لم تتنكّب حالة في العالم العربي مثلما تنكبّت الثقافة العربية التي أصبحت كالقدس تماما مهملة منسيّة ثانويّة بعيدة عن كل إهتمام رسمي و حتى جماهيري , ولموت الثقافة بكل تفاصيلها ومصاديقها أسباب كثيرة ولعلّ أهمها السعي الحثيث للنظام الرسمي العربي لوأدها وشنق منتجيها و مفعلّيها على شكل رواية و مقالة و مسرح وقصيدة و مناظرة و مجادلة و حوار و كتاب وما إلى ذلك من تمظهرات الثقافة وتجلياتها . والنظام الرسمي العربي المولع بالأحاديّة والشموليّة و البيداغوجيّة و الدوغمائيّة أجهز على كل ما له صلّة بالإبداع وحصر الإبداع في الخطّ السياسي والإعلامي والإيديولوجي الذي يؤمن به , فالقصيدة التي لا تمجّد السيّد الرئيس هي قصيدة مشبوهة , و البيت الشعري الذي لا يسبّح بحمد هذا الملك وذاك الأمير ليس بيتا من الشعر ولا يمكن أن يرى النور في فضائيات و إذاعات و صحف هذا الأمير وذاك الملك , والرواية التي لا تتحدث عن بطولات السيد الرئيس ومجد الحزب الحاكم و فتوحات النظام السيّاسي ليست رواية و الأغنية التي لا تمجّد السيد الرئيس الفاتح العربي صاحب النياشين الوهميّة ليست أغنية والمقالة التي لا تركّز على الإنتصار الحضاري والنهضوي الذي حققّه السيد الرئيس ليست مقالة ...
و قد خلق النظام الرسمي العربي فضائيات تتناول الفنّ والفنانين أكثر مما تتناول الثقافة والمثقفين علما أنّ السلف الصالح في هذه الأمة قالوا : أخبث الكسب كسب الزمّارة , أي الكسب الحاصل من الغناء والطرب . و الحاكم العربي عندما يأمر بإقامة فضائيّات لا تعنى إلاّ بالطرب والرقص الشرقي العاهر والداعر لا يهدف إلى إراحة المواطنين المسحوقين المظلومين و المحتقرين ببطشه وطغيانه و إفراحهم بقدر ما يهدف إلى إيجاد بضاعة رخيصة في المجتمع وتسفيه عقول المواطنين حتى لا يرقى عقلهم إلى إكتشاف مؤامراته و سرقاته و جهله , وكلمّا عمّ الجهل كلمّا إستمرّ إستبداده وإستتر جهله و غشاوته , وفي يوم من الإيّام كنت أتفاوض مع مدير تلفزيون عربي حول برنامج كان يفترض أن أنشطّه , فقال لي هامسا خوفا من وجود أجهزة تنصّت داخل مكتبه إنّ الجهات العليا لا ترغب في مثل هذا البرنامج , فقلت له بصوت مرتفع طبعا إنّ الجهات العليا تشجّع العهر والدعارة الثقافية و الفنيّة حتى يدوم حكمها , وهل طالت أعمارهم السيّاسيّة إلاّ بفضل سياسة التجهيل التي طبقّوما ويكرسونّها في واقعنا كل واقعنا , و ما زلت أتذكّر كيف طلب حاكم عربي من مخرج سينيمائي أن يكثر من عدد القبلات في أفلامه ومسلسلاته حتى تنطلق شهوات الناس إلى أبعد مدى وبالتالي يتجنّب الناس التنكيت عن الحكومة وأدائها السياسي .
يخطئ من يتصوّر أنّ الصدفة والصدفة وحدها هي التي تقف وراء تسفيه الثقافة والمسرح والبرامج الإعلامية و التلفزيونية و النصوص الأدبية , إنّ ذلك كل ذلك يرتبط بإستراتيجية كاملة لدوائر القرار العربي التي تريد فضائيات لا تصدح إلا بالغناء و أشير هنا أنّ فضائية عربية إتصلت بي لأدلي برأيي في حدث سياسي فظلّ معّد البرنامج يتوسلنّي حتى لا أتطرق إلى القيادة السياسية في البلد الذي توجد فيه هذه الفضائيّة – طبعا هذه الفضائيّة غير الجزيرة القطرية أقول هذا الكلام لأنّ الكثير تعودّ أن يراني في فضائيّة الجزيرة , إنّما أقصد فضائيّة أخرى - , وإذا تركنا الإعلام المرئي جانبا وهو أداة مهمّة وفاعلة من أدوات إبراز الفعل الثقافي و تطرقنا إلى الإعلام المكتوب فالكارثة أشدّ وأعظم , فالأحاديّة السياسيّة و الإعلامية هي سيّدة الموقف في معظم البلاد العربيّة والإسلامية وفي هذه الحالة فإنّ رئيس التحرير المعيّن من قبل الجهات العليا هو أشبه بجنرال لديه تعليمات ودساتير وملاحظات لها أول وليس لها آخر , فالمجال مفتوح ومفسوح للمتخندقين فقط في خطّ الموالاة والتحزّب لفقه السلطة و دستورها أمّا الشريحة الواسعة من المبدعين والمفكرين – لابدّ من الإشارة هاهنا أنّ صاحب الإبداع و الفكر والعطاء المتواصل يأبى أن يكون تابعا لحكم أو معارضة ولذلك تجده منبوذا من قبل الحكم والمعارضة على السواء – و بهذه الطريقة يتكرس فكر الببغّاء وثقافة الإجترار البعيدة عن النظرة النقديّة والأفكار الإحتجاجيّة التي بها دون غيرها تزدهر الثقافة و تتقدم حركة الفكر ولولا الأخذ والردّ والإيراد في الفكر البشري لما تطورّت المدارس الكلاميّة و الفلسفية والشعرية و الفنيّة وغيرها .
وفي بعض البلاد العربية التي إزدهرت فيها الصحافة الخاصة كلبنان مثلا , فقطاع كبير من هذه الصحافة وإن لم يكن تابعا للحكومة اللبنانية لكنّه كان تابعا لدول عربية أخرى ما فتئت تموّل وتقدم الدعم المالي لهذه الصحف التي تفتح أبوابها لمفكرين أو كتّاب يرضى عنهم هذا النظام المموّل ومن كانوا في صف المنبوذين يحارب نتاجهم إلى أبعد الحدود , وربمّا في قول الرئيس اللبناني الأسبق شارل الحلو لبعض أعمدة الصحافة اللبنانية : مرحبا بكم في وطنكم الثاني لبنان ما يشير إلى هذه الإشكالية .
لقد أفسد مال النظام الرسمي العربي و البترودولار الثقافة العربية إلى أبعد الحدود , فربّ حاكم عربي يخصصّ ملايين الدولارات يوزعّها على ثلّة من الكتّاب والمفكرين لدراسة فكره العملاق و توجهاته الحضارية و دماغه المبدع! والعجيب يستغرق هؤلاء سنين عديدة في دراسة ظاهرة هذا الحاكم وذاك الحاكم , وبدل أن ينصرف جهد الكتّاب والمبدعين إلى دراسة عوامل النهضة وآليّات صناعة الحضارة برؤى ثاقبة بعيدة عن فقه التكرار والإجترار وإعادة إنتاج موروثنا الثقافي , فإننا نصرف الجهد والطاقة في إستكشاف عبقرية من خلقهم الله سفهاء صما بكمّا عميّا فهم لا يبصرون .
وللأسف الشديد البترول الذي أنتج لنا ملايير الملايير من الدولارات – تشير إحصاءات دقيقة أنّ الوطن العربي وفي غضون الخمسين سنة الماضيّة جنى ملايير الملايير من الدولارات - لم نستخدم جزءا بسيطا منه في إنتاج ثقافة واعية هادفة , فالمهرجانات الثقافية في عرف كل الدول العربية تعني رقص الراقصات وزعيق المطربين ونهيق الفنانين البطّالين الذين لا يتعدّى مستوى أشهرهم التعليم الإبتدائي , و إستضافة بافاروتي وشاكيرا و غيرهما , وفي الوقت الذي يتبرّع فيه أمراؤنا وكبراؤنا بملايين الدولارات على الجامعات الأمريكية والبريطانية فإنّهم لا يقدمون دينارا واحدا لمراكز ثقافية عربية إنطلقت بجهود مخلصين لصناعة الفعل الثقافي , و في الوقت الذي يوزع فيه أولئك مئات آلاف الدولارات على عارضات الأزياء والراقصات والفنانات فإنّ بعض المثقفين لا يجدون قوت يومهم .
والعجيب أنّ بعض حكامنا تحولوّا بقدرة قادر إلى كتّاب ومثقفين وروائيين ورفعوا شعار الثقافة نحن !
والفكر نحن !
والأبطال نحن !
والفن نحن !
والأنبياء نحن !
والرسل نحن !
والفلاسفة نحن !
والآلهة نحن !
و الدولة نحن !
والعبقريّة نحن !
و لا نملك إلاّ أن نقول :
على الفكر والفلسفة و النبوة والثقافة ألف سلام , ألف سلام , ألف رحمة وألف رحمة وإنا للّه وإنّا إليه راجعون !!!!