جاءتني إحدى بناتي وقالت لي في عبقرية ملفتة : لقد اكتشفت هذا الرمضان اكتشافا خطيرا, ولما استفسرت منها , قالت انها اكتشفت أن سوء خلقها المعتاد أمر لاعلاقة للشيطان فيه!! أختها التي لاتقل عبقرية عنها اكتشفت كذلك في هذا الرمضان أن "عمرو خالد" داعية استثنائي , ولكنها طلبت الي – وكأنني رئيسة مجلس الدعوة العالمي – أن أطلب اليه أن يغير من أسلوبه في الدعاء نهاية كل حلقة من حلقاته التي دعت البنت الى ترك صلاة التراويح في المركز الاسلامي والجلوس في البيت للاستماع اليه في قناة اقرأ , ابنتي الثالثة قررت أن لاتنقطع عن حضور صلاة القيام في المسجد السعودي في مدريد كل سَحر ومهما كلفها ذلك حتى لو كان تضييع محاضرات البروفسور " فنخول" أستاذ اللغة العربية في جامعة الأوتونوما في مدريد مدريد والذي يعتبر ابنتي المسكينة ممثلة عن العرب والمسلمين في العالم وهو يدعوها الى النقاش والحوار والتفكير في ضرورة احداث ثورة في لغتنا تخرجها من المأزق الحضاري الذي حصرت فيه!.
"م" ابن آخر اتصل من مدينته العربية التي ذهب يزورها في رمضان بعد انقطاع سبعة أعوام , قال : هل تدرون أين أمسيتُ ياأم عبدو– يعني أنا- ؟: إنني في محطة للوقود مقطوعة بي السبل منذ ساعتين , وقف بنا الباص في هذه المحطة , دخلت الحمام قلت في نفسي ياولد توضأ وصليلك ركعتين في الباص فنحن في رمضان , خرجت فلم أجد لاالباص ولا حقائبي ! ومنذ ساعتين لم أجد أحدا يحملني معه الى مدينتي ! ثم أردف لو كنت في" تل أبيب" لوجدت من يشفق علي ويرحم غربتي وصيامي !.. قلت له لاتحزن والله لقد حدث معي مثل ذلك في مكة نفسها وداخل فندق يطلّ على الحرم الأعظم , وكنت قد ضعت في ذلك الفندق مع ابني الصغير ولم يرض أحد أن يدلني على باب الخروج ولأكثر من ساعة وفي ليلة القدر من العام الماضي !!.
"ع" أرسل لي عبر الايميل رسالة يسألني فيها رأيي في بعض ماكتب من شعر أو نثر وقال انه انتهز فرصة رمضان ليبارك لي في هذا الشهر العظيم وليقول لي انه ومنذ نصحته بنقل مايكتب في الانترنيت الى الصحافة الورقية التي لايستغنى عنها , أصبح وتنشر له خمسة من أشهر الصحف العربية , فأرسلت اليه أقول : لك ياابني والله ان خالتك أم عبدو –يعني أنا – لاينشرون لها الا في الراية القطرية – وليس كل ماتكتب !- وفي مجلة المجتمع بين الحين والحين!.
أما عمار فله قصة أخرى ....بعد انقطاع عامين ...أرسل الي رسالة يبارك لي فيها برمضان يقول هل تدرين أين ابنك ياأم عبدو -يعني أنا- ؟ انني متهم باختطاف قسيسّ في كنيسة هنا في كندا حتى يبتّ القضاء الكندي بأمري ويمتنع من تسليمي الى السلطات الأمنية الحنونة في بلدي !!!.. ابنة عم لي خبرتني هاتفيا تبارك لي برمضان فقالت لي كنت أرتب خزانة ابني فعثرت على آلاف الصفحات التي يحتفظ بها من المحادثات التي كانت تجري بينك وبينه في الميسنجر قبل اعوام قد طبعها واحتفظ بها !! اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا في الدنيا والآخرة !.
"غ" باركت لي برمضان وأخبرتني أنها تزوجت أخيرا بعد قصة عجيبة وغريبة ومثيرة لألف سؤال وظنت أنني غاضبة بسبب تلك القصة التي أدخلتني فيها دون أن يكون لي فيها من ناقة يومها ولاجمل الا حق الاستشارة وواجب النصح لكل أبنائنا الذين جعلوا من غربتنا وشيجة ونسبا بيننا وبينهم وحبلا ثخينا لايكاد يقطعه شيء كائنا ماكان , لانه متصل بحب وثقة وود ودرب وفكرة وطريق ومواثيق وثقة واحترام وأخوة وأمومة !.
"ك" لاول مرة يذهب الى مناوبة ليلية كطبيب بعد ثلاثة أعوام من تخرجه قضاها في مدريد متنقلا بين دوائر الهجرة والشرطة واذهب وتعال وخذ وهات , لايريدون أن يعدلوا له شهادته ولاأن يعترفوا له بدراسة الطب التي كان فيها من المتفوقين المتميزين حتى كاد يقتنع بأنه لن يكون طبيبا قط , لكن الله أخذ بيده وجعله في المكان الذي كان يجب أن يكون فيه بعد سنوات من العذاب وتبديد الجهود ...رأيته بالصدارة البيضاء وتمنيت على الله لو كان باستطاعة أمه أن تراه في تلك الليلة , ولكنها هناك بعيدة في بيت حانون تحت القصف والقهر والحصار , قد أسلمت فلذة كبدها للغربة التي كانت من حيث لاتدري سببا لوشائج من الاخوة والمحبة االتي يفتقد كثيرون الشعور بها وفهمها واستيعابها!.
"ب" كانت في مبنى الجمعية الاسلامية ساعة عقد قرانها تبكي في حرقة وشدة , ذلك أنها وفي ظلال رمضان اضطرت أن تتزوج وحيدة بوصاية الجمعية نفسها لأن أهلها الذين كانوا قد تركوها سنوات طويلة وحدها للدراسة في اسبانية كانوا قد امتنعوا الآن من حضور هذا الحفل ليس لأن الزوج لايصلح لابنتهم , فهو حامل لدرجة الدكتوراة في اللسانيات , ومن بلد مجاورة لبلد الأب الذي يعمل وزيرا والذي كان قد تزوج من أمها السورية ولم يجد حينها في اختلاف الجنسيتين العربيتين حرجا !, وليس لان الزوج يفتقر الى احد الشروط الشرعية فهو شاب وسيم في مقتبل العمر يمتلئ صحة وشبابا ومروءة وعقلا وأدبا وخلقا , ولكن الأهل غضبوا على ابنتهم ورفضوا زواجها لسبب واحد فقط هو أن الزوج أسود لون البشرة!.
قبل ذلك وفي رمضان كذلك اجتمعت بسيدة سورية كانت تدعو الله بحرقة على ولدها الذي أرسلته للدراسة في مدريد وكانت تردد على الملأ الله يغضب عليه الله لايوفقه فضحنا ! فذعرت ولم أقترب من امرأة تفعل هذا بولدها , وسألت الناس عن الأمر وقد ظننت أن الشاب قد ارتكب جرما فظيعا أو انتمى الى القاعدة !!! فاذا بالفتى الذي لايتجاوز الثالثة والعشرين من عمره قد تزوج من فتاة مغربية سوداء البشرة في غاية من الجمال والرقة والكمال , وكان ذاك بالنسبة الى أمه ذنب يستحق من أجله أن تنزل به كل هذا الحجم من الغضب والحقد!.. "لو أنه تزوج من اسبانية ؟" هذا ماكانت تقوله تلك الأم وتردده طوال الوقت دون توقف حتى كادت تزهق روحها!!.
قصص الحب والعشق تكثر في رمضان بين اولادنا في هذه الغربة ولاأدري سببا لذلك ؟ هل هو رمضان؟ الذي يرقق القلوب فتهوى وتعشق بدلا من أن تعود الى ربها وتخشع ؟ أم هي فرصة اللقاآت التي تتم على هامش رمضان في المراكز الاسلامية والنوادي الثقافية والمطاعم العربية المنتشرة هنا وهناك فيحدث أن يرى الشاب أو الفتاة من ينجذب اليهم من أبناء وطنه الكبير الذي تذيب الغربة حدوده ويفتت البعد والنأي عنصرية بعض أقطاره , ويشعر الشاب من ابناء الجيل الثاني هنا أن ارتباطه بمن هم مثله من اخوانه أشرف وأفضل واتقى لله من الوقوع فيم لا تحمد عقباه !! لاأدري ؟ كل الذي أدريه أنه رمضان شهر أولادنا الذين هم من دمنا ولحمنا كما أولادنا الذين تربطنا بهم وشائج هي أقوى من الدم واللحم والعظم معا.
على مائدة الافطار في بيتي يوم الجمعة الماضية كان هناك عشرة من الأبناء , أو على الأصح كانت هناك جامعة الدول العربية مجتمعة من مصر والسودان وسورية وتونس والجزائر ولابد أن تفوز المغرب بالسبق في اي احصائية للعرب في مدريد , ولكن النجوم الساطعة لكل لقاء رمضاني هم الفلسطينيون دون أدنى شك , حالة استثنائية فازوا بها بحق وجدارة منذ اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة هذه , لايطيب افطار في رمضان من دون ابن فلسطيني يشرفنا ويشرفها , ويجعلنا نشعر ولو للحظات أننا معهم وأنهم معنا يداً بيد وكتفاً بكتف وروحاً لروح , وذلك على الرغم من ظلم المقارنة!! فهم يقدمون دماءهم ونحن نقدم المُسخن الذي لانجيد طبخه مثلهم , وهم يقدمون صبرهم ورباطهم ونحن نقدم الشاي بالميرمية طعمه طعم القدس العتيقة الصامدة المجاهدة الشامخة.
بين ابنتي التي اكتشفت أن سوء خلقها لم يكن بسبب الشياطين التي تصفد في رمضان , وبين ابن لي فلسطيني أهداني مرة شريطا فلسطينيا بعنوان "ياأمي الحنونة " منحني فيه شرف أن أكون أماً لنصف شباب مدريد في غربتهم , اكتشفت أنا كذلك أن رمضان وشيجة ليست كالوشائج, وأنه في الغربة يصبح نسباً لنا ودماً وأسرة وحباً وقلباً كبيراً يلم شتاتنا ويجمعنا على موائده الكريمة وطناً للمغتربين وأمناً للذين انقطعوا عن الدار والأهل , وخريطة فرح حزين تثبت أننا أمة واحدة ذات رسالة عظيمة خالدة !! أبى من أبى ورضي من رضي.
وكل عام وهذه الأمة ماتزال بخير.