أحيانًا تحاولُ ألاّ تكتب، تحاول أن تلزم الصمت، أو الحياد بلغة العامة، ولكنّك تشعر بدافع كبير، يشدّك من لسانك، ويدفعك للحديث، كما يدفع بك الظمأ السير للماء! وهناك من تكون حاجتهم للحديث أشدّ من حاجتهم للماء؛ لأنّ الحياة عندهم تكون بمقدار ما يفعلون لا بمقدار ما يشربون.
إنّ الذين لا يستمعون للحديث، ولا يروق لهم التفكر والتدبر في مظاهر الحياة ومواقفها اعتادوا دون شكّ أن يعيشوا لذاتهم، فيفكروا فيها فقط، ويحلموا لها، ويعملوا وفق ما تشتهي، لا وفق ما ينبغي. أولئك اعتادوا أن يسيروا عكس التيار دائماً، ويعتقدون أن الأمر كله يملكونه. وأنّ الدنيا حبالها بأيديهم، يشدونها متى شاؤوا، يخلون سبيلها عندما يطيب لهم ذلك.
ولن أستقصي كثيرًا، فالداء الذي استوطن عقولنا يأبى الرحيل، وقلوبنا في حالة رقص، أشدّ ما يكون الرقص جنونًا، ولا يكون ذلك وفينا قليل من عافية، أو ضمير نسمح له أن يقول كلمة الفصل!
وما من داءٍ أشدّ فتكًا بالشعوب من الجهل والتجهيل، وذلك ما نشكو منه؛ الجهل الذي لا يقف معناه عند خط ظاهر، أو معنى قديم، بل يقفز معناه فوق كلّ الضروب التي لا تعني إلا التأخر والتقهقر خلف الأمم والحضارات. وأنت تجد في كثير من المجالس الثقافية، كلاماً جميلاً وأهدافًا سامية، تعبر عن مدى الحرص على الوعي، والنهوض والتقدم والمحافظة على كلّ المراكز أو الأماكن التي يتولدّ فيها العلم.
كثيرة هي تلك المراكز، وكثير هم الذين يحملون الأمانة بصدق وانتماء وإخلاص! ومن يستطيع أن ينكر قيمة العلم؟ أو ينكر رأي الماضي والحاضر فيه؟
من يستطيع أن يقلل من حاجتنا إليه في كل وقت؟ وبخاصة في ظلّ هذه الظروف المعقدة، التي تلفنا من المحيط إلى الخليج كظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها.
إنّ المأساة الكبرى، لا تكمن في قلة العلم، أو قلّة المتعلمين، أو عدد المراكز العلمية؛ فعلّتنا ليست في ذلك، فمدارسنا وجامعاتنا وافرة، ومعاهدنا ومراكزنا مبثوثة في كلّ اتجاه. لكنّ العلّة أننا لا نحبّ العلم لكونه علماً فحسب؛ ولا لأنه ذو فائدة ونفع كبيرين، ولكن لأنه وسيلة للكسب، أعني كسب لقمة العيش، ولأنه طريق نتسابق فيه لنيل الرتب والمناصب، وكأننا نريد منه الذي لم يوضع له أصلاً، حتى فقد أو أصبح يفقد كثيراً من بريقه وشعاعه ثم مزاياه وأخلاقه أيضًا.
ولستُ أبالغ إن قلتُ أنّ مكانة العلم والمتعلمين قد انحدرت إلى أدنى درجاتها في حياتنا اليوم! فبات لا يثير فينا شئياً من المتعة التي كان يحققها في العقود الخالية، وغدا المتعلمون لا يثيرون في النفوس إلا الفكاهة والدعابة، وربما السخرية بعض الأحيان. ولعلّ الأهم في هذه الكارثة أنّ العلم انفصل عن حياتنا، فصار لا يلامسها إلاّ في النزر اليسير في قاعات الدرس، أو خطب يوم الجمعة، أو ما يكتبه بعضنا في هذه الصحيفة أو تلك!
وكأنا ليس من أمّة اقرأ؛ التي نزل عليها القرآن الكريم، فقلب حياتها من جفاء البادية إلى لين التحضر، ومن فظاظة الطبع إلى سماحة الدين الجديد، فأوجد لها قلباً مُحبّاً للخير غير الذي كانت تعيش به في الجاهلية، وعقلاً وقّادًا غير الذي حملته في داحس والغبراء أو البسوس!
أجل، قد انحدرت مكانة العلم وطالبوه في هذا الزمن، ليس لعيب في العلم ذاته؛ بل لتبدل المقاييس التي نستعملها في حياتنا، تلك الحياة التي تسيطر عليها القوة الاقتصادية، فما نفع العلم إن كنت فقيرًا؟ أتستطيع أن تأكل وتشرب وأنت تقتني الكتب والمجلات فتقرأ أو تكتب؟ ما نفع العلم يا صاحِ، وفلانُ يحصد الأموال من التجارة أو الزراعة أو لممارسته مهنة ما؟ وطريق التجارة أو الزراعة أو المهن لا تحتاج من سني الدرس ما يحتاجه طالب العلم؟
إننا لا نعاني بقدر ما يعاني العلم فينا! معاناة ندركها تمام الإدراك، فتراه يتألمُ ويتوجعُ ويتمزق، ويكاد يفقد معناه، ويصيح مقتولاً، من ممارساتنا وتبدل معتقداتنا، ويعوذ هو في بقايا أنفاسه من شرها، ونحملُ خطاياها بكل حسرة وألم!
إنّ العلمَ يا صاح، حين يعجز عن ممارسة الدور الذي رُسِمَ له لا يكون عندئذ علمًا محضًا! بل يصبح كابوسًاً لا يجلب سوى التخبط والفوضى. ونحن نتوهم أنه الصواب، وهو المصيبة التي تنوح فينا من الأعماق.
العلم يحرك الإنسان، يبعثه من الجمود، كمصباح الكهرباء ما إنْ يسري فيه التيار حتى يشع نورًا! يسمو بالإنسان نحو المثل والقيم العليا، يصبح صحيح العلم بانياً، داعيًا للخير والصلاح في بلده وأمته، تسعدُ بلقائه، وتأنس بأقواله، وتستمتع بمجالسته، وكأنه زهرة لا تقوى إلاّ على أن تنشر الطيب في ريحها المنبعث، والنضارة في لونها الجميل!
وأنت حين تبحث عن بعض هذه المعاني، تكاد لا تجد منها شيئًا، فتلقى - إن لقيت – رجلاً يفيض لسانه علمًا، وأفعاله لا تتصل بالعلم في شيء! فهو يسرق ويرتشي ويغشّ ويتلون ظانًا كل ذلك من الفطنة والدهاء والعلم!
وبعض هؤلاء تجدهم يأخذ من العلم ما يحقق له المنفعة فقط، وحين يجد شيئًا يتعارض مع أهوائه يلقي به جانبًا، فيزدريه، ويعدّه بضاعة كاسدة!
إنّ العلم يا صاحِ، هو الذي يميز بين عقل وعقل، وبين حياة أمة وأمة، فيرفع القيم والمبادئ، ويسمو بالمثل، ويسير بصاحبه إلى راحة النفس، ومتعة الروح، والشعور بالنشوة. وحين تعمل يسكب فيها لذة العمل، فتشعر بسعادة غامرة وهي تقضي وقتها لحظة بلحظة، كالذي يبني قصرًا منيفًا لبنة لبنة، كلما انتقل من لبنة تاق إلى الأخرى. وقد تجمد العلم في حياتنا، ولم تعد الدماء تجري في عروقه، ليس لأنه يتجمد؛ بل لأننا أردنا له ذلك، وكتبنا له أن يمرّ كيف نشاء نحن، لا كيف يشاء هو، فوصلنا إلى وصلنا من اليأس والعجز، والتأخر والفوضى حتى صدق فينا قول شاعر النيل:
إن كان عهدُ العلمِ هذا شأنُه فينا فعهدُ الجاهلية أرْفَقُ
وما وصل العلم ولا المتعلمون ولا العلماء إلى ما وصلوا إليه من قهقرى، إلاّ لوجود خلل كبير في شبكة الإيمان التي نحمل وشمها، ونجهل فهمها، وهي أولى أن نقف عندها؛ لأنّ العلم والتطور والبناء والرفعة كلها معانٍ سامية تنبثق من شجرة الإيمان، وجذور العقيدة الصحيحة. لذا لا خير في أمّة تنسلخ عن عقيدتها، وتتنكر لماضيها، وترمي عصور الحضارة والانتصار بالتخلف والرجعية؛ فما بعد ذلك من عجب!
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دينٌ لمن لم يحي دينه
ومن رضي الحياة بغيره فقد جعل الفناء له قرينا
تدقيق: لجين قطب