جلستْ في الغسق على مقعد إلى جانب النهر، تتأمل السماء التي بدأت غيوم الخريف تتراكم فيها، وقد بدأت تحجب شيئًا فشيئًا ضوء النهار، تُنبئ بعاصفة قريبة الهبوب وتُلقي على صدرها المزيد من الثقل، كان الأسى يعتصر قلبها بعنف ويكاد يزهق أنفاسها وهي تستعيد مسيرة حياة استمرت فيها معاناتها منذ نعومة أظفارها وإلى أن بلغت الثلاثين.
كم كانت قد تلقت من صدمات قتلت في نفسها الأمل وأنهكت قلبها الذي لم يعد يتسع للمزيد من المعاناة، ما جعلها تشعر بأن قلبها لم يعد فتيًا وبأنها رغم كونها لاتزال في سن الشباب قد تخطو خطوات سريعة نحو الخريف، وبأن العدّ التنازلي لحياتها قد بدأ يتسارع.
تساءلتُ أليس من حقها أن تتوق إلى تحقيق ما كانت تتطلع إليه طوال حياتها؟ أليس من حقها أن تأمل؟ تُرى متى سيكون بإمكانها أن تحقق ذات يوم ولو القليل من آمالها؟
لم تكن يومًا قد طلبت الكثير. كان أقصى ما تمنته وكل ما بحثت عنه طوال سنوات حياتها هو الشعور بالأمان والقليل القليل جدًا من الحنان، كل ما تمنته هو أن تعيش في كنف عائلة تتقاسم معها أعباء الحياة وتتشارك بالسراء والضراء.
كانت منذ فتحت عينيها على الحياة قد وجدت نفسها في ملجأ للأطفال، وبذلك كان عليها أن تحتمل جميع أنواع الضغوط لأنها لقيطة. ولم يكن ذلك كافيًا لجعلها تعيسة وإنما كان عليها أن تواجه السخرية والازدراء حتى ممّن كنّ في مثل وضعها لأنها كانت ذات عاهة كانت عاهتها أنها عرجاء.
لم تكن قد طلبت الكثير ممن حولها ولم تكن تجرؤ حتى على طلب القليل لأن جميع من عرفتهن كن يُعرضن عنها ويعتبرنها سقط متاع. كانت تقدم لمن حولها التضحيات وتؤدي لهن الخدمات لكي تحصل ولو على القليل من الاهتمام والرفقة لكن ذلك لم يكن مجديًا...
كانت تتساءل دومًا لماذا؟ لماذا كان قدرها أن تعاني؟... ألم يكن من الأفضل لها ألّا تكون قد رأت النور؟ أليس من الأفضل لها الآن أن تغادر الحياة، كي لا تستمر في تلك المعاناة؟
كانت تمضي الليالي باكية مُسهدة وهي تحاول أن تجد الإجابة لسؤال كان يلاحقها ويقض مضجعها. تُرى كيف كان بإمكان والداها أن يرتكبا مثل تلك الجريمة الشنيعة بحقها وهما اللذان كانا السبب في مجيئها إلى هذا العالم شاءت أم أبت. كانت ترقب القطط وهي تحتضن صغارها وتهاجم بأظافرها من قد يحاول الاقتراب منها. وتنظر إلى الطيور التي تكمن فوق فراخها الصغار كي تحميهم إلى أن يصبحوا قادرين على الطيران، وتأسى على نفسها .
كان قد طُلب منها عندما بلغت سن الرشد أن تغادر ذلك الملجأ وأن تبحث عن عمل يُعيلها. لم يكن أمامها وهي تفتقد إلى من يقدم إليها العون إلّا أن تعمل خادمة لدى إحدى العائلات الثرية التي وافقت على إيوائها واستخدامها لديها ولكن لماذا؟ لأنها لم مخالطتها لأفراد العائلة لم تكن ستشكل أية خطورة ولن تخلق أية مشكلات لأنها عرجاء كما لم يكن في شكلها ما قد يثير الاهتمام ! لكنها كانت مع ذلك قد شكرت الله على أنها وجدت لنفسها المأوى. وهي لاتزال منذ ذلك الوقت تعمل بكل جدّ وإخلاص منذ الصباح إلى المساء لكي تؤمن أسباب الراحة لجميع أفراد تلك العائلة ولفتيات في مثل سنها يرفلن بالسعادة دون أن تحصل من أي منهم حتى على كلمة شكر تعزّيها أو على لفتة اهتمام تؤنسها.
قيل لها بأنه كان قد عُثر عليها أمام الملجأ في لفافة وهي حديثة الولادة وبأنه لم يكن معها ما قد يشير إلى أصلها ولا أية معلومة قد يمكن الاستفادة منها للبحث عن والديها، وكانت نتيجة ذلك الإهمال قد أصيبت بالحمى وبشلل الأطفال ما جعلها تصبح عرجاء طوال حياتها.
كان ما يحذّ في نفسها أكثر وأكثر أن غالبية الفتيات في ذلك الملجأ كنّ قد وجدن من رغب بتبنيهن وبذلك أصبحت لديهن عائلة. كم تمنت أن تكون قد لفتت نظر احدى السيدات اللاتي كن يقصدن ذلك الملجأ لكي يبحثن عن طفلة للتبني؟ كم حاولت إخفاء عاهتها بطريقة وبأخرى كي تلفت نظر أو تثير اهتمام إحداهن بها!
كم تمنت وكم حلمت أن تكون تلك المرأة التي رمتها وتخلت عنها قد شعرت بالإثم الذي ارتكبته، وأن تأت للبحث عنها لكي تنقذها ولكي تعوضها عن كل الضياع وعن المعاناة التي سببتها لها!
كانت كثير من الأحيان تتصور في مخيلتها ذلك اللقاء بينها وبين والديها وكانت تحدّث نفسها دومًا:
"سوف أسامحهما. نعم ! يكفيني أن يبحثا عني لكي ينقذاني من هذا الضياع بإمكانهما أن يقولا بأنهما رغبا بتبنيها، أو أن يقولا لكي يخفيا جريمتهما بأنها ضاعت منهما أو... أو ... وأو ... لكن كان عليها أن تظل تلك الطفلة البائسة المنبوذة من جميع من حولها.
ثم أصبح هاجسها في الفترة الأخيرة أن تنهي حياتها لكي تلقى الراحة في كنف الكريم العادل. لكنها كانت تشعر بالجبن . فكرت بالهروب ولكن إلى أين؟ ومن الذي سيأويها وهي بمثل هذه العاهة؟
كانت ذات يوم قد استجمعت شجاعتها واعترضت على ما تلقاه من سوء معاملة مخدوميها لكن ما لقيته كانا السخرية والاستغراب وتلك الكلمات الجارحة التي لن تنساها:
"اشكري الله واشكرينا لأنك لقيت لدينا المأوى! من كان سيستخدمك وأنت بعاهتك هذه؟"
ألم يكن من حقها أن تطالب ببعض الرحمة ممن تخدمهم؟ هل الحنان وقف على من ابتسمت لهم الحياة بأن ولدوا في كنف عائلة؟
كانت وهي تستعيد كل ما مر بها قد بدأت تقترب شيئًا فشيئًا من ضفة النهر. كانت تقترب كأنها مدفوعة بقوة خفية سحرية بحيث لم يعد بإمكانها التحكم بخطواتها. كانت على وشك أن ترمي بنفسها في خضم تلك الأمواج الهائجة. أغمضت عينيها واقتربت أكثر فأكثر فأكثر وإذا بيدٍ تمسك بها بقوة وتبعدها عن حافة النهر. التفتت ورأت خلفها رجلًا اكتسى رأسه بحلة بيضاء من الشيب، رغم أنه لم يكن متقدمًا كثيرًا بالسن. كانت منذ النظرة الأولى إليه قد شعرت بأنه ممن يعانون مثلها. نظر إليها بإشفاق وبعينين دامعتين وقال:
" لا ... لا تفعلي ذلك يا ابنتي! ألست مؤمنة بالله تعالى ورحمته؟ تساءلت هل هو ملاك الرحمة ؟ وكان قد أغمي عليها لشدة الانفعال.
عندما استعادت وعيها وجدت نفسها مستلقية على أريكة في أحد المنازل، وشعرت بيدّ تربت على خديها برفق. أغمضت عينيها من جديد وهي تتمنى أن يطول ذلك الحلم الذي جعلها تشعر بالأمان. تمنت أن يطول ذلك الحلم لأنه كثيرًا ما كان يراودها في كل من النوم واليقظة. سمعت الرجل العجوز يقول لزوجته:
"تبدو هذه الفتاة يائسة وحيدة وبائسة. سوف نستفسر منها عن حياتها ولكن ما رأيك بأن نتخذها ابنة لنا ؟ قد تُعوضنا عن الابنة التي فقدناها."
أتعلمون من كان ذلك الرجل وزوجته؟ كانا والدووالدة تلك البائسة!
لم يكن والداها قد رمياها في ذلك الشارع المظلم وإنما كان أحدهم قد اختطفها بالتعاون مع إحدى الممرضات، ثم طلب من والديها مبلغًا كبيرًا من المال. وكان الخاطف عندما أبلغ والدها الجهات الأمنية عنه، وعندما كانت عناصر الشرطة على وشك العثور عليه بعد التحرّيات والتحقيقات التي تمت مع الممرضات ولكونه من أصحاب السوابق، وكذلك بمراقبة أرقام الهاتف التي كان قد يتحدث منها إلى والدها، قد أسرع لكي يتخلص بالهرب من البلدة إلى مدينة أخرى وكان هناك قد رمى الطفلة الوليدة أمام أحد الملاجئ.
كان الوالدان لسنوات قد بحثا عن الطفلة في جميع أنحاء المدينة لكنهما لم يعثرا عليها بالطبع. ثم شاء الله أن ينتقل عمل الوالد بعد ذلك إلى ذات المدينة التي كان قد تم إيداع تلك الفتاة في أحد ملاجئها، وبذلك جمع الله بينهما وبين عائلتها بعد مرور كل تلك السنوات.
هذه هي رحمة الله تعالى الذي لابد أن يفرج كربة المكروب وينصف المظلوم.
التدقيق اللغوي: لجين قطب.