قالت لي بنبرةٍ متهكّمة: لا تنضمي لهذا التخصص، فهو لا يُناسبكِ، يناسب أصحاب الحناجر النشيطة والأصوات المرتفعة، فإن انضممتي ستخسرين كثيرًا".
أجبت حينها: "بل باستطاعتي تحقيق النجاح، فأنا لم أنوي الدخول فيه إلا وأنا أريد ذلك"، رُغم ترددي حينها بدخوله بسبب عدم قدرتي على تحديد وجهتي وشغفي.
ربما كانت المسألة مُجرّد عناد كردةِ فعلٍ لقبحِ أسلوبها وظلمها الذي تعدى تلك اللحظة ليتجاوز عدد ثلاث موادٍّ للتخصص، ففي كلّ مادةٍ كنت أحقق نسبة نجاحٍ مرتفعةٍ في الاختباراتِ والأنشطة لكن أتفاجأ بنزولِ درجاتي بمقدارِ معدّلٍ واحدٍ، A- بدل الـ A، والـ B+ بدل الـ A-، لحجةِ أنّي لا أجيد المحادثات الجانبية أثناء المحاضرات، فلا أشاركهم الحديث حول ما يتطلبه التخصص مِن ملاحظة كلام الآخرين وطرق تواصلهم، والمفردة الفلانية تعني كذا باللهجةِ الفلانية، رغم أني أبادر بالحديث لحظة الحاجة لذلك، لِمَ أكرّر شيئًا معادًا؟ أو آتي بمعلومةٍ الكل يعلمها؟
الكثير مثل هذه المواقف لي -ولغيري كثير- تمرّ بنا أثناء خوضنا في الحياة الاجتماعية، فالمقياس الأساسي على صحة الشخص اجتماعيًّا يقتصر فقط على طاقته الاجتماعية، وطلاقته الكلامية، وحبه لمشاركة الآخرين في مشاعره ومواقفه وجميع ما يعلم وما لا يعلم أحيانًا.
ولا أنسىٰ معاناة أمي في كل مرةٍ تحاول إقناعي للذهاب لمناسبةٍ اجتماعية، وخلقي لأعذارٍ نسيتُها كلها، لكني الآن أمام عذرٍ وحيد مقتنعة فيه تمام الاقتناع، فأنا من الشخصيات التي تُرهقهم المناسبات الاجتماعية، أرحب بالاجتماعات المقتصرة على عدد محدد من الأشخاص، رغم تقديري التام للجميع وإعجابي الخفي في بعضهم.
عذرًا أطلتُ الحديث دونَ رغبةً مني في ذلك، لكن أعتبره كمقدمةٍ وافيةٍ لكتابٍ قضيت معه سمرة ممتعة حللتُ بها لُغز شخصيتي التي كلما قرأت عنها وقعت في حيرةٍ أعمق.
قبل أن أنهي أول فصول الكتاب لم أستطع إلا أن أردّد: أصبتَ أبا خالد، وسلمَ فكرك الذي أنتج لنا هذا الكتاب.
"هارون أخي"، والذي رأيت اسمه ذات يومٍ صدفةً على أحدِ وسوم تويتر المعنيّة بالقراءة، كتابٌ ذو ٢٦٦ صفحةً (مع صفحات المقدمة والإهداء والفهرس)، لكاتبٍ لم أقرأ له من قبل، فضلًا عن أني لا أعرف عما يتحدث هذا الكتاب، لكن ربما جذبني عنوانه (هارون أخي)، ولأن قلبي متعلقًا جدًّا بهذه الآية والتي تليها (اشُدد به أزري)، اعتقدت أن الكاتب سيتحدث عن ترابط الشخصيات وتكاملها، فجذبني الموضوع لبدء القراءة، ثمّ علمت أني أصبتُ في بعضِ اعتقادي.
هارون أخي، جاء في ستةِ فصولٍ، ويندرج تحت كلّ فصلٍ عدد من المواضيع الشيّقة مكتوبة بأسلوب بسيط مُدعم بكثيرٍ من القصص والاقتباسات المُثرية جدًّا.
يتحدث الكاتب في الكتاب عن نمطين سائدين من أنماط الشخصية، حيث أنّ شخصية كلّ إنسان تقع بين مفهومي الاجتماعية والانطوائية بتناسب، فيبين الكاتب أنه لا وجود لشخصية اجتماعية أو انطوائية بنسبة ١٠٠٪، وإنما تتباين نسبة وجود هاتين الشخصيتين في الفرد الواحد، ويقف محايدًا ليخبرنا أنه لا توجد شخصيةٍ أفضل من أخرىٰ وإنما الأفضلية في كيفية تعاملنا مع كلّ شخصية ومعرفة نقاط قوتها، ثم يذكر الكاتب منطقة الراحة وهي منطقة إعادة الشحن وما هو الروتين المقدّس لكلّ من الشخصيتين والتي يرقى بهما نحو الإبداع.
ثم وسط ذهول القارئ يذكر الكاتب عددًا من الشخصيات التي حققت نجاحًا كبيرًا في مجالها ليخبرنا أنها مجرّد شخصياتٍ انطوائية لكنهم أدركوا نقاط قوتهم وعملوا بها حتى أخرجوا لنا كمًّا من المُنجزات، فعلى سبيل المثال: لم يكن الهاتف الذكي (الآيفون) إلا من صنع يدي الانطوائي "ويزناك"، والذي قام بصنع أول جهاز أصدرته أبل دون مساعدة، أما "جوبز" فكان الوجه الإعلامي لشركة أبل، ولا أحد ينكر فضله على تلك الشركة، ثم لخص الكاتب العلاقة بين "ويزناك" و "جوبز" على أنها كعلاقة الجسد بالروح: "الاجتماعي جسد، والانطوائي روح، تعطيل أحدهما يلغي وجود الآخر". فلولا اجتماعية "جوبز" لما حصلت أبل على تلك الشعبية، ولولا انطوائية "ويزناك" وانغماسه في العمل لما حققت هذا الإتقان وتصدرت المحافل وحققت النجاحات.
ثم يتناول الكاتب شخصيات "غازي القصيبي" و "غاندي" و "مارتن" و "روزا باركز" ومدى انطوائية كل منهم واجتماعيته،
وينتصر الكاتب لأصحاب الشخصيات الانطوائية بتناوله لحقائقٍ غابت عن غالبية من أولياء الأمور وأساتذة تطوير الذات وأصحاب النظريات التي تروّج بأن الشخصية الناجحة هي من تستطيع مواجهة الجمهور!
ثم يوضح لنا علاقة البشر باختلاف شخصياتهم ببعضٍ، وشبّهها بعلاقة التيار والمقبس والسلك الكهربائي، حيث أنّ التيار هم الأشخاص الذين على استعداد لقضاء وقتٍ طويل في معزلٍ عن البشر، للخروج بفكرةٍ أو بحثٍ جديد، أما السلك فهم أصحاب العلاقات، الذين يكونون كحلقة الوصل بين الباحث (التيار) والمسوّق (المقبس)، حيث يتمتع المسوّق بأسلوبه المليء بالمنطق والجاذبية، فنستخلص هنا أنّ اختلاف الشخصيات هو المولد الحقيقي للتطور والرقيّ.
لا أنكر أنها أصابتني لحظاتٍ من الفتورِ وأحيانًا يطغى عليّ شعور الملل من التكرار، أدركت زبدة الكتاب مبكّرًا مما جعلني أتوقف بين الحينة والأخرى عن إكمال القراءة، لكن شدتني قصص النجاح ورسائل الإيميل التي تصل للكاتب لتدعمه في تحليله لكلّ شخصية.
في النهاية جاءت تسمية الكتاب من علاقة هارون بأخيه وأسباب قوله: "فأرسله معي"، "اشدد به أزري"، والذي خلاصته في أن البشر مكملين لبعضٍ.
شكرًا أستاذ عبداللطيف، فكلماتك وضعت النقاط على الحروف في تفسيري لتصرفاتي وتصرفات الأشخاص مِن حولي. ومعرفة الطرق المثلىٰ للتعاملِ معها.
ونصيحة لكلّ من يتعامل مع طفلٍ أو مراهق مِن والدين أو معلمين أو أطباء؛ اقرؤوا هذا الكتاب أو ملخصًا عنه؛ حتى لا تقعوا في خطأ الحكم على شخصٍ، أو تؤثروا سلبيًّا عليه في إكمال طريقه.
في النهاية:
"الجميع يستطيعون أن يكونوا عظماء مهما كانت شخصياتهم، بشرط أن يجيدوا التعامل معها، وذلك هو الذكاء الممتنع".