صدر هذا الكتاب عن "هيئة قصور الثقافة" للناقد "د.محمد السيد إسماعيل". يحوى مجموعة من الدراسات وقد جمعها فى كتاب. برر الكاتب ذلك بأن الدراسات كلها تتناول "الشعر" كجنس أدبي للدراسة..ثم القصيدة الحديثة على وجه الخصوص موضوعا, مع الحرص على تناول أجيال متتالية , يمثل كل شاعر مدرسة فنية. أهم ما يجمع بينهم أن تقدم الدراسات قراءة نقدية تهتم بجوانب العمل الإبداعي مع إبراز التأثيرات المتبادلة , وربما هذا هو ما يبرر عنوان الكتاب "رؤية تشكيلية".
"مناخ "بلوتولاند" وغاياته" : ديوان د.لويس عوض..
الفترة التى صدر فيها هذا الديوان , فترة اضطرابات سياسية فى مصر أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية بالقرن الماضي. وخلال نفس الفترة كان الانفتاح على العالم الثقافي بالشرق والغرب مرتفعا, وهو ما انعكس على الثقافة بمصر. فكان النقد المتبنى المذهب الواقعي, وذاك المتبنى مذهب"الفن للفن". وان كانت إرهاصات التجديد الشعري بدأت قبل تلك الفترة, ربما تأكدت معها. فقد كتب "عباس العقاد" مزهوا (أحد أقطاب مدرسة الديوان)يقول:
جددت أوزان القصيد فزاد فى الميزان وزنا
وقد كتب بما يقترب من الشعر الحر فيما بعد يقول:
"شبران من هذا البناء
بيني وبين المال والدنيا العريضة والثراء
ليس بأقصى فى الرجاء."
وجاء غيره.. حتى صدر ديوان "لويس عوض" الذي سجل فى مقدمته :"لقد كتبت تجارب هذا الديوان بالفصحى والعامية ...وربما كانت العامية أقوى من الفصحى من حيث القيمة الفنية...
وقسم من قصائد الفصحى بالشكل التقليدي, وأخرى فى إطار قصيدة النثر. وبقراءة القصائد يلاحظ شيوع نظرة التشاؤم وفقدان الثقة فى قيمة "الفكر"و"السياسة"و"الشعر".
ففي القصيدة الأولى "قصة تقدمية" تتحدث عن ثلاث فرسان "الفكر", "السياسي" و"الشاعر"..يطرح الشاعر الصورة للفرسان الثلاثة , عن المفكر يقول:
"مستوثق لا يخطىء الرماية إن أدركته الظلمة السماء
وخشى الكبوة فى مضيق تفجرت من تحته الأضواء"
وعن السياسي يقول: "راكبه كالمعقل المنيع صلب القناة مستعز الرأس
أخيل فى صلصلة الدروع يغبطه على مضاء البأس"
ثم يأتي الشاعر الذي يعد مفارقا عن الاثنين لأنه ينتمي الى مسرح الأحلام..
"هيا فقد برمت بالرمال صحت عزيمتي على التجوال
أرتاد روض الحب والخيال أحط عند بابه رحالي
وأنشد الحارس بعض قالي فان رثى فؤاده لحالي "
تتوالى القصيدة ليصبح الشاعر هو الذات الباحثة عن المعرفة ويماثل "الروح":
" لكنني نهضت من منامي يأكلنى الفضول شر أكل
وفى الدجى الكثيف يا غرامي أوقدت شمعة تنير ليلى
من لهجة "الخطابة" الى لغة "الحياة" : محمود درويش..
يمثل محمود درويش ظاهرة استثنائية فى مسيرة الشعر الفلسطيني المعاصر. تتمثل تلك الخصوصية : الوفاء لطبيعة الفن , دون التخلي عن قضية وطنه. فقد نجد السخرية , والمفارقة مع النقد والرمزية.. فيقول مثلا:
"يمثل دوري الأخير, وكان وحيدا على مسرحه
يرتب مالا يرتب من جوفه متعبة
لقد أطفئوا النور وانصرفوا واحدا واحدا خلف أرزاقهم
ومازال يلعب فى دمه وهو يحسبه رغوة العتبة
تقمص دور الشهود ودور الشهيد ولم يبلغ الانكسار ولا الغلبة
وحيدا يرمم ما انهار منا ومنه ومن آخر الخشبة
- ألابد من مسرح يا أبى؟
فقال : ولابد من شاعر فى الطريق الى قرطبة
وحيدا ..وحيدا يسير الى قرطبة
ووحدي أصدقه حين يكذب, مثلى..أما أكذبه."
تنأى القصيدة عن طبيعة الهجائية السياسية الفاضحة على نحو ما عليه القصيدة عند "مظفر النواب" و "نزار قباني" كما تنأى عن طبيعة قصيدة المواجهة السياسية كما عند "أمل دنقل"..وان اشتركت مع الجميع فى الطبيعة السياسية لها.
"سليمان الملك" وتجليات "الذات" الشاعرية: محمد سليمان
يؤسس الشاعر "محمود سليمان" رؤيته الفنية فى ديوانه "سليمان الملك" على مجموعة من "الرموز" الدلالية التى تظل دائرة حول هذا الأصل "التراثي" . مع قدر من الرموز (على قلتها فاعلة فى الديوان). عنصرا القصائد "سليمان الإنسان/الشاعر" فى مقابل "بلقيس/الملكة/الواقع/الزوجة" و"المملكة /القاهرة/ الخلق والمغايرة".
ففي الوقت الذي تتجلى فيه "بلقيس" كحلم يطارده الشاعر:
"لكن "بلقيس" ظلت على شفة الغيم,
لؤلؤة يشرئب لها القلب"
فرغم ما تبدو عليه "بلقيس" هنا من "إشراق" و"تعال", نراها تتجلى فى القصيدة نفسها رمزا للشيخوخة والعجز:
" والعفاريت تأتى ببلقيس فارغة من أريج الطفولة"
أو تظهر فى "صورة" ثالثة متحدة مع عناصر الطبيعة:
"ثم وجه لبلقيس فى البحر,
ثم يمام... وضوء تشعب فى الغيم"
وفى "صورة" أخرى تتحد مع "الذات" الشاعر وتصبح بضعة منه:
"قالت له الريح بلقيس فى القلب,
أطلقتها وهى لحمك"
وهكذا......
ويتابع الناقد مع حركة الشعر المعاصر جيلها الرابع , جيل "الثمانينيات " ..منهم "مشهور فواز, مهدى مصطفى, إبراهيم داود, هشام قشطه, إيمان مرسال, عزة بدر..وغيرهم.
وظروف هذا الجيل مختلفة, بينما جيل الستينيات غلبته الروح السياسية وجيل السبعينيات الخاوي والذي رفعت أمامه مقولة "أدونيس" :"لا غاية للإبداع إلا الإبداع"..فكان الغموض.فكان جيل الثمانينيات ..على اتصال وليس رفض مطلق مع السابقين, كما قل الغموض, مع المزج بين قصيدة النثر والتفعيلة فى الديوان الواحد.