تنقسم موضوعات المناظر في الصور المغولية الهندية بوجه عام إلى نوعين أساسيين؛ أولهما : المناظر الواقعية (التاريخية والسياسية) وهي المناظر التي توضح جوانب من التاريخ السياسي والاجتماعي الحقيقي لأباطرة وحكام المغول في الهند ولغيرهم من حكام بعض المدن والأقاليم في الهند خلال العصر المغولي (1526- 1857م)، لتلقي الضوء على بعض الأحداث التاريخية التي جرت في لحظات بعينها، وترصد مواقف سياسية واجتماعية في حياة الأباطرة والأمراء والوزراء ورجال البلاط والحكام المستقلين أو التابعين للبلاط المغولي والمتصوفة وغيرهم، وقد جاء هذا النوع من المناظر من خلال تصاوير بعض الألبومات (المرقعات) وتصاوير المخطوطات التاريخية.
وثانيهما : المناظر التراثية (الأدبية) وهي المناظر التي توضح المواقف والأحداث القصصية والشعرية لأبطال هذه الروايات والقصص من ملوك وحكام وأمراء وغيرهم من الأبطال مثل رجال الدين والمثقفين من الأدباء والفلاسفة والشعراء والنساخ وغيرهم، ومن مختلف الفئات والعامة، وقد جاء هذا النوع من المناظر من خلال تصاوير بعض الألبومات (المرقعات) وتصاوير المخطوطات الأدبية.
ولقد ظهر نوع فرعي جديد من موضوعات المناظر في تصاوير المدرسة المغولية الهندية غير مسبوق في التصوير الإسلامي بشكل عام؛ وهى المناظر الرمزية ذات الطابع السياسي (الدعائية)، والتي تظهر في بعض التصاوير التي أمر بعض الأباطرة المغول بإنتاجها وكانت من وحي خيالهم، وهي ذات طابع سياسي صرف ولها مغزى وأهداف معينة، وليس لها علاقة بالتاريخ أو الواقع ولا بالتراث أو الأدب، بل تُعد من الصور الدعائية للسلطة المغولية في شبه القارة الهندية (الهند وباكستان).
وأغلب تصاوير هذا النوع الجديد من المناظر جاءت ضمن الألبومات (المرقعات) وخصوصاً خلال عصر الأباطرة المغول العظام (1526- 1707م) كمثل منظر لقاء الإمبراطور المغولي جهانجير (حكم1605- 1627م) مع شاه (ملك) إيران عباس الأول الصفوي (حكم1587- 1629م)، ومن المعروف أن هذا اللقاء لم يحدث في الواقع قط بل كانت بينهما منازعات يستحيل معها هذا اللقاء رغم تبادل السفارات بينهما، وتطورت هذه المنازعات باستيلاء الشاة عباس على قندهار سنة 1622م، وهي المدينة التي كانت تحمي الجزء الشمالي الغربي الغير محصن للإمبراطورية المغولية، ولم يتمكن جهانجير من استردادها لا سيما بعد أن خرج ابنه شاهجهان علية. وجاء هذا المنظر في تصويرتين (لوحتي1، 2) من عمل أحد أهم فناني البلاط المغولي في الهند وهو المصور أبو الحسن (نادر الزمان) في سنة 1618م؛ إحداهما (لوحة 1) تمثل استقبال الإمبراطور جهانجير للشاة عباس الأول فوق عرش مرتفع، وهذا اللقاء من وحي الخيال ويدل على ما في نفس وفكر جهانجير من أماني، ويقف على الأرض أمام جهانجير رئيس وزراءه "عساف خان" شقيق نورجهان زوجة جهانجير ووالد ممتاز محل زوجة ابنه شاه جهان (حكم 1628- 1658م)، وإلى الأمام من الشاه عباس يقف "خان علم" سفير جهانجير في البلاط الصفوي. ويؤكد الفكرة التي رُسمت هذه الصورة من أجلها ذلك النقش بأعلى وأدنى التصويرة، والمكتوب باللغة الفارسية (اللغة الرسمية للدولة المغولية)، ونقرأ فيه : " شاه جهانجير وشاه عباس هما ملكان شابان شجاعان قبضا بكلتا يديهما على كأس العالم، يلبّيان الهاتف بأن يتحدا لتكون لهما الهيمنة على شعوب العالم أجمع حتى يعيش العالم في سلام، اللهم امنحهما النصر"، ويدعم هذه الفكرة أيضاً ظهور اثنين من الملائكة (ولدان الحب) بأعلى الصورة.
لوحة ( 1 ) الإمبراطور جهانجير يستقبل شاه عباس الصفوي في حضور رئيس الوزراءه عساف خان والسفير خان علم.
الهند (عهد جهانجير)، من ألبوم، نقلاً عن : ثروت عكاشة، التصوير الإسلامي المغولي في الهند، لوحة 73
أما الصورة الثانية (لوحة 2) فتوضح لقاء بين جهانجير والشاة عباس الأول وهما يتعانقان فوق الكرة الأرضية المرسومة بأسفل التصويرة، ويقف جهانجير فوق أسد مرسوم على الكرة الأرضية بينما يقف الشاة عباس فوق خروف، وخلفهما هالة ضخمة تمثل قرص الشمس والهلال من أسفلها ويحملهما ملاكين. وتمثل هذه المنمنمة ذلك القلق الذي أصاب جهانجير حول صراعاته مع الشاة عباس، فكم كان يتمنى ان يكون الأمر على ما يرام بينهما ويتحدا مع بعضهما، فأخذ يطوع لأمانيه أفكاره وخيالاته التي قد تكون ناجمة عن إدمان الأفيون بأن يأتي إليه الشاة عباس خاضعاً طالباً الصفح والإيخاء، ويظهر جهانجير بحجم أكبر في موقف المهيمن حيث يقف على الأسد وهو رمز الملكية والقوة، بينما يظهر الشاة عباس بحجم أصغر ويقف على الخروف وهو رمز السلام ولكن أيضاً يرمز إلى الضعف بالمقارنة بأسد جهانجير.
لوحة ( 2 ) الإمبراطور جهانجير يحلم بمجيئ خصمه شاه عباس الصفوي زائراً له.
الهند، (1618- 1622م)، من ألبوم، محفوظة في متحف الفرير جاليري بواشنطن، نقلاً عن : ثروت عكاشة، التصوير الإسلامي المغولي في الهند، لوحة 70
وعلاوةً على هذا المنظر الخيالي للقاء الإمبراطور جهانجير مع الشاه عباس؛ فهناك منظر آخر دعائي من ضرب الخيال يمثل استقبال جهانجير بشيخ صوفي وسلطان تركيا وملك إنجلترا جيمس الأول والمصور بيشتر في لحظة واحدة (لوحة 3)، وهو جالس على عرش يظهر من تحته ساعة رملية ويظهر من خلفه وحول رأسه قرص الشمس الضخم ومن أسفلها الهلال الأبيض، وقد انفرد جهانجير بالحديث مع الشيخ الصوفي الذي يقدم له كتاب ومهملاً الملكين مما يوحي بعظم قدر الشيخ الصوفي وما يقدمه لدى جهانجير لدرجة أنه يهمل السلاطين والملوك جانباً وينظر إلى الشيخ الصوفي، ويظهر من النقش الذي يخطه اثنين من الملائكة (ولدان الحب)على الساعة الرملية أنه يتمنى أن يعيش ألف سنة بالرغم من المكائد والأطماع، ونلاحظ الدهشة وردة الفعل التي ظهرت على اثنين آخرين من الملائكة (ولدان الحب) بأعلى الصورة من موقف جهانجير حيث يقوم أحدهما بوضع يديه على وجهه ويقوم الآخر بكسر القوس الذي بيديه، ويعتبر هذا المنظر إشارة سياسية واضحة يوجهها جهانجير إلى شعبه وإلى العالم أجمع مغزاها أن السلطة السياسية مستمدة من السلطة الدينية.
لوحة ( 3 ) إستقبال الإمبراطور جهانجير لشيخ صوفي وسلطان تركيا وملك إنجلترا والمصور بيشتر.
الهند، 1625م، من ألبوم، محفوظة بمتحف الفرير جاليري بواشنطن، نقلاً عن: ثروت عكاشة، التصوير الإسلامي المغولي في الهند، لوحة 34
ومن الجدير بالملاحظة ظهور رسوم الملائكة بكثرة في هذا النوع من المناظر والصور الدعائية وبالأخص التي تظهر على هيئة الأطفال الرضع المعروفين بولدان الحب، حيث تعتبر مستوحاه من التصاوير الأوربية، والتي كانت تحمل لدى المصوريين الأوربيين مغزاً دينياً، وهي أيضاً تحمل نفس الطابع الديني في تلك الصور المغولية، حيث رُسمت لتعطي الإمبراطور صفة الطهارة والنقاء الملائكي والرضا الإلهي عن حكمه، وبالتالي فهي تعطي نوع من الشرعية الدينية والروحانية للحاكم.
وقد استمر ظهور هذا النوع من المناظر الدعائية السياسية في صور الألبومات خلال عصر الاضمحلال السياسي للمغول (1707- 1857م)، كمثل الصورة التي توضح منظر استقبال الأمير المغولي عظيم الشأن (حاكم البنغال) للنبي خضر لإتمام تنصيبه إمبراطوراً (لوحه 4)، ومن المعروف أنه لم يُتوج ولم يعتلى عرش الهند حيث قُتل قبل وصوله للعرش. فتُعبِّر هذه الصورة عن تمثيل رمزي يشير إلى أحقية الأمير عظيم الشأن في عرش المغول بالهند، ويدعم هذا التمثيل الرمزي وجود شخصية أسطورية مثل النبي خضر وهو يقدم شعارات السلطة إلى عظيم الشأن لإتمام تتويجه وتأكيد شرعيته على حكم الهند، وقد انتشرت شخصية النبي خضر في التصوير المغولي بالهند. وقد رُسمت هذه الصورة في باتنا أو عظيم أباد عاصمة إقليم بيهار في البنغال بشرق الهند، والأقرب للصواب أنها رُسمت بعد موت عظيم الشأن تحت رعاية ابنه محمد فرُّخ سير (حكم 1712- 1739م) الذي اعتلى عرش الهند في نفس السنة التي توفي فيها والده عظيم الشأن، وأيضاً في نفس السنه تُأرّخ هذ الصورة، فربما تمثل تعبيراً عن وفاء الابن لأبيه مع توجيه رساله سياسية دينية لأحقية عظيم الشأن في العرش.
لوحة (4) عظيم الشأن يستقبل النبي خِضر لإتمام تنصيبه إمبراطورا.
الهند؛ باتنا (عظيم أباد)، حوالي 1712م، من ألبوم،
محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم
(BnF, Mss. Or., Smith-Lesouëf 249, pièce 6557.)
وقد ظهر هذا النوع من المناظر الدعائية الخيالية أيضاً من خلال تصاوير بعض المخطوطات التاريخية، كمثل صورة "ألانكوفا" وهي تستقبل أولادها، من المخطوط التاريخي جنكيزنامه (لوحة 5) في عهد الإمبراطور أكبر (حكم1556- 1605م)، وهذه السيدة تضفو على من ينتسب إليها الطبيعة الإلهية والنورية، وتجعله يمتلك السلطة الروحية والدينية.
وألانكوفا هي الأم الأسطورية لجنكيزخان، وتتشابه قصتها مع قصة السيدة مريم العذراء، وتشاركها تجربة ولادة العذراء، وكما روى الوزير والمؤرخ أبو الفضل بن المبارك الناكوري (ت 1602م) في "أكبرنامه"؛ أن ألانكوفا بعد ما أصبحت أرملة كانت تستلقي على سريرها بداخل خيمتها يوماً ما، وفجأةً يلقي النور الساطع المجيد شعاعاً في الخيمة وداخل فمها وحلقها، ومن ذلك ينبوع المعرفة الروحية والمجد، وأصبحت قبة العفة حاملاً بواسطة ذلك النور، بنفس الطريقة كما حدث لصاحبة الجلالة مريم ابنة عمران. وهذا النور استهلَّ خط الحكام النبلاء الذي شمل جنكيزخان وتيمورلنك وكذلك المغول (حكام الهند)، وكانت بداية مظهر من مظاهر جلالته، ملك الملوك (أكبر) الذي أُنزل على العالم بعد اجتياز مراحل عدة من الرحم المقدسة لجلالة مريم، لإتمام الاشياء المنظورة وغير المنظورة.
وبذلك استطاع "أكبر" أن يضفي الشرعية الروحية على حكمه من خلال تلك الأسطورة، فمن أجل ترسيخ الطبيعة الإلهية له كان من الضروري إظهار أنه ينحدر من خط يمتلك نفس السلطات الروحية، وقام باستخدام رمز النجمة السداسية الذي كان يختص بأبيه همايون، وقد سبق "أكبر" إلى الانتساب لألنكوفا جده الأكبر السلطان التركي الشهير "تيمورلنك"، حيث نُقشَ على التابوت الحجري في قبة تيمور بسمرقند؛ أنه لم يكن معروف أب لهذا الرجل المجيد ولكن أمه كانت ألانكوفا، ويُشار إلى أنها كانت عفيفة وصالحة وهي تُصَوَّر له من خلال ذلك النور الذي جاء إلى عينيها من الجزء العلوي من باب الخيمة. ويفترض أكبر من خلال الاشتراك مع تيمور أن الصورة الإلهية خلال والدته حميدة بانو بيجم.
لوحة (5 ) ألانكوفا تستقبل أولادها.
الهند؛ لاهور، حوالي 1596م، من مخطوط جانكيز نامه،
محفوظة في متحف لاكما للفن بلوس أنجلوس تحت رقم
(M.78.9.9)
وفي النهاية يمكنني القول بأن الأباطرة المغول التيموريين الذين حكموا شبه القارة الهندية وخصوصاً الأباطرة العظام كمثل أكبر وجهانجير؛ تمكنوا من استغلال تقنية التصوير التي ساهموا بقدر كبير في تطورها وازدهارها لترسيخ السلطة السياسية والروحانية على رعاياهم من الهنود والمسلمين المهاجرين، وذلك من خلال إنتاج تلك الصور الدعائية التي تتضمن مناظرها موضوعات رمزية خيالية من شأنها إقناع الرأي العام الهندواسلامي بالنفوذ السياسي والديني للمغول المسلمين في الهند واضفاء شرعية سياسية وروحانية لحكمهم. وبشكل عام فقد كانت الألبومات (المرقعات) والمخطوطات المغولية في الهند بما فيهما من صور ومنمنمات تقوم بدور ثقافي واعلامي لا يخلوا أبداً من الإشارات والرسائل ذات التوجهات السياسية والدينية التي أرادها الأباطرة المغول للدولة والمجتمع الهندواسلامي آنذاك، حيث كانت تقوم مقام أجهزة الاعلام والثقافة للدول الحديثة في عصرنا الحالي.
المراجع والأبحاث العربية والأجنبية
1-ثروت عكاشة، التصوير الإسلامي المغولي في الهند، موسوعة تاريخ الفن (العين تسمع والأذن ترى) ج13، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995م.
2- Bonnie C. Wade, Imaging Sound : An Ethnomusicological Study of Music, Art and Culture in Mughal India, The University of Chicago press, U.S.A, 1998
3- Catherine B. Asher and Cynthia Talbot, India Befor Europe, Cambrige University Press, New York, 2006
4- Glenn D. Lowry, "Hamayun's Tomp : from function and Meaning in Early Mughal Architecture", Muqarnas, Vol.4 : An Annual on Islamic Art and Architecture, E.J. Brill, Leiden, The Netherlands, U.S.A, 1987
5- Okada, Amina, Indian Miniatuers of the Mughal Court, Harry N.Abrams, Inc., New York, 1992
6- Pedro Moura Carvalho, What Happened to the Mughal Furniture? The Role of the Imperial Workshops, the Decorative Motifs Used, and the Influence of Western Models, Muqarnas, vol. 21, Leiden, Brill, New York, 2004
7- Welch, Stuart Cary, Imperial Mughal painting, George Braziller, New York, 1978