تعتبر مدرسة أهل الحديث من المدارس السنية الإسلامية التي تميزت بالاهتمام بالحديث النبوي الشريف، والتي نشأت وتبلورت على يد علماء الحديث، وقبل أن نعرف بهذه المدرسة ومذهبها الفقهي، لابد من الوقوف - ولو في أسطر معدودة - على المقصود بأهل الحديث. فالحديث لغة: ضد القديم، واصطلاحًا: " هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلقي أو خُلقي"[1]. وفي التعريف بأهل الحديث، تتابعت الآثار عن العلماء والأئمة أن الطائفة المنصورة أو الناجية في حديث معاوية - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس"[2] هم أهل الحديث، قال علي بن المديني (234 هـ) إن المقصود بالطائفة: أهل الحديث الذين يتعاهدون مذاهب الرسول صلى الله عليه وسلم ويذبون عن العلم، لولاهم لم تجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئًا من السنن، ويقول الإمام أحمد (241هـ) لما سئل عن الجماعة: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم"[3]، وقال ابن قتيبة (276هـ): "فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوا مظانه، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم لآثاره وأخباره برًا وبحرًا، وشرقًا وغربًا، يرحل الواحد منهم راجلًا مقويًا في طلب الخبر أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة، ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك حتى نجم بعد أن كان عافيًا، وبسق بعد أن كان دارسًا، واجتمع بعد أن كان متفرقًا، وانقاد للسنن من كان عنها معرضًا، وتنبه عليها من كان عنها غافلاً، وحكم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان، وإن كان فيه خلاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"[4]، ويقول ابن تيمية: " وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك: هم
أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم لذلك، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة"[5]، ويقول محمد عبد الهادي المصري:" هم الذين يعتنون بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، باذلين جهدهم على مدارسة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وروايتها واتباع ما فيها علمًا وعملاً، ملتزمين بالسنة مجانبين للبدعة، متميزين عن أهل الأهواء الذين يقدمون مقالات أهل الضلالة على أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقدمون عقولهم الفاسدة ومنطقهم المتهافت وكلامهم المتناقض على ما جاء به الكتاب العزيز والسنة الشريفة"[6]، فأهل الحديث إذن أولوا اهتمامًا بالغًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فهمًا وتبليغًا، ونبذوا الرأي واستخدام العقل في المسائل الشرعية فجاءت تسميتهم بذلك مطابقة لمنهجهم، فقد قال الإمام سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث: "إنما الدين بالآثار ليس بالرأي، إنما الدين بالآثار ليس بالرأي، إنما الدين بالآثار ليس بالرأي"[7]. وانطلاقًا من هذه النصوص نخلص إلى أن مصطلح أهل الحديث يطلق على كل من له صلة وثيقة بالآثار طلبًا وجمعًا وفهمًا وحفظًا وروايةً واتباعًا وعملاً في الظاهر والباطن، يقول ابن تيمية: "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا، واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن"[8]؛ وذلك انطلاقًا من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة الدين الذين يقتدى بهم كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة الأجلاء الذين شهد لهم باقتفاء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم...، كما جاء في كلام ابن تيمية: "... ثم الشافعي وإن كان أصله مكيًّا فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره. وكذلك الإمام أحمد: وإن كان أجداده بصريين فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين، ولا غيرهم"[9]، ويخرج عن أهل الحديث كل من اشتهر بمخالفة سنة الرسول الكريم ومذهب الصحابة بتقديم رأي أو هوى أو استحداث بدعة، فلم يكن مذهب أهل الحديث إذن مذهبًا جديدًا مبتدعًا، بل هو المنهج الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء والتابعون لهم بإحسان من الأئمة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين -، وإنما تميزوا بهذا اللقب - فيما بعد - في مقابل أهل البدع والأهواء والفرق الضالة المخالفة. وقد تأسست مدرسة أهل الحديث على يد أئمة وعلماء السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والتابعين أمثال: الحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح...، وأتباع التابعين أمثال: سفيان الثوري والأوزاعي وشعبة...، يقول ابن تيمية - رحمه الله - : "وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما، إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة، وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك، وكذلك مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة، وما تكلم في من تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة، إما لعدم بلاغها إياه أو لاعتقاد ضعف دلالتها أو رجحان غيرها عليها"[10]؛ فكان لأئمة الفقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم من الفقهاء والمحدثين كإسحاق ابن راهويه، وابن أبي شيبة، وسفيان ابن سعيد الثوري، والأوزاعي وغيرهم، الدور الهام في بناء معالم مدرسة أهل الحديث، وقد زاد نشاط هذه المدرسة وبرزت كطائفة مستقلة متميزة في القرن الثاني الهجري، حيث بدأ الصراع بينهم وبين مدرسة الرأي.[11] وقد قام منهج أهل الحديث في بناء الأحكام الشرعية على الاستنباط من الكتاب والسنة، فحرصوا على السنة دراية ورواية، حفظًا ونقلاً، ومن كثرة حرصهم عليها قدموها على كل ما دونها، يقول الأستاذ الخضري: " أهل الحديث قبلتهم السنة باعتبارها مكملاً للقرآن، وباعتبارها نصوصًا تعبد بها الشارع الإسلامي من دان بالإسلام، من غير نظر إلى علل راعاها في تشريعه، ولا أصول عامة يرجع إليها المجتهد، ولا أصول خاصة بالأبواب المختلفة، فهم المتشرعون الحرفيون، ومن أجل ذلك نراهم إذا لم يجدوا نصًا في المسألة سكتوا ولم يفتوا"[12]. فقد أشار الأستاذ الخضري في هذا النص إلى مسألة أصولية عقدية أساسية تتعلق بالتعبد والتعليل، حيث ذكر أن منهج أهل الحديث في ذلك يقوم على التعبد بدلاً من تعليل الأحكام وبيان حِكَمها الشرعية، وجعل أصول أهل الحديث في استنباط الأحكام قائمة على النص من الكتاب والسنة فلا يتعداه إلى ما دونه. بيد أن واقع مدرسة أهل الحديث ومنهج روادها في التأصيل للأحكام الشرعية لا يقف عند حدود المنصوص عليه من الكتاب والسنة بل يتعداه ليشمل استعمال العقل في حدود ما يسمح به الشرع الحنيف. إن منهج أهل الحديث في أساسه قائم على اتباع القرآن الكريم واتباع كل ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل ما ثبت عنه، فلا يتركون قوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره، ولا يشترطون أن يكون الحديث متواتراً، بل هم يعملون بالمتواتر والآحاد على حد السواء، ولا يعملون بالضعيف ولا يفرقون في ذلك بين فضائل الأعمال وغيرها، ومن أصولهم أيضا في استنباط الأحكام: الإجماع وهو عندهم إجماع السلف الصالح، وهو حجة ملزمة لمن بعدهم، إذ هم أعلم الناس بدين الله بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإجماعهم لا يكون إلا معصوماً، أما إجماع من بعدهم فمتعذر غالبًا، ولا يقبلون به إلا إذا كان له مستند من الكتاب والسنة، ولا يقدمونه عليهما؛ ومن أصولهم أيضًا: القياس ما لم يخالف النص، ولا يصار إليه إلا عند الضرورة وعندما تضيق السبل بالأدلة الأخرى، ولكنهم يقدمونه على الحديث الضعيف، واعتبروا قول الصحابي فيما لا نص فيه - إذا كان إسناده صحيحًا - حجة إذا لم يخالفه صحابي آخر، واعتبروا كل ما ورد عن الصحابة من قول أو فعل مما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع، فلا يقبل أهل الحديث اجتهاداً إلا بعد عرضه على الأصول الكبرى - من الكتاب والسنة - التي يقوم عليها منهجهم الفقهي، ولا يخالفونها برأي ولا بعقل ولا بقياس، بل يجتهدون بآرائهم في ضوء تلك المصادر من دون أن يخالفوها.[13] يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول وأعلمهم بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثًا عن ذلك وعن نقله، وأعظمهم تدينًا به واتباعًا له واقتداء به، وهؤلاء هم أهل السنة والحديث حفظًا له، ومعرفة بصحيحه وسقيمه وفقهًا فيه وفهمًا يؤتيه الله إياه في معانيه، وإيمانًا وتصديقًا، وطاعةً وانقيادًا واتباعًا مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم وتمييزهم وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم، فإنهم أسدى الناس نظرًا وقياسًا ورأيًا، وأصدق الناس رؤيا وكشفًا."[14] والناظر في أصول الإمام أحمد في الاستنباط يجدها لا تخرج عن أصول أهل الحديث فنجده - رحمه الله - يقدم العمل بنصوص الكتاب والسنة ثم أقوال الصحابة وفتاويهم، وكان يعمل بالحديث المرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وقد بين الإمام ابن قيم رحمه الله المراد بالحديث الضعيف الذي يأخذ به الإمام أحمد في معرض تبريره لترجيح الإمام أحمد للحديث الضعيف عن القياس، فقال رحمه الله تعالى: "وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، بل إلى: صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرًا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس"، وإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول صحابي، أو أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى القياس الذي عد استعماله ضرورة ملحة في هذا المقام.[15] وبذلك يكون مذهب أهل الحديث أعم مما ذهب إليه الأستاذ الخضري في النص السالف الذكر، فهو يضم كل من كان مذهبه يتأسس على العمل بالقرآن والسنة الشريفة وآثار الصحابة وإجماعهم والتابعين لهم بإحسان، ولا تكون اجتهاداتهم إلا بما يوافقون به هذه المصادر ولا يخالفونها بأي وجه كان، وبذلك يصيبون طريق الحق، يقول ابن تيمة - رحمه الله -: "فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة"[16].
[1] - منهج النقد في علوم الحديث، للدكتور نور الدين عتر، دار الفكر دمشق، ط 2، 1399هـ/ 1979م، ص 26.
[2] - الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وسننه وأيامه، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط 1 1422هـ رقم 71. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت رقم 1524.
[3] - شرف أصحاب الحديث، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ت 463هـ، تحقيق محمد سعيد أوغلي، ص 10.
[4] - تأويل مختلف الحديث والرد على من يريب في الأخبار المدعى عليها التناقض، أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، تحقيق أبو أسامة سليم بن عيد الهلالي السلفي الأثري، دار ابن القيم ودار ابن عفان، ص 159.
[5] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم بمساعدة ابنه محمد، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المدينة المنورة، ط 1425 هـ 2004 م، ج 4، ص 26.
[6] أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى، لمحمد عبد الهادي المصري، ص 49. [7] - شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، ص 6.
[8] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، ج 4، ص 95.
[9] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ج 10، ص 362.
[10] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ج 4، ص 11.
[11] - الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري، للدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد، دار الوفاء، ص 81.
[12] - تاريخ التشريع، للخضري محمد بك ت 1345هـ، دار إحياء الكتب، ط 1 سنة 1339هـ ، ص 197.
[13] - توضيح أصول الفقه على منهج أهل الحديث، زكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار بن الجوزي، ط 1، 1468هـ، ص 27- 150.
[14] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ج 4، ص 85. [15] - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بان قيم الجوزية، تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن الأسلمان، دار ابن الجوزي، ط 1 1423، ج 1، ص 29- 32.
[16] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 10، ص 362.