ما أراه هنا، وقبل أي شروع في محاولة قراءة نص أدبي، هو أن يذهب المتلقي -بمختلف شرائحه- نحو آفاق يكتسب منها شذرات فقهية في محراب ثقافة أدب القراءة، فتمسي بمثابة مشكاة تنير أمام روحه ما خفي في ظلمة اللغة، وما توارى خلف إيقاعات الأحرف. حينها تشرق شمس اللغة أمام ناظريه فتغدو قراءاته: داخلية، تأملية، جمالية، تخيلية؛ يستمد من ثناياها إشراقاً روحياً ومتعة ذهنية في مملكة النص البهية لو أدركها ملوك وسلاطين الأرض لحسدوه عليها. هذه المراحل المتقدّمة في فقه تلقي النصوص الإبداعية تؤتيه ثمارها في مناحي الحياة كافة، فتجعله متفقهاً في أدب التحاور مع الآخرين بصفة عامة، ومع ذاته بصفة خاصة، وتتيح لـه فرصة ذهبية للإبحار في حديث الذات دون الخروج عن قواعد أدب الحوار، وكذلك تهبه فرصة محاورة الآخرين بذهنية منفتحة إلى جانب تمتعه بخصلة أدب الإصغاء.
الكلمة التي وردت إليك بواسطة صفحة بيضاء، هي عالم بحد ذاته، عالم بعواصفه وأمطاره وصيفه وربيعه وخريفه، وشمسه وكواكبه؛ تماماً كالإنسان الذي يشكّل كل فرد منه عالماً خاصاً به، فهي تحمل جزءاً من ماضيك وحاضرك ومستقبلك بكونك حامل تاريخ ملايين البشر حتى هذا التاريخ. إنك ها هنا تحتاج إلى صفاء وركون وجهد كي تتعرّف على هذه الكلمة لأن كل جيل من سلسلتك البشرية حمّلها لغزاً وبصمة وتحية إليك، فإن لم تتقن فنية فض غلاف هذه الكلمة، فإنك لن تقع على اللب المستقر في كوامنها، والذي ينبض في ثناياه ذاك التاريخ الحافل الذي انتهى بك. فإن استعصى عليك أمر التعرّف على الكلمة التي تنظر فيها، يجوز لك أن تتخذ منظاراً مكبراً يتيح رؤية أكمل في تمظهرات جسد الكلمة، في نقاطها، وحروفها، وهيكليتها، فتصغيّ آنئذٍ لحركاتها، وسكونها، وانفعالاتها، وموسيقاها، ولا بأس أن تسكن الكلمة فتلقي بجسدك في فراشها، وتتوسد إحدى نقاطها، وتلتحف حرفاً منها.
ثم أنك تداعبها وتأتنس بها، حينها ستداعبك وتأتنس بك فتعوم ذراتها مع ذراتك في فضاء النفس المنتشية، حتى إنها في ذروة انسجام ذراتها مع ذراتك تفضي الذرات للذرات ما لم تفض به لمخلوق غيرك. وهذا يستغرق أياماً طوالاً، لكن إياك أن تركن لضجر، أو يستوطنك نفور من هذه العلائق في جسد روحك. وتلافياً لكارثة كهذه، لا بأس أن تمضي بعض وقت في إحدى حوانيت أبي نواس بين حين وحين للترويح ولتجدّد روح العلاقة بينك وبين الكلمة. كذلك لتريحها من سطوتك وهيمنتك عليها تلافياً لأي بؤرة تمرد عليك، أو الانفجار في روحك.
منذ السطور الثلاثة السابقة أحاول أن أعني هذه الاستطالة في النقطة، لأقول إن هذه الحميمية السحرية مع الكلمة الواحدة تولّد حالة صفاء لا نهائية في الذهن، فليس ثمة ما هو أرقى وأنقى من الإصغاء لموسيقى الحروف من داخل الكلمة. عندها ستدرك أي شقي ذاك المغفّل الذي يفوته الإصغاء والاستئناس بموسيقى الكلمات الطبيعية، فليس ثمة موسيقى في الكون برمته أعذب منها على الروح. ولن تجد بدّاً من الرأفة بذاك الشقي الذي يمضي ساعات في قراءة آلاف الكلمات في ليلة واحدة دون أن يبني علاقة روحية مع كلمة واحدة من تلك الكلمات المباركة التي تتطاير أمام عينيه نافرة من "لا أدبه" في الإفراط بحقه من الظفر بنعيمها، فلو اكتفى هذا المفرّط بقراءة صفحتين قراءة تدبّرية من الداخل، لأغناه ذلك عن قراءة مئات صفحات قراءة خارجية شكلية لفظية.
أود أن ألفت الانتباه بأن هذا كله يدور في عالم الآراء الشخصية بما يحتويه من هلوسات وهذيان، وهو غير مؤهل ليكون موضوعاً للحوار على الصفحات لأنه يدور في فلك خاص.
فإذن، قبل أي شروع في القراءة، انظر في فراغ وقتك، هل هو يوم عطلة، هل لديك مواعيد، هل تتوقع حضور زائر؟.
فاعلم أن للتلقي وجوه متفاوتة، يمكن أن تلقي نظرات تأملية في جسد الكلمات الموضوعة على الصفحة أمام ناظريك، ثم تمرر بصرك على الحروف حرفاً، حرفاً، وتقف أمام إشارات وعلامات الترقيم والتشكيل والتشديد والتقطيع والتسكين والتلوين والتوصيل.
لا تدع كلمة دون أن تنظر إليها من الصفحة فتكون في حالة من الصفاء الذهني كاملة لاستقبال نص أدبي وفني، أي تكون حواسك خلال مدّة النظر قد استعدّت تماماً لاستقبال غذاء الذهن والحواس والروح. فتشرع في وضع عينيك وذهنك وكل مدركاتك على السطر الأول من النص الذي أمامك، فتمر على السطور كلمة كلمة مستوعباً معاني ومدلولات المفردات اللغوية، وإن كان بك نقص في علوم اللغة، يمكن أن تستعين بجمله قواميس محيطية تنير أمام مخيالك ظلمة اللغة التي تخفي اللآلئ الثمينة في دواخلها.
هذا وجه من وجوه القراءة التأملية المحدودة، ويمكن الولوج إلى وجه آخر، كأن تباشر في قراءة العمل الروائي -على سبيل المثال- جملة واحدة، ثم تستريح أسبوعاً تراقب خلاله عمّا علق في ذهنك، فتعود مرة أخرى لإعادة القراءة قراءة شبه تأملية، ثم تلبث وقتاً تراه، فتعود إلى قراءة النص قراءة ثالثة متقطّعة بغية استخراج عناقيد اللآّلئ من جوف اللغة بعد أن تكون قد تملّكتها. فاعلم أن اللغة لا تهب لآلئها للقارئ الضعيف الذي يبدو واهناً أمام قوتها، بيد أنها تهب هذه الكنوز المعرفية الثمينة لقارئ قوي تبدو ضعيفة أمام قوته وقد تملّكها وانتزع مبتغاه انتزاعاً من كوامنها. فلا تبلغ درجة القوة هذه إلاّ بالتدرّج الذي نظرت إليه منذ ساعة.
على هذا المنوال ستنفرز النصوص إلى مقامات من تلقائية تراثها، أو خوائها، فتجد نصوصاً لا تستحق منك وقتاً لإعادة قراءتها، وتجد نصوصاً تقف عندها في قراءتين، وتجد نصوصاً تدعها نصف مقروءة لأنها باعثة النفس على الملل، وكذلك تجد نصوصاً ترجع إلى قراءتها مدى العمر فلا ترتوي نفسك من قراءتها. مثل هذه القراءات وجدتها في إبداعات "فرانز كافكا" لأن هذا الرجل كان يكتب بتمهّل بسبب الفراغ الذي كان فيه، وبسبب مرضه، فكان ينظر بأنه كان يقعد في كهف فيكتب كما تفعل المرأة وهي تقعد ليالي الشتاء عند النار تحيك لأولادها وتنسج ما تراه زمهرير الشتاء. فهو كاتب "بياني" يستحق أن تُعاد قراءته مدى العمر، ولعلي أجد شيئاً كهذا في "نيتشه" الذي استقال من الجامعة وتفرّغ للإبداع وهو كسالفه يعاني مرارة الداء المزمن. إضافة إلى جملة هذه البيانات كانت لدي رغبة فيما لو نظر أولئك الذين يستمعون إلى خطب الجمعة من الأئمة والخطباء، أن يعودوا فيما بعد إلى قراءة نص الخطبة باستعارتها من الإمام، ويمكن أن تقوم وزارات الأوقاف في بلاد المسلمين بنسخ هذه الخطبة بشكل أسبوعي وتخصيص نافذة لمن شاء الحصول على نسخة سواء بمقابل أو مجاناً، عندها سيكون بمقدور السامع أن يعود إلى قراءة النص قراءة داخلية تأملية. ويمكن أن ننظر في الأحاديث والحوارات الطيبة التي تجري في التلفاز، فتقوم المحطة بنسخ نص الحوار أو الحديث ووضعه في نشرة، أو في كتيّب على غرار خطب أولياء الأمور.
وهذه عادة محمودة تمكننا من قراءة خطب وأحاديث أولياء الأمور منا، بعد أن نكون قد شاهدناها في التلفاز، وأصغينا إليها في المذياع.
فنرى الفائدة العامة في تعميم هذه العادة المحمودة على الجوانب الدينية والفنية والأدبية في السواد. إذ إن مَنْ لا يمتلك فقه القراءة، يصعب عليه أن يمتلك فقه الإصغاء، أو فقه المشاهدة، فكم من ناظر إلى لب الطبيعة ولب الجمال وليس به فقه النظر فيكون نظره شكلياً خارجياً لا علاقة له بنبل الكنوز الخفية. فالقراءات المتراكمة والمتعدّدة والمتصلة يمكن لها أن تفقّه القارئ في ثقافة القراءة وتجعله أكثر استيعاباً من كائن لا يقرأ إلاّ بطاقات النعوة والأعراس واليانصيب.