الحضور في صفين يجيب كلاً منهم الآخر بمقطع من الأهازيج الشّعبيّة، وقد كنت من بينهم، فإن سلوكي هنا أيضًا هو استجابة أو متأثر ومتوجّه بسلوك الآخر، وبالتالي فإنه سيكون فعلاً اجتماعيًا.
ومن جهة أخرى فإن التأثير الذي يمارسه الآخر على سلوكي أو فعلي الاجتماعي ويسهم في توجيهه له أنواع يحددها فيبر، على النّحو التالي:
"الفعل الاجتماعي: يمكن أن يتوجه بمؤثر آخر حاضر أو ماض أو منتظر في المستقبل، و يمكن أن يكون هذا الآخر – أو الآخرين- معروف أو غير معروف".7*
إذًا الفاعل الآخر الذي يوجه سلوكي فيجعل منه فعلاً اجتماعيًا، قد يكون موجود أمامي حاضر- على سبيل المثال - عندما أجلس بصمت وهدوء في قاعة يتكلم فيها أحد النّاجين من مجازر القتلة، فتنساب الدّموع من مقلتي. ولكن قد يكون الباعث لهذا السّلوك مؤثر قديم كأن أتذكر زوجتي المتوفاة من عدة سنوات فأذرف لفقدها الدّمع. وقد يكون الباعث مستقبلي؛ كأن أتذكر واجب تسديد مبالغ طائلة للدائنين في نهاية العام فأصاب بالحزن وأرثي لحالي.
وكذلك فإن هذا الباعث الذي يؤثر في فعلي قد يكون واحد أو متعدد، معروف أو غير معروف، مثلاً عندما أذهب للحلاق، وأطلب منه أن يهذب شعري؛ لكي أظهر بمظهرٍ لائق أمام زبائني في المتجر الذي أعمل به، فإن المؤثر في سلوكي هو متعدد وغير معروف، وبالتالي فإن هذا السّلوك هو فعل اجتماعي، خضع لتوجيه العديد من الناس الذين يزورون متجري، وهم زبائن متوقعين، وليس بالضرورة أن يكونوا معروفين بالنسبة لي أم لا.
ولكن بالمقابل لو قمت بنفس الفعل، وهو الذّهاب إلى الحلاق كما ذكرنا، بدافع أنه سيكون لدي لقاء مع خطيبتي غدًا، وأحبُّ أن تراني على أحسن حال، وأبهى هندام، فإن فعلي هذا سيكون فعلًا اجتماعيًا وقد خضع لتوجيه فرد واحد ومعروف بالنسبة لي؛ الذي هو: الخطيبة كما ذكرنا.
ولكن من جهة ثانية يرى فيبر أنه ليس كل فعل خضع لمؤثر خارجي هو فعل اجتماعي، أو كما يقول:
"ليس كل نوع من الفعل، يخضع لمؤثر خارجي يكون فعل اجتماعي- بالمعنى الثابت للكلمة - ولكن فقط عندما يتوجه الفعل بسلوك موضوعات واقعية".8*
إن ما يشير إليه فيبر هنا من غير تصريح هو تلك الأفعال التي تتوجه بغايات "ميتافيزيقية" أو "ما ورائية"،كالأفعال التي يأتي بها من يؤمنون بالأساطير، أو الأفعال التي يأتي بها أتباع دين سماوي أو طائفة منحرفة، فمثلاً: قد يجلس شخص لوحده في حجرة فيتذكر لقاء (الله) بعد الموت، فتفيض العبارات من مآقيه أو أن يقوم أحدهم بصورة بدائيّة بوشم جسده بالأصباغ الدائمة؛ تحت تأثير الأساطير التي يؤمن بها، فإن مثل هذه الأفعال وإن كانت توجه بتأثير فاعل مفترض، فإنها من وجهة نظر فيبر ليست بأفعال اجتماعية؛ حيث تطرح المشكلة في قضية اعتبار (الله) أو الكائنات الروحية أو الغير مادية طرف في فعل اجتماعي؛ فهناك من لا يقر بوجودها، وبالتالي فإنه في هذه الحالة لا تصح بالنسبة لهذا المنكر لوجودها أن نسميها حالة فعل اجتماعي. والأمر كذلك عند فيبر لأنه ذكر في أكثر من موضع من مؤلفاته أنه لا يؤمن بوجود العالم غير المادي أو بالأصح الماورائيات، أو على الأقل هكذا كان يزعم، وإن كانت مؤلفاته وسيرته تقول غير ذلك.
من جهة أخرى – أيضًا - لا يُعتبر كل سلوك ترافق مع تواصل بين فاعلين فعل اجتماعي، يقول فيبر:"ليس كل نوع للتواصل الإنساني يكون ذا طابع اجتماعي، بل فقط بالشكل الذي يوجه فيه سلوك الآخر السلوك الخاص".9*
فمثلاً لو أنك جلستَ إلى طاولة في أحد المقاصف، ثم وأنت ترشف فنجان من القهوة جلس مجموعة من الزبائن إلى نفس الطاولة ليتناولوا كذلك القهوة، فإن مثل هذا السّلوك لا يعتبر تواصل أو فعل اجتماعي، إذ أن هذا الاجتماع كان محض صدفة، ولا يتضمن توجيه للسّلوك الخاص، وإن كان يتمظهر بطابع اجتماعي، في حين لو أن هذا اللقاء كان عن تعارف وموعد مسبق، فلا شك حينها أنه سوف يكون فعل اجتماعي.
ثم إن فيبر يفترض وجود أربعة أنواع، هي بمثابة أنماط مثالية لـلفعل الاجتماعي، وسنتناولها –هنا - بإيجاز. 10*
1- النمط المثالي للفعل الموجه بأهداف عقلية:
وهو ببساط كل فعل اجتماعي يقوم به الفاعل بتحديد السّبل والشّروط الصّحيحة الّتي تمكّنه من بلوغ هدفه بصورة عقلانيّة، فهو يدرك علاقة التّرابط بين السّبب والنّتيجة، فمثلًا من أراد أن يشتري سيارة جديدة، فعليه أن يحسب حسابه أن عليه العمل بجد لجمع المبلغ المطلوب، ثم عليه متابعة العروض الّتي تُقدِّمها وكالات السّيّارات، ثم عليه أنْ يحدِّد ما يريد شرائه في حدود إمكانياته المالية، وهكذا عليه أن يحسب كل خطوة بصورة عقلانية، ويتخذ الإجراءات الماديّة للوصل إلى هدفه أو غايته. وهذا النّوع من الأفعال الاجتماعية أغلب ما يكون في مجال النّشاط الاقتصادي والتقني.
2- النمط المثالي للفعل الموجه بالقيم:
وهو كل فعل ذا طابع اجتماعي يقوم به الفاعل على خلفية توجهه بقيمة أخلاقية أو بتعاليم دين أو مذهب ما، وذلك بصورة عقلانية محسوبة. فمثلًا عندما يُقدِمُ شخص ما، بالتعاون مع مجموعة ما، بتأسيس جمعية خيرية تجمع التبرعات لصالح فقراء طائفة أو دين أو مجتمع يربطهم به وشائج مشتركة.
3- النمط المثالي للفعل الموجه بالعواطف:
هو جميع الأفعال التي يكون الباعث الموجه لها، نابع من العاطفة؛ سواءً أكانت عاطفة إيجابية أم سلبية. فمثلًا عندما يقوم أحدهم بنظم قصيدة من الشعر ووضعها في مظروف والدفع به إلى فتاة تعلق بها قلبه، فالباعث هنا هو عاطفة الحب، أو على نحوٍ سلبي، عندما يقوم أحدهم بدافع عاطفة الكره، بعدم دعوة شخص ما إلى مناسبة سعيدة خاصة به.
4- النمط المثالي للفعل الموجه بالتقاليد:
وهو من الأفعال المنتشرة في المجتمع على نطاق واسع، فهو كل فعل اجتماعي نأتي به على خلفية التوجه بالتقاليد والعادات الخاصة بنا. فمثلًا عندما يحمل الرجل اليميني على خصره "الجنابية" أو الخنجر اليمني، وهو موجه بتقاليده المحلية. أو عندما تقوم الفتاة العربية في بعض مجتمعاتنا باستخدام الحناء لرسم الزخارف والأوشمة على الكفين في المناسبات السعيدة كـ يوم الزواج – مثلًا- وهكذا هو كل فعل نتأثر به بتقاليدنا وعاداتنا.
من جهة ثانية، فإن فيبر يتحدث عن فعل اجتماعي يمكن أن يتوجه بعدة بواعث في آن واحد، فمثلًا لو أخذنا حالة (أستاذ جامعي يمتنع عن التدخين)، ثم يتبين لنا أنه أقدم على هذا الامتناع لعدة بواعث، هي:
1- باعث عقلي: لأن التدخين مضر بالصحة كما أثبتت الأبحاث الطّبية والنّفسيّة، فهذا هو النوع الأول من أنماط الفعل.
2- باعث قيمي: لأنه أستاذ جامعي فهو يريد أن يحقق في شخصه مفهوم القدوة لطلبته، لذلك فقد عدل عن التدخين، وهذا هو النوع الثاني من أنماط الفعل.
3- باعث عاطفي: لأن زوجته تكره رائحة التدخين، وحبه لها يدفعه لتجنب إزعاجها بهذه الرائحة الكريهة، لذلك ترك هذا الفعل السيء، وهذا هو النوع الثالث من أنماط الفعل.
4- باعث تقليدي: التقاليد الأكاديمية لا تعتبر أن وجود أستاذ جامعي مدخن شيء مألوف، بل هي لا ترحب بمثل هذا الفعل، لذلك تماشيًا مع تقاليد العمل الأكاديمي أقلع عن التدخين، وبالتالي هذا هو النمط الرابع من الأفعال.
هذه ببساطة كانت لمحة سريعة عن مفهوم فيبر للفعل وأنواعه. نتمنى أن يجد – فيها- القارئ الكريم، ما يمتع ويفيد. ودمتم بخير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
1- vgl. Leutenbach, Ernst: Lexikon Goethe Zitate. Auslese für das 21. Jahrhundert aus Werke und Leben, München,2004, S. 1056.
2- Vgl. Müller, Hans- Peter: Max Weber. Eine Einführung in sein Werk, köln, 2007, S. 108–19.
3- Weber, Max (1922/ 3. Aufl. 1968): Gesammelte Aufsätze zur Wissenschaftslehre,( Hg.v. Winckelmann, Johannes), Tübingen,(WL), S. 524.
4- Schneider, Wolfgang Ludwig: Grundlagen der soziologischen Theorie, Band 1: Weber- Parsons- Mead- Schütz, Wiesbaden, ( 2002/ 2. Aufl. 2005), S. 45- 88.
5- (WL), S. 524, Hervorh. im Orig.
6- WL, S. 562
7- Ebd. S. 562 f.
8- Ebd. S. 563
9- Ebd. S. 563
10- Ebd. S. 565