(نشرت في جريدة الراي الكويتية، 4 يونيو 2013، صفحة 38)
الرابط النصي || نسخة PDF
لطالما كانت الحكاية غربية السرد أيا كان دراكولا الذي نتحدث عنه، سواء أكان ذاك الذي يظهر في أفلام الرعب، أم كان "الكاونت" دراكولا المسلي الذي يظهر في النسخة الإنكليزية "شارع السمسم" ويعلّم الأطفال العد. الجديد في رواية "المُخوزِق" للروائي السعودي أشرف إحسان فقيه هي أننا نسمع الحكاية بلسان مشرقي.
"المُخوزِق" تحكي عن قصة "دراكولا" الشهيرة من خلال تتبع رحلة أورهان إفندي، مبعوث السلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح)، المرسل كي يُبطل الخرافة المخيفة التي تتناقلها الألسن. ونحن هنا إزاء صنف روائي يجمع بين ثلاثة أمور: التاريخ، والفانتازيا، والرعب.
عليّ أن أشير بداية أن قصة "دراكولا" الأصلية هي رواية لـ"برام ستوكر" صدرت في العام 1897، ويرى النقاد أن ستوكر استلهم شخصية دراكولا الدموية من سيرة ڤلاد الثالث الشهير بـ"المخوزق" حاكم "ولاشيا" السايكوباتي والذي اكتسب اسم دراكولا (أي ابن التنين أو الشيطان) وله تاريخ من الشد والجذب مع الدولة العثمانية التي أفقدها آلاف مؤلفة من بنيها. وعرف ڤلاد هذا باختراع طرق وحشية للتخلص ممن لا يروقون له.
ما يقدمه فقيه لنا في "المخوزق" هو مزيج صعب، فهناك الخيط التاريخي في استقصاء تلك الفترة التاريخية، وكتابة التاريخ روائيا مهمة مرهقة جدا، فهي تمر بأمور عريضة وعامة مثل مراعاة الأحداث التاريخية، وبدقائق متعبة مثل مراعاة وصف الأماكن، والأدوات، والطبيعة، بل وحتى الأسماء التي يتسمى بها الناس في تلك الفترة. والخيط الثاني هو خيط الفانتازيا، خيط تلك الخرافة الأدبية-الفنية التي ألهمت الكثيرين، وتقديمها بطريقة أصيلة ومغايرة لكن تتسق في الوقت ذاته مع القالب التاريخي الذي تأتي من خلاله. وهذه برأيي مهمة ليست بالسهلة فقد يكون من الاسهل كتابة فانتازيا تدور في المستقبل، أو في الفضاء الخارجي، أو في عالم ما تحت الأرض، حيث يمكن للأحداث أن تنساب دون أن يقلق المؤلف حول قيود التاريخ. لكن أن يكون الماضي هو الإطار الذي تدور فية الأحداث، وأن تكون الرواية مهمومة بالتوثيق التاريخي وبأصالة الفانتازيا التي تقدمها في الوقت نفسه، فهذه مهمة ليست يسيرة أبدا، وأرى أن الكاتب وفق في ذلك. هذا قطعا لا يعني أن كل ما ورد في الرواية حدث فعلا، فالبادي أن عددا لا بأس به (بما في ذلك البطل أورهان إفندي) هي من نسخ خيال الكاتب، وكذلك هي تفاصيل الأحداث، لكن كل ما يحدث كان مربوطا بالصورة التاريخية العامة، يتأطر بإطارها، ويسير في مجراها.
بطل الرواية هو أورهان إفندي، المعلم الألمعي -لكن المغمور- الذي تصل سيرة رجاحة عقله وسعة علمه إلى السلطان محمد الفاتح، فينتجبه ليتقصى الحقائق ويخرس الأقاويل عن تلك الأنفس التي تموت في "ولاشيا" (التابعة للحكم العثماني) وقد نهش شيء رقبتها. كان الناس يرددون أن ڤلاد الثالث (دراكولا) قد جاء بعث من الجحيم، وأنه هو من أجهز على كل هؤلاء! وبدل أن يأتي أورهان ظافرا، يجد هذا الشيء وقد نهش رقبة مرافقيه الموكلين بحمايته وإخفائه عن الأعين. يختطفه بعدها جماعة من الغجر (أو "الرومن" كما يسمون أنفسهم) الذين يحاولون التأكيد لأورهان بأن ما يظنه خرافة حقيقة، وبأنهم لهم شخصيا ثأر مع ابن الشيطان هذا، إلا أن أورهان يظل غير مصدق. وحينما تقترب الحكاية نحو النهاية تبرز طائفة من المفاجآت مكانها قلعة "بوناري" حيث يقابل ميخنا وميخائيل، ومفاجآت من العيار الثقل تفسر كل ما كان يحدث. بانت الرؤية، ودكت الخرافة بأن حل محلها تفسير فواجعي، تفسير منطقي جدا، وبعيد عن الماورائيات والأقاويل المستشرية، لكنه تفسير يجعلنا نفضل الخرافة على معرفة ما يدور فعلا. المؤسف أن أورهان يجابه الموت قبل أن ينقل هذه الأخبار لأرض الأناضول.
الرواية تحمل تحذيرا بأنها غير مناسبة لمن هم دون السابعة عشرة، وهذا تحذير واجب، فالرواية فيها تفاصيل أقل ما يقال عنها أنها غير مناسبة للجميع، بل مزعجة، بل مرعبة. لكن الرواية ليست من نوعية الروايات المكتوبة لإثارة الرعب وحسب (الرعب لأجل الرعب إذا شئتم)، لكن طبيعة القصة تفترض هذه التفاصيل المرعبة. تصل الرواية إلى أقصى دمويتها في الفصول الثلاثة الأخيرة، وشخصيا أنصح بقراءة هذا الجزء حينما يكون القارئ سلفا في مزاج سيء ويشعر بالتقزز من العالم.
كنت أتمنى في بعض المواضع مزيدا من الهوامش لشرح بعض الكلمات أو توضيح بعض الجهات الجغرافية، أو وضع ذلك في محلق آخر الكتاب. كما أن شخصية "شيلا" الغجرية تبدو مكررة، وتتشابه إلى حد بعيد مع شخصية "أزميرالدا" الغجرية في رواية فيكتور أيغو "أحدب نوتردام". نجد شيلا في "المخوزق" جميلة إلى حد لا يتسق مع الغجر، شأنها شأن أزميرالدا، يرافقها دب أليف منزوع الأسنان، في حين يرافق أزميرلدا عنزة.
ختم المؤلف الرواية بشكل جيد وحاسم، بأن أوقع أورهان في يد من كان وراء هذه الجرائم الذي أخذ يعده العدة للقضاء على أورهان، وهذه النهاية –رغم أنها مؤسفة- إلا أنها كانت كافية وجيدة فنيا. ثم يبدو أن المؤلف ندم على حسمه هذا، فأضاف بضعة جمل تجعل النهاية أقل حسما ودراماتيكية، بأن حول انتباه القارئ من مسألة قتل أورهان، إلى حالة أورهان النفسية خلال الموت، وماذا قد يفكر فيه. وهذا أمر مفتوح للتأويلات، ويشتت انبهار القارئ بالعمل.
رواية المخوزق لأشرف فقيه، دروس في التاريخ وفي كيفية النظر إليه من أكثر من زاوية، معلومات مثرية، وحبكة مشوقة وإن كانت مرعبة. هذه الرواية –بكل المقاييس- مشروع ممتاز لفلم عربي قد يصل للعالمية إن إتيحت له الإمكانات الجادة.
من الرواية:
- يتابع الوزير:
الشائعة تنتشر بين الدهماء انتشار النار في الهشيم. المزيد من القتلي مشقوقو الحناجر يظهرون كل يوم بدون أن يُعرف لهم قاتل والتهمة تلصق مباشرة بڤلاد العائد من الجحيم. الذعر من هذه الخرافة يقود الناس للهجرة العشوائية، ويفقدهم رشدهم فتنتشر التعديلات والجرائم أكثر.
- يعلق السلطان وهو يقلّب الرغوة على سائل الرمان:
الخوف يا إفندي هو أسوأ أعدائك، لأنك لا تستطيع أن تعتقله، ولا أن تسير ضده حملة أو تقهره بجيش. إن هذا العدو الأسوأ يكتسح الروملي ويتقدم عبر البلقان.