الأيتام في الإسلام[1]
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (َأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) ]2 [
ما من مجتمع إلا وفيه أيتام، وقد تدخلت الدول والحكومات لحماية هؤلاء الأيتام، وحماية المجتمع منهم، حماية الأيتام من الضياع والتشرد والانحراف، وحماية المجتمع من أفراد بلا مأوى، إذا أُُُُهملوا نشأوا ونفوسهم مفعمة بالأحقاد والضغائن على مجتمعهم الذي شبوا فيه مشردين مهانين، حيث لم تمتد إليهم يد بالرحمة، ولم يجدوا من أفراده العطف والشفقة .
وعلى الرغم من الجهود المضنية التي تبذلها الحكومات المختلفة في كافة دول العالم لمد يد العون ومساعدة هؤلاء الأيتام؛ إلا أنها لم تنجح في كسر الحاجز النفسي بين اليتيم والمجتمع الذي يخرج إليه في سن ليست مبكرة، وربما يرجع ذلك إلى أسباب كثيرة لعل أهمها أن الملاجئ ودور إيواء الأيتام يعيش فيها اليتيم في عزلة عن العالم الخارجي، فهي كالسجون، أو المعتقلات، أو المعسكرات .
فالطفل الذي يتربى وينشأ في ملجإ لا يمكن مساواته بطفل عاش وتربى في بيت وأسرة، حتى لو لم يكن البيت بيته، وسواء أكانت تلك الأسرة من أقربائه أم كان هو غريبا عنهم .
فالعصفور الذي ينشأ في الأسر حتى لو كان عيشه في قفص من ذهب، لا يمكن مساواته بعصفور آخر نشأ حرا طليقا، ولك أن تجرب بنفسك بإخراج عصفور من قفصه وإعطائه حريته، فستجد ذلك العصفور المسكين عاجزا عن الطيران، ولو حاول ذلك فسوف يطير عدة أمتار وسرعان ما سيسقط فريسة لِقِط أو ما شابه ذلك .
كذلك اليتيم الذي عاش في ملجإ، أو دار من دور إيواء الأيتام، فإنه عندما يخرج إلى الدنيا فسوف يجد عالما جديدا يختلف تماما عن عالمه الذي نشأ وعاش فيه .
وسوف يجد نفسه غريبا وحيدا في ذلك العالم الجديد، وسوف يجد نفسه عاجزا عن أشياء، وفي حاجة إلى فهم أشياء كثيرة، وتعلم أشياء أكثر، لم يعرفها ولم يتعلمها، وسرعان ما سيشعر بالغربة، والوحدة، وعدم الألفة، الأمر الذي سيؤدي به غالبا إلى التقوقع، والانطواء، والعزلة، هذا إذا كان مسالما غير حاد الطباع، أما إذا كان غير ذلك فسوف يصبح عدوانيا شرسا في تعاملاته مع الآخرين .
اهتمام الإسلام بالأيتام :
لقد عالجت الشريعة الإسلامية مشكلة الأيتام بأسلوب فريد لا مثيل له، فلم تأمر ببناء ملاجئ، أو دور لإيواء الأيتام؛ ولكنها علقت الأيتام برقاب أفراد أمة الإسلام، خاصة الأغنياء منهم، كما أجزلت الأجر والثواب لمن يكفل يتيما، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كافل اليتيم هو رفيقه في الجنة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن كفالة اليتيم تعدل الجهاد في سبيل الله، ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إهمال اليتيم، أو الإساءة إليه، أو الاعتداء على حقوقه، وعد ذلك من السبع الموبقات، ومن الكبائر العظام ومن أقبح الذنوب والآثام .
كما أكدت الشريعة الإسلامية ونبهت على ضرورة نشأة اليتيم في بيوت المسلمين، يكفلونه، ويرعونه، ويهتمون بكافة شئونه، ويكونون له إما أبا وإما أما، أو أخا أو أختا، فينشأ اليتيم نشأة طبيعية تجعله فردا صالحا، نقيا، بلا أحقاد أو ضغائن، أو هواجس أو وساوس.. إلخ .
وهنا يكمن الفرق بين النظام الإسلامي وما عداه من أنظمة، فالنظام الإسلامي سَبَّاق متمدن متحضر، يرعى مشاعر الإنسان وأحاسيسه، ويهتم بكافة أموره وشئونه، ويصون له مصالحه وحقوقه، ويحفظ له عزته وكرامته، ويضمن له استقراره وأمنه وسلامته .
ومما لا شك فيه أن مردود ذلك كله ليس إلى المجتمع المسلم فحسب، بل إلى الأمة الإسلامية بأسرها، فتصبح أمة موحِدة، متوحدة، متفردة بنظامها الرباني الذي يجعلها كالجسد الواحد، كقول نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وإحقاقا لقول الحق جل وعلا :
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[3] .
هذا وقد اهتم الإسلام باليتيم، وأولاه التكريم، ورفع شأنه، وأعلى قدره، بعد أن كان مهملاً، مهانا، ينهره القريب قبل البعيد. ويوضح ذلك ما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : (تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَتَرَكَ ابْنَةً لَهُ مِنْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ، قَالَ : وَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَهُمَا خَالايَ، قَالَ: فَمَضَيْتُ إِلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَخْطُبُ ابْنَةَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَزَوَّجَنِيهَا، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَعْنِي إِلَى أُمِّهَا فَأَرْغَبَهَا فِي الْمَالِ فَحَطَّتْ[4] إِلَيْهِ، وَحَطَّت الْجَارِيَةُ[5] إِلَى هَوَى أُمِّهَا فَأَبَيَا حَتَّى ارْتَفَعَ أَمْرُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَةُ أَخِي أَوْصَى بِهَا إِلَيَّ فَزَوَّجْتُهَا ابْنَ عَمَّتِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَلَمْ أُقَصِّرْ[6] بِهَا فِي الصَّلاحِ وَلا فِي الْكَفَاءَةِ، وَلَكِنَّهَا امْرَأَةٌ وَإِنَّمَا حَطَّتْ إِلَى هَوَى أُمِّهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هِيَ يَتِيمَةٌ وَلا تُنْكَحُ إِلا بِإِذْنِهَا، قَالَ: فَانْتُزِعَتْ وَاللَّهِ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتُهَا فَزَوَّجُوهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ)[7]
وفيه ما لا يخفى من الاحترام لمشاعر وأحاسيس الفتاة اليتيمة، وتكريمها بإعطائها الحرية الكاملة في الموافقة على من يريد الزواج بها من عدمه، فالبكر اليتيمة البالغة لا تزوج إلا بإذنها، ولا يجوز لوصي ولا غيره إجبارها على الزواج، ويؤيد ذلك الحديث المروي عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُسْتَأْمَرُ[8] الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ، وَإِنْ أَبَتْ لَمْ تُكْرَهْ)[9] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ[10] فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلا جَوَازَ عَلَيْهَا)[11]
الأيتام في القرآن :
لقد تحدث القرآن الكريم عن اليتيم في واحد وعشرين موضعا، في اثنتي عشرة سورة منها قوله تعالى :
**(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[12].
**(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ..)[13].
**(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[14] .
**(وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[15].
**(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..)[16] .
**(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[17] .
**(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)[18].
وقد أكدت الشريعة الإسلامية على أن المجتمع المسلم ينبغي أن يكون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فمن ميزات المجتمع المسلم الرحمة، والمودة، والتعاطف بين أفراده، ومن أهم ميزات المجتمع المسلم التكافل بين أفراده، وأهم صورة من صور التكافل كفالة اليتيم .
وكفالة اليتيم تكون بضمه إلى بيته وعياله، وإطعامه مما يطعم، وكسوته قدر استطاعته، والقيام بأموره، والسعي في مصالحه، وتنمية ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال أنفق عليه وكساه ابتغاء وجه الله، يستوي في ذلك أن يكون اليتيم ذا قرابة منه، أو أجنبيا عنه، فإن لم يستطع فبالتبرع له بالمال والأعمال قدر استطاعته عند من يكفله .
وقد أجزل الله تعالى الأجر والثواب لكافل اليتيم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل كفالة اليتيم، وأجر كافل اليتيم، وعظم مكانته في الكثير من أحاديثه النبوية المطهرة، ونسوق إليكم بعض هذا الفضل وذلك الأجر :
1 .كافل اليتيم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة :
فَعَنْ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (َأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ[19] فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)[20] .
وهناك أحاديث كثيرة تؤكد أن كافل اليتيم جزاؤه الجنة، ومن هذه الأحاديث ما روي عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ، وَمَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فَكَاكَهُ مِنْ النَّارِ يُجْزِي بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ)[21] .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَنْ قَبَضَ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ إِلا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لا يُغْفَرُ لَهُ)[22].
وما روي عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ[23] فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ[24]، امْرَأَةٌ آمَتْ[25] مِنْ زَوْجِهَا فَحَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا[26] حَتَّى بَانُوا[27] أَوْ مَاتُوا)[28] .
خير البيوت بيت يكفل فيه يتيم :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ)[29] .
3 كافل اليتيم له أجر المجاهد في سبيل الله :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ عَالَ[30] ثَلاثَةً مِنْ الأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ، وَصَامَ نَهَارَهُ، وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَيْنِ[31] كَهَاتَيْنِ أُخْتَانِ وَأَلْصَقَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى)[32] .
كفالة اليتيم ترقق القلب :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: (إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ)[33] .
وبعد أن بينت الشريعة الإسلامية فضل كفالة اليتيم، لترغب الناس في هذا العمل العظيم، فقد أرشدت المسلمين إلى الطريق الموصل لنيل هذا الفضل، والفوز بهذه الدرجة، حتى تضمن لليتيم أن يحيا حياة كريمة بين إخوانه ووسط أبناء مجتمعه، ومن ثم فقد أكدت على الآتي :
1) أن اليتيم مسؤولية كل مسلم .
2) ضرورة المحافظة على مال اليتيم .
3) النهي عن الإساءة لليتيم .
4)عقوبة أكل مال اليتيم .
أ . اليتيم مسئولية كل مسلم
لقد اهتمت الشريعة الإسلامية باليتيم، وعملت على أن ينال حظا وافرا من الاحترام والتكريم، وأوصت برعايته ومد يد العون له وحسن لقائه بوجه طلق وقلب سليم، كما أوجبت له حقا على كل مسلم كريم يطمع في جنة ربه ويرجو عفو الرحمن الرحيم .
فالشريعة الإسلامية جعلت اليتيم مسؤولية كل مسلم حتى لا يشعر بيُتمه وفقده لأبيه أو أمه، فيجب أن يكون كل مسلم لليتيم أبا رحيما، وكل مسلمة أما كريمة، فيشب اليتيم وكل الناس من حوله هم أهله، فهم إما أب له، وإما أم، أو أخ، أو أخت، فيكون عضوا صالحا في المجتمع ينفع ولا يضر، يصلح ولا يفسد، لأنه جزء من جسد واحد روحه الإسلام وربه الرحمن .
وأكدت الشريعة على أن الإحسان إلى اليتيم يكون سببا في دخول الجنة، وأن العطف عليه ولو بأقل القليل كمسح رأسه رحمة به وشفقة عليه يكون لصاحبه بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، وأنه نعم المال الذي ينفق منه على اليتيم، ونعم صاحب المال الذي يتصدق منه ويحسن به إلى اليتيم، فيبارك الله له في ماله وعياله، وفي صحته، وفي جسده، ويدخله جنته .
فلا أعظم ولا أجزل ولا أفضل من ثواب الإنفاق في سبيل الله بوجه عام، وبالأخص الإنفاق على الأيتام .
قال أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير البيوت بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر البيوت بيت فيه يتيم يساء إليه، وأحب عباد الله إلى الله تعالى من اصطنع صنعا إلى يتيم أو أرملة[34] .
ب . المحافظة على مال اليتيم
قال تعالى :
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[35] .
لقد أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالعناية باليتيم، والمحافظة عليه، وعلى ماله إن كان له مال، وقد أكدت السنة النبوية المطهرة على ذلك في مواضع كثيرة، من ذلك ما روي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: (أَلا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ)[36] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ[37] حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ)[38] .
ومن ثم فقد حمَّلت الشريعة الإسلامية المسؤول عن اليتيم والقَيِّم عليه أمانته كاملة، من رعاية وعناية وحفظ ماله وتنميته، فإن كان المال نقودا استعملها في التجارة، أو شارك بها تجارا أمناء، وإن كان المال أرضا زراعية زرعها، أو استأجر من يزرعها، أو قام بتأجيرها، وكذلك لو كانت عقارا، المهم هو استغلال مال اليتيم فيما ينفعه ويحقق مصلحته .
ومسؤولية المحافظة على مال اليتيم لا تقع على عاتق وليه أو القيم عليه فحسب؛ بل هي مسؤولية تقع على عاتق كل من يستطيع ذلك ممن هم حوله ويعلمون بحاله .
ومن ثم لم تقصر الشريعة الإسلامية مفهوم حفظ مال اليتيم وتنميته على المتاجرة فيه، أو المشاركة به، أو تأجيره، كما لم تلق بتلك المسؤولية على عاتق الولي أو القيم منفردا، بل تعدى الأمر ذلك إلى مشاركة أهل الرأي والخبرة من المسلمين الأمناء للولي أو القيم؛ بتوجيه النصح والإرشاد إلى كيفية وطريقة تنمية هذا المال والمحافظة عليه بما ينفع اليتيم ويحقق مصلحته .
ولعل ذلك يوضح مدى اهتمام الشريعة الإسلامية باليتيم، وأنها جعلت مسؤولية اليتيم أمانة في أعناق جميع المسلمين خاصة المحيطين به والعالمين بحاله، وتلك هي عدالة الإسلام ورحمته، فاليُتم ليس عقوبة، واليتيم الذي فقد أباه وعائله لابد أن يجد من الرعاية والعطف والاهتمام أضعاف ما كان سيجده لو كان أبوه حيا، فينشأ اليتيم نشأة طبيعية تجعل نفسه صافية نقية تجاه مجتمعه وأهله وعشيرته .
ج . النهي عن الإساءة لليتيم
إن إكرام اليتيم والمحافظة عليه وعلى ماله، والاهتمام به، والإحسان إليه، والعطف عليه؛ لا يتنافى مع تأديبه، وتهذيب أخلاقه، وتقويمه، وإصلاحه، وإرشاده إلى الطريق المستقيم .
وقد روي عن جابر رضي الله عنه في سؤاله عن اليتيم قال: (قُلْت: يَا رَسُول اللَّه مِمَّ أَضْرِب مِنْهُ يَتِيمِي؟ قَالَ: مِمَّ كُنْت ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدك، غَيْر وَاقٍ مَالَك بِمَالِهِ)[39].
ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حين أوصيا باليتيم خيرا لم يفرقا بين يتيم المسلمين ويتيم غير المسلمين، فاليتيم هو اليتيم خاصة في الأمر بمعاملته بالحسنى والعطف عليه وعدم الإساءة إليه، وإن كان يتيم المسلمين هو الأحق بالرعاية والكفالة .
والشريعة الإسلامية توصي باليتيم عامة، لأنه حالة خاصة لا اختيار لصاحبها ولا يد له فيها، فكل إنسان عرضة لمثل هذا الأمر، فكان من الممكن أن يكون يتيما، ومن الممكن أن يصبح أبناؤه يتامى !!
فإن اعتبرنا أن اليتم محنة؛ فإن عدم اليتم هو نعمة من الواجب تأدية شكرها، بالعطف، والإحسان، وعدم الإساءة إلى من حرم منها .
يقول الإمام القرطبي: (ومن حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي؛ من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة: ربَّنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي؛ اشهدوا أن من أسكته وأرضاه؟ أن أرضيه يوم القيامة". فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا)[40] .
هذا وقد جاءت آيات القرآن الكريم في أكثر من موضع تشدد في النهي عن الإساءة لليتيم وذلك كما في قوله تعالى :
(كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)[41] .
وقوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[42]، إلى قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)[43] .
كما قال جل شأنه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)[44] .
وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام[45] يقول الله تعالى :
(فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[46]
ثم قال الحق جل وعلا :
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)[47] .
حيث إن موسى والخضر عليهما السلام مرا بقرية وكانا قد بلغ منهما الجهد، ورفض أهل القرية أن يضيفوهما وأن يقدموا لهما الطعام، وعلى الرغم من ذلك لما وجدا جدارا مائلاً ليتيمين يوشك على السقوط أقامه الخضر عليه السلام وأعاد بناءه، دون أجر أو انتظار شكر، وقد فعل ذلك صيانة لمال اليتيمين، فإن أهل القرية وإن كانوا قد أساؤوا إلى موسى والخضر عليهما السلام وأنهم كانوا يستحقون المعاملة بالمثل وبما هم أهله، إلا أن حق اليتيم عظيم ولا ينبغي الإساءة إليه وإن أساء هو أو أساء أهله أو أهل بلدته .
د . عقوبة أكل مال اليتيم
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْما إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا)[48] .
وقال جل شأنه: (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)[49] .
سبق وأن تكلمنا عن نهي الإسلام عن الإساءة إلى اليتيم بأي شكل كان، ومما لا شك فيه أنه لا شيء أبلغ في الإساءة إلى اليتيم من أكل ماله وإن قل، فيتبدل حاله من عز وغنى إلى فقر وذل .
فإن مال الإنسان إذا كان بحسب الاعتقاد السائد أنه هو الذي يرحمه من الفقر، ويعينه على نوائب الدهر؛ فإن اليتيم هو أحوج ما يكون إلى المال، لأنه يغنيه عن ذل السؤال، وتنكر العم والخال، ولا يجعله محطا للقيل والقال، ولا محلا لضرب الأمثال. واليتيم بماله من السهل عليه أن يجد من يخدمه، ويهتم بحاله ويكرمه، ويضمه إلى عياله يربيه ويطعمه، وينمي له ماله فيكثره، حتى إذا بلغ أشده واكتمل رشده ملك زمام أمره .
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد أوصت باليتيم خيرا، فإن آكل مال اليتيم لا يعد فعله ضربا بأوامر الشريعة الإسلامية عرض الحائط فحسب، بل إنه يكون قد تجاوز ذلك الأمر بمراحل بعيدة، لذلك فإن آكل مال اليتيم يستوجب العقاب في الدنيا برفع أمره إلى الحاكم لينزل به العقاب الذي يراه مناسبا بقدر ما اقترفه من جرم في حق مال اليتيم، وبقدر إهماله أو تقصيره عمدا في العناية به ..
** أما عن العقاب في الآخرة فقد أغلظ المولى جل وعلا العقاب لآكل مال اليتيم :
جعل الله تعالى أكل مال اليتيم من الكبائر المهلكات والسبع الموبقات فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) وعدّ النبي صلى الله عليه وسلم منها (وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ). كما أن أكل مال اليتيم هو من باب أكل المال بالباطل، وأكل السحت المنهي عنه شرعا، والذي يؤدي بصاحبه إلى نار جهنم، فقد روي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ[50])[51]. لقد هدد الله تعالى آكل مال اليتيم بأنه إنما يأكل في بطنه نارا تتأجج في بطنه يوم القيامة، وهو في جهنم يصلى فيها سعيرا، فقال تعالى: (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا)[52]. بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النجاة في البعد عن مال اليتيم فلا يقربه بوجه من الوجوه، فقد روي عن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ لا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ، وَلا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ)[53] .
[1] - من كتاب (السبع الموبقات) للمؤلف .
[2] - رواه البخاري .
[3] - آل عمران: 110 .
[4] - فحطت: أي مالت .
[5] - الجارية: البكر البالغة الشابة حديثة السن والتي لم يسبق لها الزواج .
[6] - أقصر: من الإقصار وهو الكف عن الشيء مع القدرة عليه .
[7] - رواه أحمد .
[8] - تستأمر: أي توافق، فلا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها .
[9] - رواه أحمد والدارمي .
[10] - الاستئمار: الاستئذان والاستشارة .
[11] - رواه الترمذي .
[12] - البقرة: 215 .
[13] - البقرة: 220 .
[14] - النساء: 10 .
[15] - الإسراء: 34 .
[16] - الكهف: 82 .
[17] - الإنسان: 8 .
[18] - الضحى: 9 .
[19] - يشمل الذكر والأنثى .
[20] - رواه البخاري .
[21] - رواه أحمد .
[22] - رواه الترمذي .
[23] - السفع: نوع من السواد ليس بالكثير يظهر بالوجه .
[24] - أشار بالسبابة والوسطى كما مر .
[25] - آمت المرأة: فقدت زوجها .
[26] - يعني لم تتزوج .
[27] - بانوا: كبروا وتفرقوا .
[28] - رواه أحمد .
[29] - سنن ابن ماجه .
[30] - أي تحمل مؤنتهم .
[31] - كناية عن كمال قربه منه حال دخوله الجنة، لا مساواة الدرجة .
[32] - سنن ابن ماجه .
[33] - رواه أحمد .
[34] - كتاب الكبائر للذهبي .
[35] - البقرة: 220 .
[36] - رواه الترمذي .
[37] - أحرج: من التحريج أو الإحراج: أي أضيق على الناس في تضييع حقهما، وأشدد عليهم في ذلك، والمقصود إشهاده تعالى في تبليغ ذلك الحكم إليهم .
[38] - رواه أحمد .
[39] ـ أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، وأورده الإمام ابن حجر في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري في فضل كفالة اليتيم .
[40] ـ تفسير القرطبي (سورة الضحى آية: 9) .
[41] - الفجر: 17 .
[42] - الضحى: 6 .
[43] - الضحى: 9 .
[44] - الماعون1: 2 .
[45] ـ راجع للمؤلف كتاب السبع الموبقات، الفصل الرابع (الأمر بالمحافظة على مال اليتيم) وفيه سرد القصة مطولا .
[46] ـ سورة الكهف 77 : 78 .
[47] - الكهف: 82 .
[48] ـ سورة النساء آية: 10 .
[49] - الأنعام: 152، الإسراء: 34 .
[50] ـ السحت: هو كل حرام لا يحل كسبه وهو يسحت البركة ويذهبها .
[51] ـ رواه الدارمي .
[52] ـ سورة النساء آية: 10 .
[53] ـ رواه أحمد .
التدقيق اللغوي: حميد نجاحي