أكثر الناس في الحديث عن ذلك البرنامج الفضائي الغريب ,فحذّر من أضراره على النشء المربون والمصلحون,وأصدر المفتون الفتاوى المغلّظة بتحريم مشاهدته والمشاركة في حلقاته ,ونبهوا مأجورين مشكورين على آفاته الخلقية ومفاسده الاجتماعية وما أحسن ما صنعوا نصحا للأمة ودرءا للفتنة وذبا عن حريم الفضيلة وحمى الشريعة .غير أنني لم أجد من نبّه على أمر خطير يقنع العاقل أيّا كان دينه ومشربه بالجرم الذي يرتكبه منظمو البرنامج بحق المشاركين فيه والذين يبدون ضاحكين ملء أشداقهم راقصين رقصة الطير مذبوحا من الألم!. دعني أقرّب لك ما أعنيه وأرمي إليه:هل اصطحبت أولادك يوما إلى حديقة الحيوان على سبيل الفرجة والانبساط بالتعرف إلى عالم الحيوان في صورته الطبيعية البريئة؟ تبصر التمساح يتهادى غاطسا في مستنقعه بسكينة وسلام ,بينما تتقافز القرود بخفة ورشاقة من غصن إلى غصن لتبث جوا من الفرحة والبهجة,وإن مررت بقفص الأسود وجدت الملك(حيدرة) رابضا متكئا فوق عرش من تراب وقد عض على صولجان من عظام وحوله لبؤته وأشباله ,و لو تأملت مليا في عينيه لقرأت مرارة الألم وذلة الأسر ,فهو يندب حظّه العاثر الذي اقتلعه من جنته الغابة حيث الحرية والخصوصية ثم قذف به في هذا السجن الأخضر المسمى زورا :حديقة الحيوان!تخيّل لو انعكست الآية وانقلب الوضع وصار السجين سجّانا والمزور زائرا ,واكتظت أقفاص الحديقة بصنوف بني الإنسان بألوانهم المتباينة وأجناسهم المختلفة كيف سيكون الحال حينئذ؟
لقد كرّم الله الإنسان بخصائص شريفة ميّزه بها عن الحيوان,ومن أكثر طبائعه تعلقا بما نحن فيه طبع الخصوصية الفردية ,فلكل منا حياته الخاصة التي لا يسمح بالتسلل إليها تحت أي (ستار) أو ذريعة,ولذا اتخذ الناس لهم دورا أحاطوها بالجدر والأبواب ليحفظوا لأنفسهم تلك الكرامة الآدمية العزيزة ,وحتى في الدار الواحدة يتخذ أفراد الأسرة لهم غرفا خاصة بأبواب عليها الأقفال , فالوسط العائلي لا يسقط حقوق الخصوصية الفردية ,فلا يسمح لأحد بالولوج إليها إلا بإذن واستئذان ,وعلى هذا القانون درج الأسوياء من الخلق في كل بقاع الدنيا يستوي في ذلك ذو الدين ومن لا دين له ,فصيانة الخصوصية سلوك فطري مغروس في الوجدان الإنساني لا يتطلب تعليما ولا تلقينا!وأما الشاذون عن تلك الفطرة فلا يعتد بخلافهم!.
ولتعلم فداحة الجرم الذي ارتكبه منظمو البرنامج المذكور في حق أولئك القاصرين المساكين سل نفسك: أترضى لغريب أو قريب أن يضع في منزلك كاميرا تسجل بالصورة والصوت حركاتك وسكناتك وتعد أنفاسك وترقب جميع أحوالك باستثناء النوم والذهاب إلى الخلاء ؟ ستكون إجابتك بالنفي طبعا, وإن وجدت من يرضى بذلك فاعلم أنه من أنصار البرنامج المذكور! ومن المضحك أيضا ما يزعم من نشوء علائق الحب بين الجنسين أمام شاشة ذلك البرنامج وتحت شراهة عيون الملايين من الفضوليين المنشغلين بمتابعة ذلك بالمجان (انتبه إلى أن الدخول إلى معظم حدائق الحيوان يتطلب شراء تذكرة للدخول!),فأي حب مفضوح هذا ! وكم من الجرائم والمآسي ترتكب باسم تلك العاطفة الكريمة السامية؟! ولا عجب إذن أن مقتها كثير الناس لما لحق بها من الإفك والزور والبهتان !وأين هذا الجهر بالسؤ من القول والفعل باسم الحب من غيرة المجنون القائل:
وإياك واسم العامرية إنني أغار عليها من فم المتكلم
يأسى المرء كثيرا كثيرا على أولئك الشباب المشاركين في تلك المأساة ,وينظر إليهم نظر المتحسر المتألم ,لأنهم لا يفطنون إلى أنهم في برنامج اسمه الظاهر (ستار أكاديمي)وحقيقته بالباطن:.. حديقة الإنسان!!.