أن نجد الكثير من المستشرقين يغرسون سكاكين أقلامهم في لحم تراثنا ليس بالمستغرب لأننا نعرف أهدافهم و قصور نظراتهم ومدى تعمقهم في تراثنا الذي يضطرهم إلى الابتعاد عن الخوض في أعماقه مكتفين بالتشويش والتشكيك لخدمة أهداف سياسية وتهيئة الأجواء لقبول تغيرات محتملة ،لكن الغريب أن نجد من بنى جلدتنا وحملة أقلامنا والناطقين بلغتنا من يتولى مهام المستشرقين ويتفوق عليهم ، من هنا تكون الكارثة التي يجد معها المرء نفسه مجبرا على الوقوف أمام الذين يتخذون من دعوة الحرية منطلقا لتخريب ذائقة النشء تحت شعارات البحث العلمي المجرد ليصولوا مع أهوائهم بلا موضوعية أو تدقيق علمي. د. هشام جعيّط في (الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر) يسير على خطى المستشرقين في تحليله للفتنة ونحن هنا نقف مع مغالطات الفصلين الأول والثاني حتى لا يطول المقام ونحصر تجاوزاته في المحاور التالية:
[IMG]http://www.nashiri.net/aimages/alfitnah.gif[/IMG]
الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر - د. هشام جعيّط.
• التشفي والشماتة الظاهرة عند حديثه عن غزوة أحد وهزيمة المسلمين.
• الانتصار لليهود والدفاع عنهم وتصيرهم مظلومين أمام الزحف الإسلامي.
• تصوير الجهاد والفتوحات الإسلامية بعيدا عن أهدافها وحصرها في اخذ الضرائب.
• التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كسياسي محنك هدفه الدنيا والسيطرة وحب الاستيلاء.
• تسمية الأمور بغير مسمياتها : الصدقة : ضريبة / بيت ما ل المسلمين : خزينة النبي / الحروب ضد اليهود :مجازر / النبوة / : الملكية / الدعوة : تبشير.
• التناقص والدس والوقيعة في مجمل طروحاته.
يقول الكاتب (ص 20 ) أن النبي قد أسس بدينه الجديد ! مع اتباعه المتحمسين الذين لا يتجاوزون المئة " نوعا من الكنيسة تشبه الكنيسة اليهودية القديمة في القدس لكنه... منى بالفشل الذريع "، وما يلاحظ هنا محاولة النيل من الرسول واتباعه بالتشفي بقلة عددهم ثم خلطه التاريخي بعدم التفريق بين الكنيس اليهودي والكنيسة النصرانية ،ودقق كيف يحاول تسميم الأفكار والأذواق بادعائه وطعوناته للقران والمسلمين في قوله( فالرسالة القرآنية كانت فوق مستوى طموحاتهم وفهمهم، ما كان يمكنها أن تحركهم) (ص21).
المغالطة هنا أن القرآن ورسالته كانا واضحين لكل المستويات ولعل من معجزة القرآن، مراعاته لهذا الجانب ونزوله بلغة المسلمين وها هو بعد أربعة عشر قرنا، يتلى، فيحفظه ويفهمه الصغير والكبير والمتعلم والأمي، أما غمزه من قدرة المسلمين على فهم القرآن، وكأنهم ليسوا أهلا لحمل هذه الرسالة، وكأن الدكتور لم يسمع بآية( كنتم خير أمة أخرجت للناس) حتى يناقض نفسه ص24 فيغمز من جانب القرآن قائلا (..... فقد جعل النبي نفسه وعاء سلبيا، يتقبل الكلام المنزل على قلبه......قد تجلى في الكلمة، وتجسد في الكلام المتعالي..... الذي اخترق القرون وظل موضوع تفسيرات وشروحات. وانطلاقا من آيات القرآن جرى تنميق وتزيين كثير من الآثار بزخارف رائعة، وأخيرا في النزع الأخير، يجري استذكاره الترديد المتلعثم لبعض من آياته أو لمقاطع طويلة.... إنه واحد من الجدران التي كونت الانوات الداخلية للبشر هيئة حضارة كاملة وهو يستحق حقا هذه المكانة الكبيرة....فجميع أولئك الذين كانوا يعتنقون الإسلام، كانوا يقدمون على ذلك بعد استماع للنص المقدس.....فعندئذ يعترفون بوحدانية الله، وبأن القرآن هو كلام الله، وكانوا جميعا يقدّمون إيمانا ساذجا متينا، حارا وسخيا) ، و بالطبع ،: لم يشرح الدكتور هذه المتناقضات وظن أن هذا الهذر، يضفي على سطوره مسحة علمية، ها هو يستمرئ مغالطاته (ص26). إن الدولة الإسلامية منظور إليها من مستوى الجزيرة العربية كلها....إنما بنيت على الحرب ) وتفسيره القاصر حسب ادعاءه اعتبار( عمر) أن الاشتراك في معركة بدر بمثابة شرط أساسي لتوزيع العطاء.(ص 27)
هكذا إذا ،فالرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن لديه هدف ولا رسالة ولا تكليف من الله، وأنشأ دولة الإسلام بعاملين فقط: القوة والحرب وبسرعة قياسية!!!! ولأن الموضوع المادي يشغل حيزا في ذهن الدكتور غير النصف، فانه يعود من جديد ليلاحظ عن ضلالةٍ (أن الغنائم في بدر صارت عنصرا حاسما لاجتذاب الرجال)ص27 والرسول في عرف أصحاب الجدل، مجرد مصارع، إذ أن معركة بدر( سمحت للرسول أن يوجه العمل الحربي بكيفية مضمونة، فقد أظهرته أمام العرب في صورة البطل المصارع) (ص 27)
والدكتور لم ينس اليهود،فيظهر عطفه عليهم وتعاطفه معهم أولئك المساكين المظلومين !! يقول( وأخيرا ستسمح معركة بدر بان يوضح حساسيته تجاه اليهود بتفرد الإسلام كدين وجعل اليهود هدفا للقمع والطرد ،ففي كل أزمة حربية سيّدفع اليهود الثمن الباهظ لكي يزوّد بالغنائم أو الأنفال أولئك الذين يتبعون النبي أو السلطة الجديدة ،ومن هنا كان طرد بني قينقاع وبني النضير و( مجزرة) بني قريظة وأخيرا الاستيلاء على خيبر) (ص 27). أما معركة أحد حسب تحليل د. جعّيط فلم تكن إلا بهدف واحد ( توسيع نفوذ النبي ) والمرحلة الانتقالية بين بدر والخندق تميزت باتجاه توسعي.... ومصادرة الأملاك والأموال اليهودية لبني النضير ص28.وتظل الموضوعة المادية تحتل مكانة واسعة تناسب أفكار رأس المال، انظر للدكتور وبعيدا عن اي استلهام لروح العقيدة ُيفسر البُعد الاقتصادي في دعوة الرسول فماذا يقول؟ ((تشكل واقعة الخندق ( وليس معركة!) منعطفاً حاسماً في السير نحو تأسيس الدولة...عن طريق الإثبات الحربي... وكان الجانب الاقتصادي يتراءى بقوة في الاستيلاء على أملاك بني قريظة وأموالهم..وان الخمس الناتج عن استيلاء كهذا سوف يغني النبي !! إلى أن تصبح دولة أنفال وغنائم متقيدة بشرائع الحرب وقوانينها ولكن مع حزم وانتظام لم يستعملا في الحروب بين القبائل وبشكل خاص فان حادثة المجزرة!!الباردة لبني قريظة ستدشن عنف دولة حقيقية وحرب حقيقيةص28 يبدو وكيل الاستشراق هنا غافلا عن الحد الأدنى من الاطلاع على تراث الأمة التي يحمل اسمه منها،فهذه اللهجة وهذا الخلط لم نقرأه حتى لأشد المستشرقين تعنتاً ممن طعنوا سيرة المصطفي عليه السلام والمؤلف يرى الدولة الإسلامية أنيطت بالإكراه ه المالي من خلال مؤسسة الصدقة (ص28،29).
أما شخص الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القران فهو في خيال الكاتب صاحب هيبة ملكية،تيقن الاستيلاء على خيبر ليحتفظ لنفسه بالخُمس ويوزع الباقي على صحابته وبعض أعراب القبائل ليؤلف الرسول سلطة! تلتزم بجدلية تطرح اعدادا وتجردهم من ممتلكاتهم وتغذي ولاءاتهم لكي تجذب البدو المحيطين به مثل( بني اسلم) ويتضخم جيشه بعناصر يدوية (ص30). هذا الرسول وحسب موضوعية د. جعّيط همه الغنائم لتوزيعها وفق حسابات سياسية ترمي الى تعزيز الولاء للجيش الجديد لأن أواصر الدم ستفوق الولاء الديني المحض (ص31) وليته يكتفي بذلك بل يلح على التجارة والسمسرة والربح فيصور النبي في آخر أيامه (ص32) (تصوّر الفتح الخارجي كبديل عن التجارة..فقد كانت الطريقة الوحيدة لجمع القبائل في اتحاد تكمن في تقديم هدف مألوف لديها هدف البحث عن الغنائم... مرور بالاستيلاءات المتتابعة على الواحات اليهودية وإخضاع المسيرة الحربية المتواصلة للتعالي الإلهي) ولا ندري كيف تقود هذه الاستنتاجات الواهية إلى تقرير الدكتور (ص33) ( ترك النبي عند وفاته دينا مكتملاً ودولة مهيمنة على الجزيرة العربية كلها مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك) هل الركض خلف الغنائم يبني دولة ويؤسس دينا ً ايها الدكتور؟ كيف ذلك وأنت تعتبر عمل الرسول صلى الله عليه وسلم(مغامرة نبوية) الدكتور نسي ما يقوله بسرعة،عرفنا قبل قليل ان الرسول قبل وفاته ترك دينا مكتملاً ودولة مهيمنة ثم يغالط نفسه بعد عدة اسطر بقوله ص34 (( بالكاد توصل النبي إلى إقامة البـُُنى العملية للإسلام والدولة التي ظلت سطحية !! أما المضحك فتفسير للردة عندما يؤكد (( أن الأنصار كانوا يرغبون في التصرف كأسياد وان يستردوا سيادتهم التي تنازلوا عنها للرسول في حياته....والتي ارتضوها على مضض!!) (ص35) ولهذا أعلنوا ردتهم. أما سبب التقارب بين ( عمر ) و(أبي بكر) فهو انتماؤهما إلى عشائر قرشية صغيرة.. التقاء مصالح يعني....
للجهاد في دماغ الدكتور تعريف أطرف، خاصة عندما يفتش في ذاكرته، فلا يجد شيئا من سيرة الرسول وتاريخ الصحابة، وهو لذلك، لم يتذكر وصية أبي بكر، عندما خاطب جنوده المتوجهين لنشر الدعوة وإيصال كلمة الحق، مذكرا إياهم بعدم قطع مجرد شجرة، ينسى الدكتور ذلك و، ويفتري على دين الله، معتبرا أن هدف الجهاد: بناء إمبراطورة عربية عن طريق العنف الغازي الذي راح يجعل من العرب شعبا إمبراطوريا كبيرا(ص42)
هذه التخرصات، شوهت صورة المجاهد في ذهن صاحب التحليلات البعيدة عن المنطق والتاريخ، إذ يرى الجندي هلاميا(.. فعلى مستوى المحارب العادي، كانت هناك أيدلوجيا غامضة للجهاد بوصفه التعبير عن إرادة الله مع ثوابه في الحياة الأخرى، ولكنه لم يكن يملك توجها إرساليا لأجل العقيدة والأيمان...فقد كان الفرد العادي يحارب لكي تكون يد الله هي العليا...ولم يكن يحارب بالضرورة لكي يجر الآخرين إلى عقيدته) (ص43) ونسي الدكتور هنا : أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فان قالوها عصموا مني دماءهم...ونسي الدكتور كعادته شعار المجاهد الدائم:لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك من حمر النعم.
ونتابع التشفي والحقد في قوله... في نهاية العام 23 هجرية خرَ عمر صريعا بطعنات اغتيال عادي (ص55) ، ولأن الدكتور حائر نراه يتخبط: ففي الوقت الذي ينظر لدولة الإسلام، إمبراطورية ذات هيمنة لا يلعب فيها السكان الأصليون أي دور، وهم مجرد مغلبين على أمرهم ، وان أصحاب البلاد المفتوحة التي وصلتها كلمة الله ، مجرد /مغلوبون/ ونسي أن هؤلاء المغلوبين قد استقبلوا الجيش المسلم بالفرح، وساهموا في تسهيل مهماته، خلاصا من الظلم الواقع بهم- هذه الإمبراطورية التي يزعم الكاتب أنها قامت على الظلم والتفرقة والضرائب ، تصبح بعد أسطر، صفحة للإسلام البطولي النقي،ليقع الكاتب من جديد في تناقضاته قائلا:-إن عمر أرسى بشكل نهائي، مؤسسة الخلافة التي تعود ولادتها إلى حادث مصادفة وشجاعة!
أما طعوناته في عثمان فكثيرة ، نورد منها: أن عثمان وهو على رأس أمر المسلمين خليفة أقترض من بيت مال المسلمين مبالغ ضخمة ولم يرجعها ص61. وكوّن لنفسه قطعانا وأملاكا في المدينة، واستدان مرة من بيت ا لمال مبلغ(500000 ) درهم، وتأخر أو امتنع عن تسديدها؟؟ص 63: هل نسي الكاتب أن ( عثمان)أحد أغنياء المسلمين، وأنه جهّز جيش العسرة؟؟وماذا أيضا؟؟يقول الدكتور أن عثمان أحرق كل المصاحف عدا مصحفه الذي فرضه ص 67، ليس بغريب هذا الإدعاء على من لا يعرف الحكمة وراء ذلك مما يعلمه طلاب الإعدادية - وهذا حتى يخرج علينا الدكتور بتعميم متهافت مفاده: أن مقتل عثمان كان انتصارا للإسلام ، لكنه يتراجع كعادته ص 68معترفا أن عثمان كان رجلا إسلاميا وصحابيا من أهل السابقة، أما(عمر) ، فقد ظهر كمدافع عن الإسلام، أكثر تشددا من النبي وأبي بكر (ص )69
السؤال، لماذا هذه التخرصات؟ ألكي يثبت أن عصر عمر كان عصر الإسلام الذهبي ؟ لماذا لأن الإسلام ترسخ فيه كمعتقد ونظام اجتماعي ومنظومة قيم أما دور الإسلام كعقيدة ودور الرسول كملتق للوحي ومفسر للكتاب الله ومطبق لأحكامه على نفسه أسرته والمسلمين جميعا فليس للدكتور حظ فيه.
لا تستغربوا ! الا تقتضى الحيادية أن يتعامل المرء مع النصوص بعلمية وتجرد! العلمية التي تجعله يدير ظهره لتاريخ كامل ولكومة من المصادر الموثوقة مكتفيا بالتشويش واللمز محاولا أن يخدش بخربشاته مرآه تاريخنا المضيء برجاله ومواقفهم والتزامهم.
-الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، تأليف د. هشام جعيّط.
- الناشر: دار الطليعة، بيروت د. ت 335 صفحة.