"هو مو مثلي، أنا رجل وهو شاذ"، و"هي مو مثلية، أنا امرأة وهي شاذة"، هكذا يقول إعلان شجاع ينتشر في شوارع الكويت هذه الأيام. "مثلية"، يا لهذه الكلمة الرقيقة في مبناها ومعناها! هذه كلمة تطبيعية لها إحالات تدل على التشابه، وتُفضي -لا شعوريا- إلى الاندماج والتقبل. متى وكيف انسلّت هذه الكلمة بيننا واندست في قاموسنا؟ ومتى وكيف صار شيء مستمد من الطبيعة مثل قوس قزح، يُستخدم رمزا لممارسة أبعد ما تكون عن الطبيعة والفطرة؟!
تلطيف الكلمات القاسية مسألة شائكة، تتطلب معرفة الحد الفاصل بين ما يَحْسُن تلطيفه وما لا يَحْسُن. إذا عدنا إلى تراثنا اللهجي سنجد أن ظاهرة التلطيف اللفظي حاضرة. فنقول في لهجتنا فلان كِريم عين (بنطق الكاف جيما فارسية) للإشارة إلى الشخص الأعور، وفلان حرّيص أي بخيل، وانفصلوا أي تطلّقوا، ويغيّر بعضنا كلمة "الرفلة" إلى "الطيبة" في المثل الشهير "خبز خبزتيه يا الرفلة اكْليه"، وفي تراثنا أغنية شهيرة هي "شوط شوط يا البطّة، الله يسلّم من حطّه" ولهذه الأغنية صيغة أقل لطافة هي "لِعن أبو من حطّه". واللطافة درجات؛ فليس في قولنا "فلان مات" ما يجرح، لكن نمعن في اللطافة والتهذيب حين نقول "فلان توفى"، وليس في قولنا "فلان أعمى" ما يهين، لكن قولنا "فلان كفيف" أرقى، وأرقى منه قولنا "فلان بصير".
وكل هذا مستمد من تراثنا الديني واللغوي، فنجد نهيا عن استعمال كلمة العبد والأَمَة، إذ جاء في الحديث الشريف "لا يقولَنَّ أحدُكم عبدي وأَمَتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي". ويزخر القرآن الكريم بكنايات تلطيفية منها قوله تعالى "جاء أحد منكم من الغائط" والغائط في أصلها المتسع من الأرض وهو المكان الذي كانت من عادة العرب أن تتخذ فيه الكُنُف (الحمامات)، ثم تحولت دلالة الكلمة، وقوله تعالى "لامستم النساء"، وهذه كناية لطيفة أيضا. والعرب تسمى الملدوغ والملسوع سليما تيمنا وتفاؤلا بشفائه، وتقول "قضاء الحاجة" وهي كلمة فضفاضة يقصد بها أمر محدد، وتسمي الصحراء مفازة، وتسمي العطشان ناهلا. وكانوا يسمون جذيمة الأبرص بجذيمة الأبرش أو الوضاح. ومن التلطيفات اللفظية الحديثة قولنا "ذوي الهمم" بدلا من المعاقين. هذه ظاهرة لغوية قديمة ومتجذرة في تراثنا، أقدم بكثير من حركة اللباقة السياسية Political Correctness بدأت في ثمانينيات القرن الماضي.
لكن هذا التلطيف لا يجوز أن يتغوّل إلى الحد الذي يقلب فيه الحق باطلا والباطل حقا. فقد جاء في الحديث الشريف: "ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها". ونجد أن هذا الحديث تحقق، فهناك من يسمي الخمر "مشروبات روحية" نقلا عن الإنكليزية، وهذا اسم والله شديد الرقة. ومثل هذا تسمية الرشوة إكرامية. ونجد أن كلمة "الربا" صارت شبه مُماتة إلا في الكتابات الشرعية، واستبدل بها كلمة "فائدة". هل قرأتم خبرا يقول: "البنك المركزي يرفع سعر الربا 100 نقطة"؟! وليست تسمية الشذوذ بالمثلية إلا مثالا ساطعا على التلطف الجائر الذي يقلب جوهر الأمور. تحمل أسماء الأشياء أحكاما قيميّة وتوجهات وتوجيهات. وقولنا "شذوذ" انحياز واضح، وحكم مسبق، ونِعْمَ الانحياز! فثمة أمور كبرى في الحياة لا يُحتمل أن تترك مائعة دون حزم.
الحملة الممنهجة لترويج الشذوذ ليست عفوية، وهي تستخدم أدوات اللغة (مثلية بدلا عن شذوذ) والرموز (قوس قزح) كي تفكّك معتقداتنا وقيمنا. وحينما يصطف أساطين الإعلام مثل ديزني ونتفلكس دعما لهذه الاتجاهات، يحق لنا أن نشعر أن هناك أجندة ما يُنوى فرضها على هذه الأرض وأن الأمر ليس نضالا حقوقيا عفويا. قضيت الصيف الماضي في بريطانيا، وفي أحد متاجر الكتب الشهيرة تفاجأت برف كامل زاخر بنوع من القصص المصورة للأطفال. كلا، لم تكن تلك القصص تدعو للتسامح مع الشذوذ فهذه مرحلة تخطاها القوم. كانت القصص تدور في فلك التطبيع مع شكل جديد للأسرة؛ أبوان يربيان طفلا، أو أمّان تربيان طفلا! لم أتفاجأ بالفكرة، بقدر ما تفاجأت بعدد القصص التي تطبّع مع الأسرة الشاذة وبأساليب متعددة.
هناك من يريد أن يُفقد هذا العالم اتزانه ويسلبه فطرته. هناك من يريد اختطاف قوس قزح، ويسعى للتهوين من انتكاس الفطرة. قد لا نستطيع أن نوقف مداحلهم الإعلامية، لكننا نستطيع -بسلطان اللغة- أن نرفض أن نسمي الأمور إلا بأسمائها اللائقة بها. هذا والله ليس خطاب كراهية، بل هذا خطاب يضع الأمور في نصابها لئلا نهلك جميعا من فرط اللطافة!