"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيّ قرائك أحبّ إليك؟ قال الأستاذ الشيخ: هذا الذي يقرأ مخلصًا، وينقد ناصحًا، ويعلن الرأي صريحًا، لا يصانع فيه، ولا يلتوي به. قال الطالب الفتى: ومن لك بالقارئ الذي تجمع له هذه الخصال؟ قال الأستاذ الشيخ: هبّه إحدى المنى التي يقول فيها الشاعر القديم:
منًى إنْ تكنْ حقًا تكنْ أعظم المنى وإلاّ فقد عشنا بها زمنًا رغدا
وها أنا أعود مرة أخرى بعد انقطاع دام أكثر من سنة؛ لأتحدث في موضوع دقيق يهتم له المجتمع، أو أكثر طبقات المجتمع، أعني بذلك طبقة المعلمين، أولئك الأكثر صبرًا وجهادًا وشقاءً من أي فئة أخرى.
أتحدث عن أوضاعهم بعد أن غابت الأصوات التي تدعو لأنصافهم ماديًا، وبقي جرحهم ينزف دون أن ينظر أحد من المسؤولين إليه بعين اهتمام ومتابعة.
أترك الحديث عن أوضاع المعلمين المادية، الآن؛ لأني سأعرض لوجه آخر من معاناتهم، وإن كانت لا تقلّ أهمية عنه، سأتحدث عن الإشراف التربوي ودور المدير في المدرسة.
إنّ وزارة التربية والتعليم هي الجهة المسؤولة والمخولة بسنّ القوانين وإصدار التعليمات التي تراها مناسبة وملبية لطموحات شعبنا العظيم، وهي أعلى الهرم في طبقة الموظفين سواء أكانوا في مكاتب التربية أم في المدارس من مديرين ومعلمين. وهذه الوزارة مهمتها متابعة أخبار الموظفين ورسم الخطط المستقبلية وحلّ المشاكل وغير ذلك ما يتصل بالتعليم.
ودور مكاتب التربية في المدن هو دور الوسيط المكلف بمتابعة أوضاع المدارس، من معلمين وطلبة، وقضية الإشراف التربوي هي شأن ترعاه الوزارة وتشرف عليه المكاتب في المدن، وتوضع عادة من أجل مصلحة المعلم والطالب، فيقوم المشرفون بعقد دورات متواصلة منتظمة لتدريب المعلم وإكسابه الخبرات والمهارات اللازمة، وإصدار نشرات تساعده في استخدام المنهاج المدرسي أو حل مشاكل الطلبة داخل غرفة الدرس، ثم القيام بزيارات منتظمة للمدارس لمتابعة أحوال المعلم وطلابه وما يواجهه من مشاكل.
وتأسيسًا على ما تقدم، يترتب على الوزارة أن تضع من المشرفين من ترى فيهم تميزًا في علمه وصدقه وانتمائه ونشاطه، ولديه القدرة على التعامل السلس مع الطبائع المختلفة من جمهور المديرين والمعلمين، ويمتلك شخصية قادرة على إدارة البرامج وإعداد الخطط والنفاذ لقلب المعلم وعقله، ذاك الذي تقع عليه مسؤولية تنفيذ ما استقبل من معلومات ومهارات، فهو الجندي الذي لا يفارق المعركة، فإن نجح في عمله كان النجاح للمشرف ثم لمكاتب التربية ثم للوزارة بعد ذلك، والعكس صحيح.
وما يصدق على المعلم، يوافق المدير أيضاً فحالهما متشابهان متلازمان، فهما كالضابط والجندي، في الميدان يتلقيان الأمر والتدريب كلّ وفق وظيفته، وينفذان وفقًا لهدف واحد وهو النهوض بالتعليم، وتحقيق أقصى غاية ترتجى خلال كلّ عام دراسي.
إنّ المشرف التربوي والمدير والمعلم هم مرسلون لبعضهم ومستقبلون في آنٍ واحد؛ فالمشرف يرسل الخبرات والملاحظات للمعلم ويستقبل منه ما يعسر عليه في أثناء عملية التدريس، فيستمع لمشاكله ويسهم في حلّها.
والمدير يستقبل من مكتب التربية التعليمات الصادرة عن الوزارة ويقوم بتبليغها للمعلم وللطلبة، ويشرف على تنفيذها بنفسه، ويستقبل من المعلم اقتراحاته وما يحتاج من أدوات ووسائل تعينه في عملية التدريس، فيساعده آخذًا بيده لتخطي ما يواجهه من عقبات.
ويقوم المعلم بعد ذلك بدوره التعليمي المتمثل بتحويل الرموز في الكتب إلى مهارات وممارسات وفعاليات ينفذها الطلبة حفظًا وقراءة وكتابة وسلوكًا؛ لذا فدور المعلم من أخطر الأدوار وأصعبها على أرض الواقع، فكل العيون موجهة إليه؛ من الطلبة وأهلهم ومن المدير والمشرف ومكتب التربية ومن الوزارة أيضًا، هو وحده الذي يتوقع منه أن يحقق النجاح والانتصار، وما عداه يخطط ويصدر الأوامر ويراقب ثم يحكم.
وليس من فراغ قال شوقي قديمًا : قمْ للمعلمِ وفّهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
ولا يستطيع أحد أن يقلل من الدور الذي يؤديه المعلم على هذا النحو، ولا من المصاعب التي تتحيف طريقه، فهو مطالب أن يكون ماضي العزم شجاع القلب، مصقول القريحة، عارف بمسؤوليته، عالم بواقعه، سياسي في التعامل مع الطالب والمدير والمشرف، واقتصادي في الوقت، مدبر لا يضيع لحظة هباء، فعمله يقاس بالزمن ولا يقاس بشيء آخر، هو في مهمة صعبة ودقيقة لا يعيها بجد إلا من جرّب التعليم وذاق مرارته، وبُحّ صوته، وشُدّت أوتاره، وتضخمت أوداجه، وتهاوت خطواته وهو بين المقاعد أو في الساحات يراقب هذا، ويركض خلف هذا.
إنّ إنسانًا كالمعلم يجب أن يحاط بالعناية والرعاية والدعم والتأييد كي يبقى قطار العلم يسير باتجاه صحيح، فهل تعي الوزارة كل ما ذكر؟ وهل تتابع ما تقوم به مكاتبها في المدن؟ وهل عملية الإشراف التربوي بوضعها الحالي وتعاليمها السامية تؤدي واجباتها على الوجه الصحيح؟ أم تقف له بالمرصاد، تراقب حركته من بعيد فقط، وما العلاقة القائمة بين المعلم والمدير من جهة وبين المعلم والمشرف من جهة أخرى؟ وهل تلك العلاقة قائمة على الصدق والمصارحة والمشاركة في الهمّ الواحد والهدف الواحد أم هي علاقة رجل التحقيق بالمتهم المسكين؟
وكي نجيب أو نحاول معرفة الإجابة يجدر بوزارتنا الموقرة أن تتبنى هذه الأسئلة أولاً، وتحاول أن تجيب عنها بوسائلها المتعددة، وأنا أعتقد أنها تستطيع ذلك وسوف تقطف ثمارًا جيدة ما كانت لتحلم بها، وستسهم إن فعلتْ في بناء جسور الثقة والمحبة بين جمهور موظيفها، وستجتاز عقبة كبيرة تجثم في طريق نهضة التعليم في فلسطين، وربما في الوطن العربي لو نُظِرَ إلى الأمر من هذه الواجهة.
وكما قال المتنبي قديمًا : ليس الذي يتّبعُ الوبلَ رائداً كمنْ جاءه في داره الوبلُ
إنّ وزارتنا الموقرة مطالبة وهي تحرص كل الحرص على إنجاح دور المعلم أن تجعل حلقة التعليم موصولة بأطرافها بين المشرف والمدير والمعلم؛ لأنّ الذي يحدث ليس هو الذي يكتبه المشرف أو المدير، فهما يزوران مرة أو مرتين في العام بينما تبقى آلاف الحصص غائبة عن الأنظار لا يعلمها إلاّ الله عز وجل.
إنّ سياسة الوزارة التي سنّت وجود تقرير يقيم فيه المشرف أداء المعلم وتقرير آخر للمدير هو ظلم بعينه للمعلم، لأن ذلك يعني أن يبقى المعلم مراقبًا طوال العام من المدير حينًا ومن المشرف حينًا آخر في كلّ حركاته حين يحضر وحين يغيب، وحين يكتب وحين لا يكتب، ثم جعلت الحصة التي يحضرها المشرف أو المدير هي مقياس عطاء المعلم، دون الأخذ بالحسبان موضوع الدرس، ووقت الحصة أو باقي الحصص الأخرى.
وقد وجد بعض المشرفين والمديرين في هذا التقرير وسيلة لإرهاب المعلم، فاصطادوا في الماء العكر، وحكّموا مصالحهم وعلاقاتهم، ونسوا مسؤوليتهم أمام الوزارة وأمام الله أولاً وأخيرًا.
وأتساءلُ: لماذا لا يكون للمعلم تقرير عن المشرف والمدير أيضًا؟ أو توزع استبانة مطوية يعبئها المعلم عن أداء المشرف والمدير في نهاية كل عام، حتى يشعر الجميع أنه مراقب ومسؤول ومطالب بالعدل والإنصاف.
إنّ نهضة الأمم وبناء الحضارات لا تكون ولا تصنع حين يتساوى العامل والخامل في المجتمع، وحين تمارس سياسة الترقيع وتغليب الأهواء حتى في أصدق المهن وهي التعليم.
ما أحوجنا إلى رجال أمناء مصلحين يستمعون إلى الحق فينتصرون له، وذوي انتماء يغلبون هموم الوطن والمواطن على همومهم الشخصية، وذلك من أجل وطن قوي، وأجيال تجد ما يستحق أن يضحى من أجله.