تناولت في مقالة سالفة موقع المبالغة من تفكير العقل العربي ودورها الفاعل في تشكيل الخطاب الإقناعي ,وهو خطاب- كما أشرت قبل- يعتمد بدرجة كبيرة على إجادة القول وبراعة البيان,غير أن موقع المبالغة ليس مقصورا على بنية العقل بل هو متأصل أيما تأصل في وجدان العاطفة عند العرب ,فهم يعلمون بكذب المبالغة وتجاوزها لحدود الإمكان العقلي لكنهم مع ذلك يطربون لها ويسرون بإغراقاتها الخيالية أكثر مما يطربون للحقائق الواضحة المعلومة!ففي مقامات الفخر لا يجد الشاعر غضاضة في أن يحلق بسامعيه بعيدا في دنيا الخرافة وتهاويل الكذب كما في قول عمرو بن كلثوم مثلا :
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما * تخر له الجبابر ساجدينا! والممدوح لا يقبل في بلاطه من الشعراء إلا من يتعامون عن الحقيقة ويتقنون فن المبالغة ,فأعذب الشعر أكذبه!وإلا فمن يصدق قول أبي نواس في الخليفة :
وأخفتَ أهل الشرك حتى إنه * لتخافك النطف التي لم تخلق! (؟)
وداء المبالغة الوجداني هذا ليس حكرا على جنس الرجال,فالنساء به أشد ابتلاء وأعظم افتنانا,فإن المرأة لتكره الرجل الواقعي الصادق الذي لا يبالغ في إطراء جمالها وإن لم تكن جميلة أصلا,وتنقاد بلا شعور نحو ذلك الكاذب المخاتل الذي يطريها بما لا وجود له في أنثى قط ولم يرد له ذكر حتى في أوصاف الحور العين !كقول القائل:
نسمات الربيع تجرح خدّيه * ومسّ الحرير يدمي بنانه!
وتزيد النساء على الرجال في هذه: أنهن يُصدقّن ذلك حتى إنهن ليتوهمنه من جنس الحقيقة!وقد راعت الشريعة السمحة ذلك الجانب السمعي في وجدان المرأة فأباحت لزوجها أن يكذب عليها فيسبغ عليها من نعوت الجمال وحلل الخيال ما هي عريّة منه بالكلية ,ومن وجوه حكمة ذلك الحكم البديع:غلق الباب في وجوه الطامعين المفسدين الذي يتربصون بحرم المسلمين الدوائر,وحسم مادة الشر !.
غير أن شيوع المبالغة بشقّيها العقلي والوجداني بين أفراد أمة من الأمم ليعدّ دليلا مفزعا على انحسار سوق الصدق عندها ورواج بضاعة الكذب ,كما أنه يمثل معلما من معالم غياب الثقة بين الناس ,فهم لا يصدقون قول القائل ما لم يبالغ في إثباته مبالغة فاحشة,لتأخذ المبالغة بذلك مظهرا اجتماعيا غير صحي يتطلب العلاج والمتابعة لئلا يذهب بالرصيد المتبقى من الثقة في المجتمع ,ونختم المقالة بحكاية تبين أن الإغراق في المبالغة في الإثبات ينقلب إلى ضد مقصود صاحبه فيفضح كذبه واختلاقه,فقد حكوا أن أعرابيا ارتحل إلى الحاضرة ليمتار لأهله في زمن القيظ والقحط وحين أخذ مؤونته من التاجر لم يكن لديه ما ينقد به الثمن,فسأله التاجر كفيلا ضمينا,فتلفت الأعرابي يمينا وشمالا فلم يجد في السوق من يعرفه وهو الغريب القادم من مجاهل الصحراء,فما كان منه إلا أن نتف شعرة من لحيته وقدمها للبائع قائلا:تكفلني هذه!قرأ التاجر في عين الأعرابي الصدق واستشعر من كلامه آية الوفاء ,فرضي بالشعرة اليتيمة كفيلا ,وفي هذا الأثناء كان أحد المارة يرقب هذا المشهد الغريب:شعرة تكفل رجلا!فعاد من الغد ليلعب دور الأعرابي بالأمس لكن على وجه الحيلة والخداع, وحينما سأله التاجر كفيلا بادر بلا تردد إلى نتف عشر شعرات من ذقنه دفعة واحدة,وقال له بثقة مصطنعة: هؤلاء يكفلنني!فما كان من التاجر إلا أن نفث شعراته في الهواء والابتسامة الساخرة تعلو محيّاه,فاستغرب المحتال صنيع التاجر كيف رضى بالأمس بشعرة كفيلا وها هو اليوم يرفض عشرا!فقال التاجر:لقد كان الأعرابي ضنينا بلحيته العزيزة عليه ,أما أنت فلم تكرمها ,ومن لا يفي للحيته بحقها فما أحراه بامتهان لحى الآخرين!ثم طرده من حانوته شرّ طردة!.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية