قبل أيام قرأت رواية "عفار" للكاتبة الكويتية حياة الياقوت، وتقع الرواية في 208 صفحات من القطع المتوسط، وتدور أحداثها بين الكويت والسودان والصومال وأديس أبابا، ونستطيع تصنيفها من الأدب المواجه للمد التبشيري القادم من أوروبا والذي يجتاح القارة السمراء منذ زمن، إذ ليس أمام أهلها الجياع سوى أن يعتنقوا المسيحية ليس لأنها الدين الصحيح، ولكن لأن المبشرين بها يطعمون الناس خبزاً يقيم أصلابهم. تتدرج الرواية من ثانويات الكويت وأروقة جامعتها بين طلبة أغراهم حب الاكتشاف، ونمت في دواخلهم بذرة الخير ليقوموا بواجبهم تجاه إخوان لهم تجاهلهم الإعلام وكأنهم خارج إطار الزمان، ومازالت الكويت تقدم نماذج مشرفة للعمل الخيري بدءا من الداعية المغفور له بإذن الله عبد الرحمن السميط إلى يوم الناس هذا، قافلة متطوعين بينهم طبيب أو أكثر، وطلاب جامعة وفريق عمل متكامل تدعمه المعونات التي لا تكتفي بإرسالها فقط وإنما تشرف تلك الجماعة على توزيعها لمستحقيها.
مشاهد الفقر والعوز والمرض صور تتوالى في مخيلتي بكل تفاصيلها عندما أقرأ عفار، يشدني ذلك الخيط الرفيع الذي تمسك الكاتبة بطرفه ويضيع مني أحيانا في أدغال إفريقيا.. أستدعي حديثاً للسميط رحمه الله، وكيف واجهته المصاعب وأن العمل الخيري ليس نزهة برية وإنما مجموعة أخطار وعلى من أراد القيام به أن يتحلى بالصبر والعلم والمعرفة وألا يندفع بسخاء ولا يقلع بجفاء، وأذكر في برنامج تلفازي تحدث فيه عن أطفال جوعى بين مخالب الموت يحتاج أحدهم يومياً إلى دولار أمريكي تقريبا لكي يعيش.. ومبدأ السميط في ذلك كما تقول الحكمة الصينية: علمني الصيد بدلاً من أن تعطيني كل يوم سمكة.
تنتقل الكاتبة بين فصول الرواية انتقالا سلساً فتترك حبل الأفكار يتدلى بين مطار الكويت ومطار الخرطوم وأديس أبابا.. تشدني لغة روعة أحد أعضاء الفريق.. عندما تسترسل فتنسى ما حولها، تجمع أفكارها المتطايرة هنا وهناك فتكتب على علبة المناديل وعلى قصاصة فاتورة، وعلى يدها إلى أن تتيسر لها أدوات الكتابة، تغوص في عالم الكتابة والورق.. يمثل أمامها أبرهة الحبشي عندما كانت في أديس أبابا فتراه يقود فيله ليهدم كعبة المسلمين، يحث جيشه ليحرز النصر فتلقي طيور الأبابيل بحجارتها عليه فيهلك.. تستدعي الحوار الذي دار بين النجاشي ورسل قريش حينما وصله وفد المسلمين بعد بزوغ فجر الدعوة إلى التوحيد فترسل قريش حكماءها لتثني النجاشي عن عزمه، فلا يستقبل ضيوفه، ولكنه ينصت إلى تلاوة سورة مريم بخشوع يجعل قلبه وداره وأرضه تتسع لهؤلاء المشردين.. تقسّم روعة وأظنها بطلة القصة إن لم تتقاسم دور البطولة مع مشعل الذي حمل الأمانة في قلبه وعلى ظهره ليبني خلوة أو مسجداً لحفظ القرآن الكريم في دارفور، فكاد أن يشتعل فتيل أزمة دولية بسبب فقدانه في مطار الخرطوم. تقسّم روعة كتاباتها حسب فترات الإلهام التي تأتيها بين الفينة والأخرى.. تختم الرواية بحديث واسع عن السميط رحمه الله، ولا شك أنه مفخرة للعرب قاطبة وللمسلمين عامة. توغل في رحلة الطب والحب والسجن والعذاب والدعوة، تكتب لأن السميط آثر الباقية على الفانية، تخيط دشداشة كويتية غاية في البراعة حول رحلاته المتعددة في أوروبا وإفريقيا تلك القارة المنسية، كيف تقشف السميط رحمه الله وتبرع بجائزة الملك فيصل العالمية التي حازها في العام 1996م، لدوره الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين، فبنى بها دور عبادة وأوقافاً خيرية وخلوات وحفر آباراً وأقام مشاريع شتى، دعوني أسمّه "أبو إفريقيا" ولا أبالغ، لعل الله أن يبعث في هذه الأمة رجلاً آخر وفيها كثير بإذن الله تعالى، فهي أمّة ولّادة حتى قيام الساعة.
تعرّج الكاتبة على حدث لا يبرح ذاكرة الكويتيين على الإطلاق إنه الغزو الذي أحال الأرض الخضراء إلى رماد.. لأن هولاكو القادم من الشرق لم يحترم حق الجوار فأساء للأمة ككل وما زال العالم العربي يدفع فاتورة نزوة قائد سياسي بعد مضي عقدين ونيف على حادثة الغزو.. تتعرض لما يواجهه الأسرى في السجون العراقية، أذكر أن مجلة العربي الكويتية – وبصفتي من متابعيها الشغوفين بقراءتها سابقاً- توقفت عن الصدور منذ أغسطس 1990 حتى إشعار آخر.. وكانت الأعداد التي تلت تلك الحقبة حينما كان يرأس تحريرها د. محمد الرميحي كانت تضع على غلافها الداخلي عبارة بالمانشيت العريض" لا تنسوا أسرانا"، حس وطني يتجسد وصرخة وتوق إلى الحرية، "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة" لم نفهم معنى هذا البيت جيداً إلا بعد أن عشناه واقعاً إبّان الغزو..
تستخدم الكاتبة وسائل التواصل الاجتماعي.. تستلهم لغة الرسائل الواردة في الوتساب والفيس بوك وهي بذلك ترصد أحوال الشباب العربي واستخداماته للتقنية وتوظيفها لها في حياته، ولكن المفارقة العجيبة أن يبحث طالب يعيش المدنيّة في أرقى صورها عن شريحة اتصال في بلد لا يجد ما يسد به جوع أبنائه.. ترد في الرواية عبارات من الحديث الشريف والآيات القرآنية، ليت الكاتبة عملت على تخريجها من مظانّها، تتكئ على فقه اللغة وسر العربية فتنهل من مورد الثعالبي العذب لتتدرج في الحديث عن سمرة الإنسان: أسمر..أدلم.. إلخ. كان السميط يهيمن على الرواية منذ انطلاق القافلة، وكأنه هو الذي يقودها بهدوئه المعتاد وتعابير وجهه المخبأة خلف نظارته السميكة كما يحكي تاج السر وسائق الأجرة الصومالي، وكذلك عملُ الأطباء التطوعي في مداواة المرضى المعوزين، وما زلت أتذكر كلمات للسميط رحمه الله يقول فيها: الأطباء أكثر قدرة وأشد تفانياً في العمل الخيري، ويصف كيف تتم عمليات إزالة الماء الأبيض (كترات) من عيون المرضى الفقراء وينادي دائماً أن العمل الخيري لا يشتمل على بناء المساجد فحسب، ولا يقف عند حدود توزيع الزكوات والأعطيات، فربما أساء هؤلاء الجوعى استخدامها فأصبحت وبالاً عليهم بدلاً من نفعهم.
تشير الكاتبة بإشارة ذكية إلى مقاومة العمل الخيري من قبل الحكومات، واشتراطاتها اللامنتهية بأن يكون منظماً ومنهجياً وتحت مظلة رسمية، فالدول لا تنظر بالعواطف وإنما ترى النتائج وتقيسها وتقدر العواقب التي تتمخض عنها، لكي يتخلص العمل الخيري من شوائب الإرهاب لا بد من يد حكومية ترعاه وتوجهه، وثقتها وثقتي أنا أيضاً أن العمل الحكومي ربما يكون بيروقراطياً وسياسياً بحتاً وبالتالي فهو عبارة عن قروض لكسب المواقف ليس إلا، ومجاملات على حساب الشعوب الجائعة، بينما قيام رجل بمفرده - وإن كان أمّة - كعبد الرحمن السميط يعد مبادرة تعجز عن القيام بها دول ومنظمات، لأنه في الحقيقة جابه دولاً غربية كبرى وكنائس كرست أموالاً وطائرات ومبشرين في خدمة التنصير. من المطبّات التي تمنيت ألا تسترسل الكاتبة في الحديث عنها بعض المواقف والتداعيات كالتي وقعت في الجامعة بين الطالب الإفريقي لقمان ذي البشرة السمراء وبين زملائه أثناء الحديث عن الطب والإنجليزية والسواد والبياض.. أرى أنها بعد عن جو الرواية وإقصاء القارئ أو تقهقره إلى الخلف بينما هو منحدر باتجاه القارة السمراء.
وددت أيضاً أن تنقى اللغة من الأخطاء الإملائية التي أفسدت جمالية النص بكثرتها، فوردت في صفحات عدة أذكر منها على سبيل المثال: (يدنكم) والمقصود دينكم، ص79 (أرّقاء) والمقصود أرقّاء ص83، (المشهد اللي طالما تخيلته): المشهد الذي طالما تخيلته ص101،(جلسائها) والمفترض حسب سياقها(جلساؤها) ص103،(التمييزي بناء على الجنسية) والمقصد: التمييز ص107، (يشكل المسلمون أكثر من سكاني بلادي) والمقصد: سكان ص107، (يتوفدوا عليها) والمقصد يتوافدوا عليها ص118،(هذا الفتى المدلل – والحديث عن مشعل – الذي فقد أبيه) والصحيح: فقد أباه (التجملد) والصحيح: التجلمد ص 131، (لا تضاهها) والصحيح لا تضاهيها ص 141، (أن يفطر قلب أباه) والصحيح: يفطر قلب أبيه، (فتيء جده) والصحيح فتئ جده ص 171 وما بعدها، (البتة) والصحيح: ألبتة، (تمتليء) والصحيح: تمتلئ ص 157،(يعامل معاملة الملول) والصحيح: الملوك ص 180، (طاريء) والصحيح: طارئ(حقيقية) والمراد حقيقة ص181، حسب السياق طبعاً، (طعهما الحلو) والصحيح: طعمها الحلو ص185، (كما لو كان آتيا عالم آخر) إما المقصود كما لو كان آتياً عالماً آخر أو كما لو كان آتياً من عالم آخر ص 191، (شعره المنسدر المسترسل) والمراد المنسدل المسترسل ص191، (موظف في سفرة الكويت) والمقصود: سفارة الكويت ص191، (تكتفي بوجبة واحد) والصحيح: واحدة ص198، أضف إلى ذلك مواقع أخرى لكسر همزة إن وقد جاءت مفتوحة بخلاف الأصل. هناك أيضاً بعض الكلمات التي استخدمتها الكاتبة ولم أجد لها جذراً لغوياً مثل كلمة(استصخار) شلوخ، شتوات، مساوف: جمع مسافة غير أن الأصل مسافات كما في لسان العرب. من الناحية الفنية بشكل عام كتبت الرواية بخط جيد ولكن هناك أجود منه وأكثر راحة للعين بحيث يكون انسيابياً أكثر، كما أن توزيع النص على مساحة الورق لم يكن بالشكل المطلوب فجاءت بعض الجمل زائدة عن حجم النص، وناتئة أشبه بحواف الجُرف، وجاءت الأخرى ناقصة عنه، وليت الناسخ قد استخدم خيار الضبط أثناء الكتابة وتوسيط الجمل كي تبدو أكثر جمالا.
رغم ما ورد لا يسعني إلا أن أشكر الكاتبة الأستاذة حياة الياقوت أن سلطت الضوء على العمل التطوعي الخيري المعهود من أبناء الكويت، وأعادتنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً إلى رحلات أبي صهيب(عبد الرحمن السميط) الدعوية، ويبقى ما أسقطتُه على الرواية هي انطباعات قارئ و ليس مختصاً بالنقد على أن ذلك كله في مجمله لا ينقص من قيمة العمل الأدبي شيئاً، لأن العمل الأدبي كالجوهر المكنون لا يعرف طيب معدنه إلا بالنار. وأخيراً.. آمل أن يتسع صدر الكاتبة وقلبها لما كتبته هنا، إذ النص الأدبي يستحق الوقوف عنده مطولاً ، وإن ما ذكرته هنا من شذرات لا تفي بالغرض المطلوب والله الموفق.