لاشكّ بأن كل منا يُدرك - إلى حدّ ما - ما يترتب على الحروب التي يشنّها البشر مهما كانت دافعها وتبريراتها، من جور، ومن مظالم، ومن دمار في البُنى التحتية والاقتصادية ، وكذلك من فساد أخلاقي وانتهاك لجميع المعاني الإنسانية. كما أن كل منّا يعرف جيداً ما تسببه الحروب من كوارث وويلات.
وانطلاقاً من التجربة الشخصية التي أمرّ بها حالياً في وطني فقد رأيت بأن عليّ أن أبين للقارىء ما نمرّ به في هذه الحرب الجائرة على الرغم من أنني لو أردت أن أعدّد البعض فقط من الآثار الفتاكة، والويلات التي تنجم عن الحروب، خاصة في هذا العصر الذي شهد - مع كل أسف - تطوراً كبيراً في آلة وترسانة الحرب وفي أسلحتها المدمرة، لكان علي أن أكتب صفحات وصفحات، سوف تضع القارىء في النهاية في متاهة ولابدّ أن تجعله ينظر إلى عالمنا نظرة تشاؤمية ويفقد الأمل في كل ما هو إنساني، ويعتبر بأننا بعد أن وصلنا إلى هذا القدر من الحضارة والتطوّر، قد عدنا إلى عصر شريعة الغاب، وأن يعتبر بأن المفاهيم الإنسانية قد تغيّرت بحيث أصبحت الحياة للأقوى وليس للأصلح.
وأتمنى أن يعمد كل من يتحلى - في كل دول وأصقاع العالم - ولو ببعض الحسّ الإنساني وببعض العقلانية أيضاً أن يتأمل بهذه النتائج الكارثية الفتّاكة وبهذه الويلات كي يعمل على تجنب الانخراط في أية حروب. و أورد على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً:
اضطرار آلاف العائلات خاصة ممن هم من الطبقة الفقيرة أو من المقيمين في القرى إلى النزوح إلى أمكنة أخرى إما إلى خارج منازلهم أو إلى خارج الوطن.
فمن نزح إلى خارج الوطن طلباً للأمان قد أصبح يعيش على هامش الحياة في مجتمعات لا ينتمي إليها أو في مجتمعات قد لا تتقبله وقد تعتبره أحياناً عبئاً اجتماعياً واقتصادياً عليها، وبشكل خاص من لم يجدوا ملاذاً أمامهم سوى الإقامة في المخيمات. مما جعلهم يحرمون من أقل قدر من سُبل العيش الكريم عدا عن حرمانهم من الشعور بإنسانيتهم.
وأما من اضطروا إلى النزوح إلى المناطق الأكثر آماناً في ذات مدنهم، ومن أقاموا من بيوت الأقرباء فقد أدى ذلك إلى اضطرارهم إلى العيش المشترك والسكن الجماعي، بحيث تعيش عدة عائلات في مسكن واحد بحيث تُخصص لكل عائلة غرفة واحدة، مهما بلغ عدد أفرادها وبمنافع مشتركة، على الرغم مما قد يكون بين القاطنين من اختلاف في البيئة والعادات.
وهو ذلك الاختلاط الاضطراري الذي لابدّ أن يؤدي إلى العديد من المشكلات الاجتماعية.
ثانياً:
هجرة الأدمغة والكفاءات، وبالإضافة إلى ذلك هجرة العمالة الفنية المتخصّصة، حيث يغادر البلاد غالبية الأطباء والمنهندسين والمحامين والفنيين المختصين بحثاُ عن سبل أفضل للعيش أو عن مكان أكثر أمناً واستقراراً، رغم ما في ذلك من تقصير في واجب كل منا نحو وطنه ونحو مواطني بلده، ورغم أن تخليهم عن واجبهم الوطني وعدم استعدادهم لمؤازرة إخوانهم في الوطن الواحد يعتبر بمثابة الأنانية وعدم المبالاة بوطن نشأ فيه كل منهم وترعرع فيه.
ثالثاً:
كما أن من أخطر الآثار الاجتماعية للحروب ما قد تتعرض إليه المرأة والأطفال والفئات الناشئة بشكل خاص.
بالنسبة للمرأة:
فمن المؤسف أنها من تدفع الثمن المضاعف لمثل تلك الحروب الجائرة نظراً لما تتعرض عليه من الأمور التالية:
أ- التحرش الجنسي.
ب- الزواج الاضطراري غير المتكافىء وغير الإنساني للفتيات القاصرات، وذلك لأسباب كثيرة منها رغبة البحث عن الستر والأمان، وبعضها نتيجة لرغبة أرباب العائلات الكبيرة بالتخلص من مسؤولية إعالة جميع أفراد العائلة في مثل ظروف الحرب الصعبة.
أما بالنسبة إلى الأطفال:
فهم مع الأسف، عدا عن فقدانهم لبرائتهم وطفولتهم، قد يصاب أكثرهم بالأمراض نتيجة فقدان المواد الغذائية واللقاحات، كما قد يُصابون بعدم التوازن النفسي نتيجة الرعب من دويّ القنابل والقذائف مما يجعلهم يستيقظون ليلاً وهم يصرخون في كل ذلك كما نعلم تأثيره السلبي الضار جداً على الأجيال الناشئة.
وأما بالنسبة للناشئين:
فهم نتيجة حرمانهم من التعليم النظامي قد يتحولون إلى مُعلين لأسرهم، بأن يتم تكليفهم بممارسة بعض الأعمال البسيطة طلباً للموارد المالية. والأخطر من ذلك أنهم بسبب الظروف الصعبة التي تحيط بحياتهم قد يتحولون تدريجياً أيضاً إلى تجار فرص يمارسون أساليب الغش والإحتيال. عدا عن أن الكثير منهم يفقد بالتدريج الرغبة بالتعليم نتيجة تطلعه إلى الكسب السهل بممارسة تلك الأعمال الصغيرة.
رابعاً:
من المؤسف أيضاً ذلك التغيير الذي قد يحدث في البُنية الاجتماعية للمجتمع. ففي الدول التي تعاني من الحروب قد تظهر طبقة جديدة من تجار الفرص وأثرياء الحرب ممن يجمعون ثرواتهم على حساب غيرهم من المواطنين باللجوء إلى أساليب الاحتكار وبالتلاعب بالأسعار وبمختلف أساليب الغش التي قد تصل أحياناً إلى بيع المواد التي انتهت صلاحيتها وغير ذلك من طرق الفساد. وفي كل ذلك ما يمكن أن نطلق عليه تعبير استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
خامساً:
ومن أخطر نتائج الحروب أيضاً قيام بعض أصحاب النفوس الضعيفة والمُتاجرين بالشعارات باستغلال ظروف الحرب لإثارة النعرات الطائفية بين أفراد المجتمع الواحد. أو قيامهم بسبب انعدام الرقابة والانفلات الأمني، إلى انتحال صفة رجال الأمن أو صفة الفئات المحاربة لأهداف دنيئة مثل السرقة والترويع أو إلى التعدّي على الحرمات ... إلخ.
سادساً:
التشتت الذي يحدث في بُنية العائلة الواحدة إما لسفر أكثر أفرادها بحثاً عن سبل العيش الأفضل، أو للسبب الذي هو الأكثر خطورة وهو الاختلاف الذي قد يحدث في وجهات النظر وفي الانتماءات بين أفراد العائلة الواحدة.
سابعاً:
التوتر الذي ينشأ ضمن نطاق العائلة بسبب ضيق الموارد، حيث يجد ربّ العائلة صعوبة في تأمين موارد العيش أو إنه قد يخسر عمله، مما يكون له انعكاسه السيء على الزوجة وعلى الأولاد، كما أن لذلك أثره السيء في تعامل أفراد المجتمع فيما بينهم.
ثامناً:
ومن النتائج الطبيعية لما في الحروب من رعب ومن أهوال أن يُصاب العديد من الأشخاص بالاكتئاب نتيجة الضغوط النفسية ونتيجة ظروف الحياة الصعبة جداً التي تحيط بهم من كل جانب مما يؤدي إلى أن يخسر المجتمع الكثير من الكفاءات.
تاسعاً:
امتناع وتخلف أصحاب النفوس الضعيفة عن أداء التزاماتهم المادية سواء أكانت تلك الالتزامات من ديون للغير أو أنها من التزامات المواطن تجاه الدولة كالضرائب وغيرها، وكذلك ما قد يحدث من مخالفات في الأبنية السكنية نتيجة عدم توفر الرقابة.
عاشراً:
فقدان الكثير من المواد الغذائية الأساسية مثل حليب الأطفال نتيجة احتكارها من تجار الفرص وكذلك فقدان بعض المواد الطبية والصيدلانية نتيجة توقف معامل الأدوية عن الإنتاج، وكذلك فقدان المحروقات والغاز وغيرها.
أحد عشر:
ازدياد المحسوبية وتفشّي الرشوة في الإدارات العامة والمؤسسات حيث يعتبر الموظف أن ما يقوم به من عمل ليس من واجباته المسلكية وإنما هو خدمة يؤديها لمن يحتاجها لذا فهو - حسب رأيه الخاص - يستحق عليها المكافأة على الرغم من تقاضيه راتبه من الدولة. كما أن الموظف قد يحصل على الرشوة لقاء تسهيل أمور البعض على حساب مصالح الآخرين.
إثنا عشر:
ارتفاع نسبة البطالة بسبب توقف بعض المشاريع الصناعية أو المعامل عن الإنتاج نتيجة الاشتباكات أو نتيجة للدمار أوالتخريب أوالأعطال الذي يصيب المرافق الحكومية.
ثلاثة عشر:
شعور الحقد الذي قد يتغلغل في نفوس أفراد المجتمع الواحد، بحيث ينظر من هم أقل موارداً أو من يعيشون ظروفاً أكثر صعوبة، نظرة حقد لمن لديهم سبل العيش الأكثر راحة ورفاهية.
أربعة عشر :
التخريب الذي يُصيب البُنى التحتية، والانهيار المتسارع للاقتصاد نتيجة توقف الإنتاج أو بسبب ما قد يصيب المنشآت من تخريب، وبالتالي توقف عمليات التصدير أيضاً وهو ما يؤدي إلى هبوط قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، كما يؤدي إلى الارتفاع الجنوني لأسعار المواد المستوردة وحتى المنتجة محلياً نتيجة ارتفاع قيمة المواد الأوليّة.
خمسة عشر:
الأعطال والانقطاعات في التيار الكهربائي وشحّ المياه بسبب التخريب والانقطاعات التي تحدث في الاتصالات سواء أكان ذلك في الاتصالات الهاتفية أو في شبكات الانترنت عدا عن التلوث الذي يصيب الأجواء نتيجة تصاعد الغازات السامة.
وأخيراً لابد لي أن أشير أيضاً بأن الحروب، مع كل ما فيها من ويلات، وعلى الرغم من آثارها السلبية قد تتمخض أحياناً عن بعض النتائج التالية:
- ازدياد الوعي والشعور الوطني وتبلوره في ظروف الحرب.
- ازدياد عدد المؤسسات الخيرية التي يحاول أفرادها بذل كل ما بوسعهم لمساعدة المنكوبين من الناحيتين المادية والمعنوية.
- ازدياد التواصل والمشاركة الوجدانية بين أفراد المجتمع من أقرباء، وكذلك ازدياد التقارب بين الجوار.
- ازدياد الوعي السياسي لدى المواطن ومتابعته بأكثر من الاهتمام الأحداث التي يمر به وطنه، وهو ما يتجلّى بشكل خاص لدى الناشئين الذين ينضج الكثيرون منهم قبل الأوان نتيجة متابعتهم للأحداث.
كما لابد أن أشير أيضاً بأن أسوأ الحروب وأكثرها جوراً وظلماً ومخالفة لأقل القواعد الإنسانية هي الحروب الأهلية التي تجعل المواطن يقاتل أخيه في وطن واحد.
لذا فعلى كل من يتورط في أية حروب أن يتذكر بأنه عندما يقاتل فهو بذلك يقاتل شقيقه في الإنسانية.
التدقيق اللغوي: هبة العربي