لقد ذكر صاحب النجوم الزاهرة في تعريف الفروسية: أنها نوع آخر غير الشجاعة والإقدام، فالشجاع هو الذي يلقى غريمه بقوة جنان، وفارس الخيل هو الرجل الذي يُحسن تسريح فرسه وسلاحه، وتدبير ذلك كله، بحيث إنه يسير في ذلك على القوانين المقررة المعروفة بين أرباب هذا الشأن. ويُذكر أيضًا أن الفروسية أو الفروسة أو الفراسة: هي الحذق بركوب الخيل وأمرها. هذا ويُقال أن أصل الفروسية هو الثبات على الفرس العُريّ - أي الفرس العاري الغير مُسرج.
ويُذكر أيضًا أن أصل الفروسية وكمالها هو حفظ العنان، ونظر الفارس أمام فرسه وحيث يضع يديه، وتعهده لآلته من سرجه ولجامه، ويُقصِّر ما يحتاج إلى تقصير ويُضيِّق ما يحتاج إلى تضييقيه، ويطوِّل ما يحتاج إلى تطويله، كل ذلك يفعله بوزن.
وكانت الفروسية في العصور الإسلامية هي مطمع أنظار الشباب إذ تستهوى قلوبهم لما فيها من ألوان الشجاعة لذا مارسوها واتخذوا لها زيًا خاصاً، وتدربوا على استعمال السلاح كالضرب بالسيف أو الرماح أو الرمي عن القسي بالنبل، وغيرها من هذه الأمور.
وبشكل عام فإن المسلمين كانوا يعتمدون على الخيل اعتمادًا أساسياً في شتى مجالات الحياة، بجانب باقي أنواع الدواب وأجناسها (كالبغال والحمير)، ومن أهم هذه المجالات الجهاد في سبيل الله (الحروب والمعارك)، وكوسيلة للنقل والمواصلات، وفي أعمال الزراعة والصناعة، بالإضافة إلى استعمالها في الصيد، وكذلك استخدامها في القيام بأمور الرياضة والسباقات والفروسية، مع الاعتماد عليها كوسيلة للتسلية وهزل الفرسان، مثل القيام بالألعاب المختلفة كلعبة الكرة والصولجان.
ولذلك فقد لزم الأمر القيام بتدريب وتربية وتأديب وتعليم الخيول لإعدادها وتجهيزها لكي تكون صالحة لما سبق ذكره بالأعلى وعلى الأخص في أمور الجهاد في سبيل الله، والسباقات، والصيد والطرد، وممارسة بعض الألعاب مثل لعبة الكرة والصولجان، وجميع هذه الأمور تندرج تحت مفهوم الفروسية بمدلولها الواسع الذي يشمل معظم الأعمال التي يقوم بها الفارس وهو يمتطى فرسه.
وقد تعددت المخطوطات التي تتحدث عن علم الفروسية بمدلولها الشامل، وتنقسم هذه المخطوطات إلى ثلاثة أنواع؛ أهمها ما ينفرد ويتخصص في علم الفروسية وأصوله، مثل مخطوط الفروسية المحمدية لابن القيم الجوزيه والمحفوظ بدار الكتب المصرية برقم ( 22 فروسية تيمور).
ومنها ما يختص بالحروب والمعارك وأهمية الخيول وكيفية استخدامها، مثل مخطوط التذكرة الهرويه في الخيل الحربية لابن الحسن على بن محمد بن أبى بكر الهروي (ت 611 هـ)، ومخطوط الخيل في الحرب وفتح المدائن وحفظ الدروب لمحمد بن منكلى الناصري المتوفي بعد سنة (778 هـ/ 1376م) (#).
أما النوع الثالث فهي المخطوطات التي تختص بعلم البيطرة (الطب البيطري) ومعالجة الخيول وصفاتها ومميزاتها وهي لا تخلوا من دراسات عن علم الفروسية، مثل مخطوط "مختصر البيطرة" لأحمد بن الاحنف والمحفوظ بدار الكتب المصرية برقم (8 طب خليل آغا)، ومخطوط "بيطرنامه" المحفوظ أيضاً بدار الكتب المصرية برقم (49 ط م)، ومخطوط "البيطرة والزردقة في معرفة الخيل وأحوالها وأمراضها وأدويتها" المحفوظ بدار الكتب المصرية برقم (50 ط م)، ويبدو أن هذا النوع الأخير من المخطوطات هو الأكثر أهمية وشيوعاً عند المسلمين في العصور الوسطي.
أهمية الفروسية واستخداماتها عند المسلمين
1- الجهاد في سبيل الله:
إن الحق تبارك وتعالى يحث عبادة المؤمنين في مواضع عديدة في كتابة العظيم على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والصبيان، مثل قوله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً""(@).
وحث الله المؤمنين أيضًا على الاستعداد والتجهيز للجهاد في سبيله بواسطه الاستعدادات الحربية اللازمة من القوة المتمثلة في الرمي بأنواعه، ومن الخيول اللازمة لذلك والتي كان بها الأهمية العظمى في الحروب. إذ كان يعتبر سلاح الفرسان هو العمود الفقري للجيوش المقاتلة آنذاك، فقال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"(&).
وبالإضافة إلى كلام الحق تبارك وتعالى تأتى أحاديث المصطفي صلى الله عليه وسلم التي تحث على الجهاد في سبيل الله، وتبيّن مدى حب رسول صلى الله عليه وسلم للخيل ومدى أهميتها ومكانتها، مثل ما جاء في المستدرك: "حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه وأبو محمد بن موسى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: ألا أخبركم بخير الناس منزلة قالوا بلى يا رسول الله قال رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله حتى يقتل أو يموت. ألا أخبركم بالذي يليه رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويشهد أن لا إله إلا الله".
وفي حديث لأبي العباس محمد بن يعقوب عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عام تبوك وخطب الناس وهو مضيف ظهره إلى نخلة فقال ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، أن من خير الناس رجل عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيرة أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجل فاجر جرئ يقرأ كتاب الله ولا يرعوى إلى شيء منه".
وحديث آخر لأبي جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن المنصور أمير المؤمنين عن مجمع ابن جارية الأنصاري الذي كان أحد القراء الذين قرأوا القرآن وذلك بعد غزوة الحديبية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قسم الغنائم أعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما، وهذا الحديث كبير صحيح الإسناد.
ويُقال أن الفارس يُفضل على الراجل بشيء مخصوص وليس ذلك إلا للفرس، فإن غيرها من الدواب -إذا قاتل عليها الإنسان- فلا يستحق شيئاً معيناً، بل يرضخ له رضخاً، ولو كان أعظم الدواب كالفيل، والرضخ هو إعطاء المقاتل قليلاً من كثير من الغنيمة أو هو إعطاؤه دون السهم.
ويذهب أبو حنيفة إلى أن الفارس يُعطى سهمين -سهم له وسهم لفرسه- مستدلاً بما فعله الرسول مع المقداد ابن عمرو في يوم بدر ومع الزبير بن العوام في يوم بنى قريظة، ومع جميع الفوارس في وقعة بنى المصطلق، وفي غزوة الحديبية السابق ذكرها في الحديث.
ولكن الذي ذهب إلية الجمهور من العلماء، واعتمده ابن حنبل هو أن الفارس له ثلاثة أسهم، واحد له واثنان لفرسه، وأما الراجل فله سهم واحد- كما في الصحيحين، واستدلوا على ذلك بما فعله الرسول في غزوة خيبر وفي غزوة المر يسيع، واستشهدوا أيضًا بقوله: " انى جعلت للفرس سهمين وللفارس سهماً".
هذا ولا فرق بين كوّن الفرس عربياً أو غير عربي عند الجمهور، ولكن بعضهم يجعل للفرس العربي سهمين ولغير العربي سهماً واحداً.
وفي حديث النسائي عن سعيد ابن أبى عروبة عن أنس ابن مالك قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
وقد ذكر ابن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتلك خمسة أفراس وهم الُّزاز والَّلحيف والمرتجز والسكب واليعسوب.
ولكن ذكر النويري أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تصل إلى تسعة عشر فرسًا، وذلك من مجموع روايات ذكرها.
ومن المشهور أن العرب كانت ترتبط الخيل في الجاهلية والإسلام، وذلك لما جعل الله فيها من العز والتشرف، والتصبر، وكانت العرب تكرِّمها وتؤثرها على الأهلين والأولاد، وتفتخر بذلك في أشعارها.
هذا وكان لأهل المشرق عامة من عرب وفرس وترك وهنود ومصريين، وغيرهم حب واهتمام كبير بالخيل، والتي كانت تعينهم في المقام الأول في الحروب والمنازعات. فقد رُجِّحوا في حروبهم بفراهة خيلهم وقوتها، وسلاسة أدبها، ونُبل أجسامها، وعناية أهلها بها في كدِّها، والإحسان إليها، وبفروسيتهم عليها، وقدرتهم على استعمال الأسلحة على ظهورها.
2- السباق:
لقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سابق بين الأقدام، وثبت عنه أنه سابق بين الإبل، وثبت عنه أيضًا أنه سابق بين الخيل وأنه حضر نضال السهام.
وفي أحاديث النسائي دلائل على ذلك، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أُضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بنى زريق وكان عبد الله بن عمر ممن سابق بها ".
وفي حديث آخر عن إبراهيم بن يعقوب عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: " لا يحل سبق إلا على خف أو حافر"، وأيضًا عن عمران بن موسى عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر".
وقد حفلت المصادر التاريخية بكثير من الإشارات التي تؤكد حرص واهتمام السلاطين والخلفاء والأمراء من الأمويين والعباسيين، والطولونيين، والإخشيدين، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك بأمر سباق الخيل، وإنشاء الميادين الخاصة بها.
وكان سباق الخيل عند العرب والمسلمين بوجه عام تسلية شعبية لكافة طبقات المجتمع وكانت الصحراء مدرسة طبيعية لتعليم سباق الخيل، وهذه السباقات كانت تُقام بصفة عامة في الأعياد والمناسبات العامة(*).
وعلاوةً على ذلك الأهمية الكبرى لهذه السباقات في تعليم الفرسان ركوب الخيل وفنون الفروسية والاستعداد للمشاركة في القتال والجهاد في سبيل الله إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وقد كان لسباقات الخيل قواعد وأصول مُعترف بها وتسرى على جميع المتسابقين، وهذه القواعد كُتبت وسُجلت في العديد من المخطوطات التي تتضمن علم الفروسية (السابقة)، فعلى سبيل المثال يُذكر في مخطوط البيطرة والزردقة (المحفوظ بدار الكتب المصرية برقم 50 طب م) عن شروط السباق ما يلي:
"أن تعلم أن جوادك صحيح مليح كامل في أفعاله، أدوب، مختبرًا في جميع خصاله الحميدة، ويكون عنانه جديد ممرّنًا، ويكون السرج سبقيًا خفيفًا معقبًا ملبسًا من الجلد البقري ثوبًا لينًا جديدًا، ويكون في دفتيه أربع حلقات كبار مدورين بخرز، وليكن له حزامين من الإبرسيم المظفور ظفر الفرنج، وبين الحزامين قليل من الجلد الأديم الطائفي في طولهما وعرضهما".
ويُذكر فيه أيضًا: "إذا سابقت؛ أن تجعل غريمك عن يمينك ولا تلاصقه فقد يضرب فرسه على كفله بالسوط فيبصر فرسك سوطه فيحصل له وهم منه فيقصر عن جرية ويفوتك فرس غريمك، وإذا أردت السباق فلا تلبس ثيابًا ثقالاً ولا ثوبًا غلقًا إذا دخل فيه الهوى لا يعبب كما يعبب قلع المركب فيثقل الفرس ويمنعها شده الجري".
3- الصيد والطرد (%):
لقد كان الصيد ظاهرة شائعة في مختلف العصور والبقاع الإسلامية، وكان يمارسها أهل السيادة وأهل الفاقة على حد سواء، فأهل السيادة يجدون في الصيد وسيلة للهو وطريقًا إلى المتعة، أما أهل الفاقة فيجدون فيه ما يكفيهم عما في أيدي الآخرين، وفي ذلك قيل: أن الصيد يؤثره رجلان متباينان في الحال ملك ذو ثروة أو زاهد ذو قناعة، فالملك يؤثره لحب الغلبه والظفر أو للطرب واللذة والابتهاج بظاهر العتاد والعدة، والزاهد يؤثره لكف نفسه عن دنى المكاسب والنأي بها عن مصرع المطالب، وصوّن ماء وجهه عن غضاضة الامتهان.
وتعتبر هواية الصيد معروفه عند العرب منذ القدم، وكان الصيد في القديم مقصورًا على الصيد بالرماح والنبال أو الفخ، فلما اختلط العرب بعد الفتوحات الإسلامية بالفرس والروم، عرفوا منهم طرق أخرى للصيد والقنص، فاتخذوا من جوارح الطير مثل الباز والصقر والشاهين ما يصيدون به بعد تعليمه وتدريبه، فصادوا بها الطيور والغزلان. كما اتخذوا من الكلاب المدربة ما يتصيدون به الغزلان والأرانب والحمير الوحشية والطيور.
وبالإضافة إلى ذلك عرف العرب استخدام قسي البندق لصيد الطيور، والتي برع أهل بغداد في صناعتها، وكان البندق الذي يُرمى عن القوس عبارة عن كرات صغيرة من الطين المدملق. وقد يسمى البندق "بالجلاهق"، ويسمى قوسه "قوس جلاهق".
وقد وصل الحال إلى صناعة هذه البنادق من الذهب الصامت ومن الفضة الخالصة، وذلك في العصر المملوكي في مصر والشام كما أشار المقريزي.
ومن الجدير بالذكر أن طرق الصيد السابقة قد ذكرها الحق تبارك وتعالى في القرآن العظيم، فمثلاً في قوله تعالى: "يسئلونك ماذا أُحل لهم قل أُحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلّبين تُعلّمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب"(!).
والمقصود بالجوارح هنا أي الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة.
وفي قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا ليبلونَّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم" (^). والمقصود هنا بقوله تعالى "تناله أيديكم" أي صغار الصيد وفراخه، والمقصود بقوله "ورماحكم" أي كبار الصيد من الوحوش والطير، والتي لا يمكن صيدها إلا بالرماح.
وفي حديث أبو عبد الله محمد بن على بن عبد الحميد الصنعاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يرمون فقال رمياً بنى إسماعيل فإن أباكم كان راميا".
هذا وإن إسماعيل عليه الصلاة والسلام -أبو العرب- هو أول من ركب الخيل ودجّنها، وقيل عنه أنه لما شب أعطاه الله القوس، فرمى عنها وكان لا يرمى شيئاً إلا أصابه.
ومن ذلك فيمكن القول أن إسماعيل عليه الصلاة والسلام هو أول من رمي واصطاد من على ظهر الخيل.
وتوجد العديد من الأخبار والإشارات التاريخية التي تدل على مدى حب واهتمام الملوك والخلفاء والسلاطين والأمراء المسلمين بالصيد وفروسيته، ومنها ما يلي:
فمثلاً يُقال أن يزيد بن معاوية (ت 64هـ) كان يحب الصيد كثيرًا، وهو أول خليفة يشتغل بالصيد في بلاد الشام.
ويُذكر أن الخليفة المهدي العباسي (ت 169هـ) كان مولعًا بالصيد والقنص، وكان يتخذ الصقور والبيزان، وكان يهتم بتربية الكلاب التي تسبق الظليم في عدوها، وكان يلبسها أطواقا من ذهب، ويوكِّل بكل كلب عبدًا يخدمه كما كان يفعل ذلك كثيراً من الأمراء وأهل النعمة في تربيتها للتحريض على الصيد.
ويُقال أيضًا أن أحمد بن طولون (ت 270هـ) مؤسس الدولة الطولونية في مصر كان مولعًا بالصيد، وكذلك ابنه خمارويه (ت 282هـ)، ولكن كان ولع خمارويه بالصيد يفوق ولع أبيه الذي أغرم بصيد الحمام، أما هو فقد أغرم بصيد الأسود، وروى صاحب النجوم الزاهرة أنه ما كان يسمع بسبع إلا قصده هو ورجاله وعليهم لبود فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابته عنوه وهم سليم، فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة تسع الواحد من السباع وهو قائم، فإذا أقدم خمارويه من الصيد سار القفص بين يديه. ويذكر المقريزي عن صلاح الدين الأيوبي أنه كان عاشقًا ومحبًا للصيد.
هذا ويعتبر عصر المماليك أكثر العصور شغفًا واهتمامًا بالصيد من قِبل السلاطين والأمراء وكبار رجال الدولة، والدلائل على ذلك كثيرة، فمنها أنه من أرباب الوظائف في هذا العصر من يسمى "بأمير شكار" وهو لقب كان يطلق على من يتحدث على الجوارح من الطيور وسائر أمور الصيد، وهو مركب من لفظين: أحدهما عربي وهو أمير، والثاني فارسي وهو شكار، ومعناه الصيد فيكون المعنى "أمير الصيد" .
وكان يوجد في هذا العصر قواعد وشروط تحكم عملية الصيد، منها أن العادة في دوائر الصيد كانت تشترط على المبتدئ في الصيد لكي يصير في زمرة هواه هذا الفن أن ينتسب لأحد رماه الصيد القدماء، فإذا تم له ذلك قيل أنه ادعى لفلان أي انتسب إليه. وكانت وسيلة الادعاء هذه أن ينجح المبتدئ في إصابته رميته من طير أو غيرة، وعند ذلك يختار الانتساب إلى من يشاء من رجال الصيد المعروفين سلطانًا كان أو أميرًا أو فقيهًا أو عاميّاً.
وعلاوةً على ذلك فإنه كان يُراعى في ملابس الصائد أن تكون ملائمة من حيث النوع والوقت للفصل الخارج فيه الصائد للصيد، كما أن هناك من ألوان الملابس ما تُفضّل عند الصيد على غيرها، فقيل أنه كان يتوخى في ملابس الصيد عند العموم الألوان المشابهة لألوان الوحش والمقاربة لها، كاللون العسلي والعودي، وذلك لأن الوحش لا ينفر منها، وأن الطير تأنس إليهما، ويتبعهما اللون الأحمر، إلا في رمي الأسد فإنه يأباه ولا يقدم عليه لقربه من النار.
ومن الملاحظ أيضًا أنه قد وُضعت عده كتب في الصيد والقنص، منها مثلاً رساله في الصيد بالبندق تأليف كلٌ من فخر الدين البغدادي (ت 684 هـ / 1285 م)، وصفي الدين الحلى.
4- التريض وممارسة الألعاب مثل لعبة الكره والصولجان ($).
إن الرياضة بوجه عام هي تذكير وتمرين وعادة يعودها القبول للآداب من الدواب بطبعها، وتستوي الدابة بفهم الرائض للرياضة وللفروسية مع التعامل برفق، ولذلك تعتبر رياضة الخيل تابعه على وجه الخصوص لتأديبها وتعليمها.
والتريض من الرياضة، فيها يقوم الفرسان بممارسة الرياضة، والتي قد تكون في حلبات السباق، أوفي ميادين مُجهزه، أو في القفار (الصحراء)، والرياض، والبساتين، وما شابه ذلك، والغرض الرئيسي من ممارسه الفرسان للرياضة، هو إفادة أجسامهم من ناحيه، وإكساب خيولهم القوه والمرونة من ناحية أخرى، هذا إلى جانب منافعها للنفس والذهن.
أما اللعب بالكره والصولجان فهي عبارة عن لعبه قوامها كره تُصنع من ماده خفيفة مرنه كالفلين ونحوه، تُلقى في أرض الميدان فيتسابق الفرسان إلى التقاطها بعصا عقفاء تسمى المحجن أو الصولجان أو الجوكان، ويرسلون بها الكره في الهواء وهم على خيولهم.
وهي رياضه وصفها الحكماء والفضلاء للملوك ورجالهم، لما اجتمع فيها فوائد عظيمة منها: التدرّب على ركوب أصناف الخيل، والانفتال، والخفة والرشاقة، ومنها السرور والفرح بالظفر والاستيلاء، مع مباشره التألم من العجز والغلبة. ومن فوائدها أيضًا تعوّد الاجتماع، والتدريب ومساعده الأصحاب لبعضهما، أو تعاضد الأولياء وتعاونها على الخصوم والأعداء.
ولذلك اعتبرها علماء الفروسية من أعظم أصول الفروسية منفعة لكل من طلب فناً من فنون الفروسية، لاسيما العمل بالسيف والرمح، لما يقع فيها من الكر والعطف والاختلاس والمناوشة وتأديب الدواب، وهو تدريب على الحرب وتمرين للقلوب على القتال، ولما فيها من الملاحة والجد، وإصلاح ثبات الفرس في سرجه وإصلاح رجلية في الركاب. وهي صناعة لذه للملك ومكسب للمحترف بالفروسية.
ومن الملاحظ أنه لم يُسمع بهذه اللعبة في بلاط بنى أميه، ولكن وصلنا العديد من الأخبار والإشارات التاريخية عن ذيوع ممارسة هذه اللعبة في بلاط العباسيين والطولونيين، والفاطميين، والزنكيين والأيوبيين، والمماليك.
فمثلاً: ذكر المقريزي أن الخليفة العباسي هارون الرشيد هو أول خليفة لعب بالصوالجة في الميدان ورمى بالنشاب في البرجاس(؟)، ولعب بالشطرنج، وقرّب أرباب هذه الأمور، وأجرى عليهم الأرزاق، فاقتدي به الناس بعد ذلك. وذكر أيضًا أن السلطان صلاح الدين - يوسف - الأيوبي كان يهوى اللعب بالكره.
هذا وقد أكد المقريزي وغيره من المؤرخين على شغف سلاطين المماليك وأمرائهم بممارسه هذه الرياضة، مما شجعهم على إنشاء الميادين ذات الخدمات الضرورية لها، وإلى تحديد أوقات أسبوعية وأخرى سنوية، وانتهاز كل فرص مواتية لممارستها، وتوفير ما يلزم هذه الرياضة من أدوات طبية وخيول مناسبة لها، بل وتخصيص موظفين يشرفون عليها، سُمي الواحد منهم باسم "جوكندار"، وهو لقب يُطلق على الذي يحمل الجوكان مع السلطان في لعب الكره، وهو مكوّن من لفظتين فارسيتين، أحدهما "جوكان" ومعناه "المحجن" الذي تُضرب به الكره وهو الصولجان (كما سبق)، والثانية "دار" ومعناه "ممسك" فيكون المعنى الكلى له "ممسك الصولجان"، والعامة تسمى هذا اللقب "جكندارية"، وله رنك محدد يدل على وظيفته (لوحة 1).
والجدير بالذكر أن اللعب بالكره والصوالجة لها نظم وقوانين وأساليب عده قد سُجلت وكتبت في العديد من المخطوطات التي تنفرد وتختص في علم الفروسية مثل مخطوط "نهاية السؤال والأمنية في تعلم أعمال الفروسية" لمحمد بن عيسى الحنفي الأقصرائى ( ق 8هـ/ 14م) (×).
اللوحات
- لوحة (1) : شكل رنك في أعلاه محبرة، وفى الشطب كأس وفى جانبيها عصاتا الجوكان وكراتان، وفى القسم السفلي زهرة الزنبق. محفوظ بمتحف الفن الاسلامي بالقاهرة. مصر، عصر المماليك. عن : نبيل عبد العزيز، الملاعيب: شكل (1).
- لوحة (2) : جذب فرس أو مهر ناحية فرس آخر. صورة من مخطوط "مختصر البيطرة" المحفوظ بدار الكتب المصرية. بغداد، سنة (605 هـ / 1208م) عن : زكي حسن، أطلس الفنون الزخرفية: شكل (862)
- لوحة (3): فارسان يعدوان فوق صهوة جوادهما. صوره من مخطوط "مختصر البيطرة" المحفوظ بمتحف توبكابي سراى فى إستانبول. بغداد، سنة (607هـ /1210م) .عن : حسن الباشا، التصوير الإسلامي في العصور الوسطى: شكل (30).
- لوحة (4): جزء من ورقه متبقيه من مخطوط عليها رسم شعبي يمثل معركة حربية. محفوظة بالمتحف البريطاني في لندن. مصر، القرن الخامس أو السادس الهجري (الحادي عشر أو الثاني عشر ميلادي).عن : (Bernard Lewis, The world of Islam, p 126 , fig 3)
الهوامش
(#) : هذا المخطوط حققه العلامة نبيل عبد العزيز ونشر عام 2000م.
(@) : القرآن الكريم سورة النساء: آية 75،76.
(&) : القرآن الكريم سورة الأنفال: آية 60.
(*) : يوجد كتاب للفقيه ابن لهيعة يسمى "الجلايب والحلايب" ذكر فيه كل حلبة سباق أجريت في الجاهلية والإسلام.
(%) : الطرد) : وهو الصيد بالمطرد)، والمطرد عبارة عن رمح قصير يُطعن به حُمر الوحش، وقال الجاحظ: أن المطارد لصيد الوحش.
(!) : القرآن الكريم سورة المائدة: الآية (4).
(^) : القرآن الكريم سورة المائدة: الآية (94).
($) : لعبة الكرة والصولجان: وهي لعبة مفضلة لدى الملوك والأمراء المسلمون في العصور الوسطي، وتُلعب من على ظهور الخيل، بواسطة ضرب كرة بالصولجان، وهذه اللعبة تعرف باسم البولو في زماننا الحالي وهي فارسية الأصل. ومصطلح الصولجان يعنى الجوكان أو المحجن؛ وهو الذي تُضرب به الكرة، وهو لفظ فارسى الأصل.
(؟) : (البرجاس) : غرض في الهواء على رأس رمح ونحوه يُرمى به.
(×) : هذا المخطوط من تحقيق العلاّمة نبيل عبد العزيز من خلال رساله دكتوراه مقدمة منه إلى كلية الآداب جامعه القاهرة سنة1972م، مع مقدمة تاريخية عن نظام الفروسية في عصر المماليك.
المصادر والمراجع
أولاً : المصادر المخطوطة والمطبوعة
القرآن الكريم
1- أبو بكر بن المنذر البيطار: كامل الصناعتين (مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 26 طب حليم).
2- أحمد بن الأحنف: مختصر البيطرة (مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 8 طب خليل آغا)
3- ابن القيم الجوزية: الفروسية المحمدية (مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 22 فروسية تيمور).
4- مجهول: البيطرة والزرقة (مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 50 طب م).
5- مجهول: بيطرنامه (مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 49 ط م).
6- ابن تغري بردي (جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغرى بردى الأتابكي، ت874هـ): النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ط2، دار الكتب والوثائق القومية، جـ3، 14، القاهرة، 2005م.
7- ابن الكلبي (ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، ت245هـ): أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها. تحقيق أحمد زكي باشا، ط2، القاهرة، 1995م.
8- ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرش الدمشقي، ت774هـ): تفسير القرآن العظيم. تحقيق سامي بن محمد سلامه، ط2، دار طيبة للنشر، القاهرة، 1999م.
9- الحاكم (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي الطهاني المعروف بالحاكم النيسابوري، ت405هـ): المستدرك، كتاب الجهاد. عن www.islamspirt.com
10- الدميري (كمال الدين محمد بن عيسي الدميري الشافعي، ت808 هـ): حياة الحيوان الكبرى، جـ1، القاهرة، 1963م. عن http:www.alwarraq.com
11- القلْقشَنْدي (أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي، ت821هـ): صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، ط1، تحقيق نبيل خالد الخطيب، جـ3، 5، بيروت، 1978م.
12- محمد بن منكلى الناصري: الخيل في الحروب وفتح المدائن، تحقيق نبيل عبد العزيز، القاهرة، 2000م
13- مرتضى الزبيدي (محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسينى): تاج العروس من جواهر القاموس، جـ1. عن http:www.alwarraq.com
14- المقريزي (تقى الدين أحمد بن علي بن عبد القادر محمد المعروف بالمقريزي، ت845هـ): السلوك في معرفة دول الملوك، ج1،ج2، تحقيق محمد مصطفى زيادة، طبعة القاهرة، 1934م. ج3،ج4 تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، طبعة القاهرة، 1970م.
15- النسائي (أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي، ت303هـ): السنن، كتاب كتاب الخيل باب حب الخيل و باب السبق. عن www.islamspirit.com
16- النويري (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، ت733 هـ): نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق أحمد الذين، القاهرة، 1938م.
ثانياً : المراجع
17- براك عبيد عوض المطيري: الأوضاع الحضارية في بلاد الشام في القرن (3هـ). رسالة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة القاهرة، 2007م.
18- جميل نخلة المدوّر: حضارة الإسلام في دار السلام، القاهرة، 1935م.
19- حسن أحمد محمود: حضارة مصر الإسلامية في العصر الطولوني( 254-292ه/ـ(868- 1905، القاهرة، 2004م.
20- حسن الباشا: التصوير الإسلامي في العصور الوسطى، ط2، دار النهضة العربية، القاهرة (د.ن).
21- زكي محمد حسن: أطلس الفنون الزخرفية والتصاوير الإسلامية، القاهرة، 1956م.
22- راضي عبد الله عبد الحليم: الجيش والأسطول في العصر العباسي الأول (132هـ-232هـ)، القاهرة، 1995م.
23- فلاح خليل العاني: الخيل العربية، ط2، مسقط، عمان، 2006م.
24- عبد الناصر ياسين: مناظر الفروسية في ضوء فنون الخزف الإسلامى، زهراء الشرق، القاهرة، 2005م
25- مجموعة باحثيين عراقيين: حضارة العراق، جـ5، بغداد، 1980م.
26- نبيل محمد عبد العزيز: الملاعيب في عصر سلاطين المماليك، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2002م.
27-
Bernard Lewis, The world of Islam, Faith- phople culture, London, 1997
....................................................................................................