عمليًا المسائل التي لا يمكن تصنيفها ضمن الإطار الطبيعي الواقعي المادي تُصنف ضمن إطار الفيما ورائيات، باعتباره أحد فروع الفلسفة المهتمة بدراسة المبادئ الأولى والوجود. بما يجعله يتناول بدراسته ظواهر النفس المختبئة، ليُدخل في مناقشة الظواهر الغريبة مثل الجن والأشباح والتخاطر. إنما ثمة فرق بين علم ما وراء الطبيعة والخيال العلمي، أما الأول فيدرس أشياء ملموسة في حياتنا إنما نعجز عن تفسيرها أما الثاني فيكون من تأليف البشر كمحاولة لابتكار أشياءً جديدة، أو لتنمية القدرات عند الشخص. إنما كليهما قد يلتقيان معًا في الأفكار؛ من مثل: السفر عبر الزمن أو ابتداع المُتحركة بديلاً عن الساكنة والتقنية الذكية مثيلة الروبوت في أجزاءها وموادها وتربيطاتها ومنها مبدأ ميكنة إدارة الشيء (الحركة الآلية الدافقة) وآخرها العالم الافتراضي.

 

يظل البشر متفقين في كُلِّ مرحلة من تلك المراحل البشرية، في كُلِّ زمانٍ ومكان، على أن الخيرَ والشر، التقوى والفجور وجوه  لعملةٍ واحدة، كما أن المالَ زينة الحياةِ الدُنيا، فأضاف إليه البشر شهوتين هما السلطة والشهرة. فبحث فريق في مخيلته عن كيفية الاستفادة من بيع الخيال للناس ليتكسب منه، فاتجه ناحية الطريق الآمن في صناعة الخيال المقروء، منه لعالم الخيال مرئي مسموع. لحَتَّى هنا فالحال ليس بمُسفٍ، فكلنا لدينا الرغبة في النهل من الفنون ليرتقي المُخبأ. أنما فريقٌ آخر اتجه المنحى السهل، فأغرق الناس في محفزات العيش

في عالم واهم عبرّ وسائل تغييب العقل: المخدرات والمسكرات انتهاءً بحبوبِ الهلوسة.

شأن كُلَّ ما في الحياة يتطور لآخر منحياتُ الرعب، فانبثق فريق ثالث، تجمعت شهواته الثلاث السلطة والشهرة والمال فاستغلوا الذكاء الاصطناعي في صناعة واقع افتراضي لتغييب العقل. أقلهم تقنية هم من اتجهوا ناحية الفضائيات فابتكروا العروض الكلامية الحوارية (التوك- شو)، ليطورها أصحاب النفوس الضعيفة ليتكسبوا المال بجذب أكبر قدر من المشاهدين بحجة أنهم يمثلون الرأي العام وأنهم ضمير البلد وأنهم السلطة الرابعة بجانب الصحافة الورقية. إنما كُلَّ ذلك لا يُدِّر المال، فالمُدِّر الحقيقي للمال هو الإثارة؛ الإثارة الجاذبة لأكبر قدر من المشاهدين في الهوجة الكلامية المُنتشرة فيها البرامج الحوارية بضراوة على القنوات الفضائية. فتحول الكثيرون للتشويق وتحويل الواقع الحقيقي لواقع افتراضي إعلامي، يبيع الوهم للناس. فانتشر التضليل والترويج لسلع ومعلومات أغلبها لجذب المشاهدين للحصول على المال، فبات أكثر المحاورين قدرة على جذب المشاهدين سواء بالإثارة أو الفتن أو التراشق والتلاسن الآن هو الأكثر شهرة بينهم. فبطبيعة الحال باتت الأضلع الثلاثة للحياة، مثلث السياسة والدين والجنس القاسم المشترك الأعظم في البرامج الحوارية، تلك المنابر التي يحتمي وراءها السياسيين، فيبزغُ نجمَ واحدًا منهم، ليأفل نجم واحدًا آخر.

مع إسهام تلك البرامج بما لها من سطوة على عقول الناس في البزوغ والخفوت، فاتجه المهتمين بالمل والشهرة والسلطة نحو تلك البرامج، إما بالتمويل لجني الأموال الطائلة التي تدرها القنوات الفضائية ناتج الإعلانات، إما بتقديم البرامج وصولاً للشهرة والمال، إما بالدفع من وراء الستار لتغييب العقول والإلهاء للوصول لمقعد السلطة أو الحفاظ عليه. إنما انفصل الأكثر قدرة على ابتكار الوهم لينتقلوا لمنتديات شبكة المعلوماتية على الحاسبات الرقمية، الديناصور القادم الفتاك للجماعات الإنسانية، هاتكًا لأهم رابط للبشر؛ التعارف والتقابل لإنشاء حيوات إنسانية بشرية طبيعية. خالقًا للعزلة المكانية، بائعًا للوهم عبرَّ شاشاتٍ فضيةٍ صغيرة باتت لا تتتعدى كف اليد الواحدة. شبكة المعلوماتة العنكبوتية التي فيها كُلّ ما في الحياة بغمضةِ عين وبلمسةِ يد أو ببحةِ صوت، فيها أيضًا الثلاثة بالثلاثة: السلطة والشهرة والمال- السياسة والجنس والدين. فنشأت المواقع تنشر الأخبار، متعاطفة مع جانب تجاه جانب آخر، ثم نشر البرامج الترفيهية ونقلها قبل انتهاء تصنيعها على (اليو- تيوب) في لحظات لأنحاء العالم، فتتطور منتديات الحوار والتعارف على المواقع، لتظهر المواقع التجارية والإباحية، لتخلق عالم افتراضي آخر يحيا فيه البشر بعيدًا عن الواقع الحقيقي.

ما زالت الحياة مستمرة، ليخرج العلماء بما اسموه صناعة الواقع الافتراضي، مُستفيدين منه في تطوير الصناعة والطب والعِمارة والعُمران. ليستغل القراصنة  ذلك في الجانب الآخر الشرير، لتظهر سلبيات التقنية في صناعة واقع افتراضي تخيلي ذا العلاقة ببيع الوهم من أفلام خيال علمي انتهاءً بالأفلام الإباحية. لينتقل سوق المتعة من الواقع الحقيقي لعالم افتراضي يُمكن للإنسان فيه ممارسة الرمثللة كاملة، بالاستعانة بأجهزة فائقة التقنية. ليظل الإنسان أسيرًا لبرامج واقع افتراضي مُخرجه من عالم الإحباط لعالم النشوة. \إنما البون شاسع بين واقع افتراضي تخيلي صنعه الإعلام الفضائي ممثلاً في مواقع شبكة المعلوماتية العنكبوتية الالكترونية، وواقع فعلي يعيشه البشر على مدار عمرهم القصير في أمكنة حياتهم المختلفة. كما أن أيَّ محاولةٌ لإزالة الحد الفاصل بين العالمين الافتراضي التخيلي والواقعي سيجر على البشر أخطار لا يمكن السيطرة عليها. فإذا قلنا أنا الواقع الموازي مثله كمثل كُلّ شيء  في الحياة له جانبين: القبيح والمضيء، فإن الجانب القبيح سرعان ما تلقفه الأشرار

ليصنعوا منه واقعًا مُغيِبًا للناس، ليبيعون له الوهم. سرعان ما تحول الأمر لمافيا منظمة لاصطياد أبطال الواقع الافتراضي، ليصنعوا منهم ومعهم واقع موازي جاذبًا لطالبي الوهم.

على الرغم من خطورة تلك المافيا على حياة البشر، إلَّا أن هناك مافيا أخرى صنعت من هذا الواقع الافتراضي مجالاً لجذب أكبر قدر ممكن من البشر، ليغرقوهم في وهم الحقيقية والواقع، تلك هي البرامج الحوارية (التوك شوك). فكُلَّ البشر في كُلِّ الدُنيا متعتهم في النميمة،  التعرف على أخبار الناس والوقوف على فضائحم وأفعلهم المشينة، فكلما كانت الإثارة عالية كلما تزايد الأقبال. إذا تتبعنا ما في البرامج الحوارية من موضوعات أو أشكال للحوار سنلاحظ أنها لا تمت للواقع الحقيقي بصلة. فالمكان الذي يبثون منه مجهز بأرقى التجهيزات، فيه أغلى فرشٍ وأفخرُ ثيابٍ يستضيفون النخبة التي تملك وتحكم. في المقابل يصورن بعض اللقطات المأخوذة من مناطق تتقارب مع بعض شرائح المجتمع لإضافة لمسة واقعية على ما يقدمون. إنما في الحقيقية يظل البون شاسع أيضًا بين ما تقدمه وتتناوله تلك البرامج الحوارية وما هو واقع فعلاً في مجتمع أكثر من نصفه لا يمتك قوت يومه، فيبيع له المحاورين الوهم.

لم يكتفوا بالحوار، إنما بدءوا في البحث عن موضوعات الإلهاء والإثارة، فتحولت برامج الواقع الافتراضي لاستديوهات رياضية وفنية تتداول الفضائح والدجل والشعوذة والإثارة، حَتَّى آخر رمق بشري. أما ذلك الواقع الافتراضي ففي أحواله الكثيرة في الدول النامية غيرّ القادرة على التفكير العميق، التي ما زالت تحبو في اتجاه الحرية واحترام حقوق الإنسان، فإني أراه حالاً، كما كان يراه الحكواتي في الزمن الفائت، فيما- كان يتناول قضايا الدراويش وأهل الحظوة. فما الفائدة من كلام الأراجوز في الموالد وعلى النواصي؟ لمة عيال؛ صخبٌ وهيصة؛ طبلٌ وزمر؛ توهةٌ وعيطة؛ قرقعة؛ في النهاية لا طحن ولا عجين. سيقولون: الإعلام نبض الشارع، عارض الحقائق، السيف المسلول أمام فساد كُلّ مسؤول، قلت والله؟ أيّ منذ متى؟ الفجوة بين ما يحدث في الواقع الافتراضي والواقع الفعلي عميقة، >جابة< كما يقول العامة لمرادف كلمة فجوة gape باللغة الإنجليزية، تلاحظ ذلك من كم الانفعال البادي على ملامح من امتهن مهنة إدارة ذلك الواقع وصنعه. أما الاكتشاف غيرّ المستبعد عن اتساع الجابة فيبدو في ردة فعل من في داخل الجابة لأيَّ حدث كان.

فعلى الإعلام الحكواتي أن يهدم الواقع الافتراضي، أن يحيا في عالم الواقع، أن يقتنع كُلّ فرد منهم أن غيرّه في الواقع يحب هذا البلد، إلى أن يثبُت العكس بالدليل القاطع، كما يقول مطرب منهم: >ليس كُلّ من بيغني لها يقول باحبك يكون بيحبها<، لماذا هذا اللغط والاستئصار بالمحبة؟ بل والتشكيك في الآخرين؟ حَتَّى لو كنت فنان يتوهم إنه كبير.

قالوا هم: كلام أغاني، قلنا نحن: وإن كان، فالكلام أشد من الرصاص، الناس تهلل وراءه. مِثْلَمَا كان شاعر الموال زمان يغني عن الخسيس والأصيل فيهلل الناس كأنهم كلهم هم الأصيل إنما الخسيس شخصية اعتبارية أسطورية.

مرة أخرى عودة إلى الواقعين الافتراضي والفعلي، قلت: من أين يجيء الوالي؟ قالوا: من بين أفراد الرعية، قلت: إذن إن تغير الولاة وجاءت ولايات أخرى فإنها لن تهبط علينا من بلد آخر؟ قالوا: كَلَّا طبعًا. ليرددوا بعد تفكير، بالطبع ستأتي من بين أفراد الرعية، قلت: من أين يأتي رجال الصحافة والإعلام؟ قالوا: من بين أبناء الرعية، قلت: من أين يأتي المدرسون والأطباء وعمال المصانع؟ قالوا: من بين أبناء الرعية، قلت من أين يأتي المتسولون والشحاذون والآفاقون؟ قالوا: ماذا تقصد؟ قلت: أن يكون لدينا واقع واحد باين، فكُلَّ الناقدين أصحاب الحناجر وإن حلوا هم محل هؤلاء وجاء هؤلاء محل أولئك فهل سيتغير الحال؟ قطعًا أبدًا، لن يحل شيئًا، فكله إحلال وتجديد في الظاهر، إنما مسألة الباطن هي الأهم، الاقتناع بأن من هم في الواقع الافتراضي ليسوا أفضل ممن يبانون في الواقع الفعلي، فكلهم من ذات الطينة، خرجوا من أنظمة التعليم ذاتها، من نفس منظومة الأخلاق والآداب بعينها، أرحمونا يرحمكم الله؛ فالله خير شاهد على أفعالكم.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية