حينما تهم بكتابة مقالة تنشر أيام العيد فإنّ هما مؤرقا سينتابك عند اختيار القضية التي ستجعلها مدار مقالتك,إذ تفرض فرحة العيد وما يلفّها من أجواء السرور والحبور على الكاتب أن يصبغ المقالة بروح من المرح و التفاؤل ليشعر قارئها حال قراءتها أنه في قصر أفراح لا سرادق عزاء!ولكي تنجح المقالة في إحياء ذلك الشعور فإنها تتحامى –بلا ريب - الخوض في شؤون السياسة وأحداث المنطقة,إذ لن تجد في الحديث عنها سوى ما يجلب الهم والنكد ويبعث على الحزن والأسى,ولذا فإن ( حلاوة) المناسبة وطلاوتها تحتّم علينا أن نتحدث عن ذاك الذي غدا بحلاوته مضرب الأمثال عند الناس عربا وعجما شرقا وغرباأعني: العسل!. وتتجلى (حلاوة) الفكاهة ولذتها في مادة الإعلانات التي يسوّق بها كثير من العسّالين – جمع عسال وهو من يمتهن بيع العسل –أعسالهم المختلفة بدءا بعسل حبة البركة صعودا وانتهاء بعسل البرسيم (القت) سفولا!والحق أنك واجد من اللذة عند التمعن في قراءة تفصيلات تلك الإعلانات أضعاف ما تجده من لذة ارتشاف العسل نفسه!نعم لا أحد ينكر الفوائد الصحية العظيمة التي ينطوي عليها شراب العسل ويكفي من ذلك وصف الله تعالى في مقام الامتنان على خلقه بأنه { فيه شفاء للناس}غير أن العجيب في ذلك تلك التحكمات العجيبة التي يخترعها العسالون للتفريق بين منافع أنواعه المتعددة ,وهي تقسيمات لا تستند غالبا إلى تحاليل مخبرية علمية أو فحوص صيدلانية حديثة ,وربما كان أوثق ما يستند إليه القوم تذكرة داود الأنطاكي التي ترجع إلى أربعة قرون خلت ,هذا مع تيقني أن كثيرا منهم لم ير تلك التذكرة ولم يسمع بداود أصلا!ومن مضحكات التقاسيم أنهم جعلوا للرجل عسلا خاصا مقويا,وللمرأة العقيم نوعا آخر منشطا للمبيض ,وللأطفال ثالثا يفتح الشهية,ورابعا لمن يعاني من العصبية والقلق ,وخامسا لمن يشتكي من الحموضة والغازات!ولك أن تتخيل ماذا سيحصل لو أن البائع الأخرق اختلطت عليه تلك التقاسيم وتشابهت عليه القوارير ,فصرف للشاكي من العصبية والاكتئاب عسل التقوية والنشاط,ولمن يعاني من الحموضة والغازات عسل الأطفال,ودفع للكهل الستيني العسل المنشط للمبيض!ترى كيف ستسير الأمور مع هؤلاء ؟ باختصار لن يحصل شيء!إذ إن تلك التقاسيم
المبتدعة ليست سوى لعبة دعائية لا تنطلي إلا على السذج من المستهلكين ليكتشفوا في النهاية أنهم كانوا ضحية نوع من النصب اللذيذ.
على أن مثل هذا الاستغلال التجاري لحلاوة مذاق العسل يغدو بريئا ومسالما للغاية إذا ما قورن بضروب خداعية أشدّ رعبا وأشنع جرما,فمما يجري على ألسنة الناس في نعت اللئيم المخادع قولهم إنه (يدسّ السمَّ في العسل)إشارة إلى خبث خداعه وشناعة مكره حين يتخذ من الحلاوة ستارا للإيقاع بضحيته وسبيلا ممهدا إلى حبك مؤامراته ,وهو ما يدعونا إلى أن نرد خاتمة المقالة على عنوانها ,فقد ذكر المؤرخون أن أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب بعث أيام الفتنة بمالك الأشتر النخعي واليا على مصر ,وحين نزل ببلدة القلزم على ساحل البحر الأحمر استقبل أهلوها كعادتهم بأنواع الطعام والشراب على سبيل الإكرام,وكان العسل بالطبع على رأسها ,لكن مالكا خرّ صريعا بعد أن ارتشف منه رشفة لاقى بها منيّته ,وحين بلغ سيّد مصر عمرو بن العاص الخبر قال :الحمد لله ,إنّ لله جنودا من عسل!.ويذكر المؤرخون أن أعداء مالك وهم كثر قد دسوا له في العسل سما ناقعا ,وهكذا عُصبت الجناية ظلما بالقاتل اللذيذ!!.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية