1- الهاتف النقّال
لا تزال ذكريات أيام ما قبل الإنترنت وبداياتها ماثلة في ذهني حتى اليوم، تدفعني ﻷن أتنفس الصعداء كلما تذكرتها، متمتمًا بحمد الله على هذه النعمة الكبيرة
: الإنترنت وتكنولوجيتها. كان الواحد منّا يشعر بالنشوة لو منّ عليه أحد من معارفه أو زملائه غير البخلاء بكتيب إلكتروني تعليمي (tutorial) أو باسطوانة مدمجة عليها برنامج مهم يريد تعلمه أو تجريبه، بعد أن يكون قد بحث عنه أسابيع أو شهور بين الأصدقاء دون جدوى. حتى نظام تشغيل "لِنُكْس Linux" المجاني، كنّا ننتظر بلهفة اليوم الذي تمنّ علينا فيه مجلة كمبيوتر عربية أو أجنبية، فتوزع نسخةمن توزيعاته مع مجلتها، أو نضطر لشراء كتاب عن هذا النظام، فقط من أجل الحصول على النظام نفسه الذي يوزع في أسطوانة مدمجة مع الكتاب، لتجريبه وتعلّمه. ناهيك عن برامج مكافحة الفيروسات والموسوعات التي كانت توزع منها نسخ تجريبية مع المجلات، ولا نجد طريقًا للحصول عليها غير ذلك.

 

هذه المتعة التي نعيشها الآن بفضل الإنترنت التي جعلتنا نستغني عن ذلّ السؤال الملحّ لمن يمتلكون أدوات التكنولوجيا ولا يريدون مشاركة الآخرين لهم فيها، ونستغني كذلك عن دفع الأموال الكثيرة من أجل الحصول على ما هو مجاني في الأصل من نظم تشغيل أو برامج تجريبية أو مجانية؛ لم تأتِ صافيةً من الكَدَر والمنغصات.

ينطبق الحال نفسه على التقنيتين الأشد خطرًا والأوسع انتشاراً، إحداهما أقدم كثيرًا وهي التلفاز، والأخرى أحدث كثيرًا وهي الهاتف النقال؛ وكلتاهما أحدثت تغييرات كبيرة جدًا في تركيبتنا النفسية والاجتماعية والمجتمعية، أحاول تأملها في السطور التالية.

 

اخترت لهذا المقال ذي الثلاثة أجزاء عنوان "الآثار الجانبية" وليس "الآثار المدمرة"؛ رغم التدمير الحقيقي الذي أحدثته، وذلك ﻷن الإنسان ابتكرها في الأصل لا ليدمّر، بل ليعالج، ويحسّن نوعية الحياة الإنسانية - تمامًا كما ابتكر الدواء - ولكن ﻷن الإنسان أساء استعمالها، وأسرف فيها، دمّرته تدميرًا، وصرنا في حيرة من أمرنا: هل نستعمل هذه الأدوية المريحة الإنتاجية، أم نتركها لنتجنب آثارها الجانبية التي قد تصل إلى حد الإفناء والتدمير لمن استعملها!

 

التكنولوجيا الأولى (السجن الأول): الهاتف النقال
من وسيلة حرية واتصالات إلى وسيلة سجن وانقطاعات

لم يعد الهاتف النقال مجرّد هاتف، بل صار الصديق والرفيق في الحلّ كما في الانتقال!

إن الواحد منا الآن يلتصق بهاتفه الجوال كما لو كان مصحفًا يلازمه! لقد صار الهاتف النقال أقرب إلى المرء من زوجه وأبنائه وأبيه وأمه وأخيه وأخته والناس أجمعين! صار الهاتف النقال كل شيء، فهو المنبه، وهو السكرتير المذكَر الذي لا يفوته موعد! فيعطي عقولنا إجازة من تنشيط الذاكرة، فلم نعد نستعملها لتذكر المواعيد. وهو الآلة الحاسبة التي تعطي عقولنا إجازة من الحساب والعدّ، وهو فِهْرِس الأسماء والهواتف، فيعفي ذاكرتنا مرة أخرى من حفظ الأرقام، وأيضًا – للأسف - حفظ الأسماء نفسها! بضياعه أو تلفه تضيع أرقام أحبابنا وأهلنا، وأسماءهم! وصار هذا التبرير مقبولاً لو حدث وضاع الرقم فعلًا! بل صارت أسئلة مثل: "ما هو عنوانك التفصيلي؟" أو "كيف أزورك بالمنزل؟” مثار عدم راحة وكأنها تلصص غير معتاد في هذا العصر على حياة شخصية لقريب أو صديق، يتبعها ردّ بأننا:"ممكن نرتب على الموبايل” أو "بيننا موبايلات" أو "اتصل وأنا هانتظرك في المكان الفلانيّ"، فلا يعرف أحدٌ عنوان أحد، لزيارة لن تُرتَّب أبداً! ولماذا ترتّب، و "الموبايل يُغْني" كما يقولون! صار النقال سجنا متنقلًا..أو غلًا - اختياريًا! - عن الخير، يلازم معصمك أينما ذهبت، كما صار البيت المعاصر بتقنياته الرائعة سجناً ثابتًا.

صار النقال هو الصديق الملجأ وقت الضيق، فيُستشهد على المكالمات ويسجلّها على المتصلين أو يصوّر المجالسين - دون علمهم – ليقوم مقام الشاهد عند الحاجة، مدمّرًا الثقة بين الناس في خصوصية حواراتهم ولقاءاتهم، ومستغنىً به عن كل صديق نحتاجه شاهدًا يومًا!
والأسوأ، أننا – وقد صار لكل نفس بشرية بيننا رقم هاتف نقال منذ سن الطفولة – استغنينا بعلاقاته عن كل علاقة، وبرناته أو على الأكثر رسائله الموسمية عن كل زيارة. استغنينا به عن الزيارة الحقيقية التي منها نعرف أحوال أهلنا وأصدقائنا ونصل بها رحمنا، ونطّلع من قسمات وجوههم ومن هيئة أجسامهم وملابسهم وبيوتهم والمقيمين معهم على أحوالهم وتغيراتها، فنساعد من كان محتاجًا صامتًا عفيفًا لا نسمع على الهاتف إلا صوته الرقيق الجميل الذي لا يشكو ولا ينبيء عن حاله الصعبة، أو نتعرف على ابنة أو ابن له لم نره منذ ميلاده، أو نتفاعل مع ظروف لا يمكن أن يحكوها هم بألسنتهم.

صارت علاقتنا ببعضنا مجرد رقم على شريحة هاتف نقال، مغلق أحيانًا أو غير متاح .. أو ربما:
غير موجود بالخدمة!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية