من أهم ثمار دورة ابن زيدون التي عقدتها مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بالتعاون مع جامعة قرطبة بإسبانيا خلال الفترة من 4 ـ 8 أكتوبر / تشرين الأول من عام 2004، توزيع بعض المطبوعات الدسمة، التي كان من بينها ديوان ابن زيدون ورسائله (784 صفحة) شرح وتحقيق علي عبد العظيم (مدير إدارة المخطوطات بدار الكتب المصرية سابقا) تقديم ومراجعة د. محمد إحسان النص.
في تصديره للكتاب يتحدث الشاعر عبد العزيز سعود البابطين عن الصعوبات التي لاقتها المؤسسة في سبيل الوصول إلى أثر أو عنوان علي عبد العظيم شارح ومحقق الديوان، الذي توفي منذ فترة طويلة، إلى أن تم العثور على أرملته، وهي القريبة الوحيدة له الباقية على قيد الحياة، فتم أخذ إذنها بإعادة طباعة عمل زوجها الراحل، وبذلك تكشف المؤسسة عن تعاملها الحضاري مع حقوق أصحاب الكتب أو ورثتهم.
[IMG]http://www.nashiri.net/aimages/ibn_zaydoon.jpg[/IMG]
بعد ذلك يكتب د. إحسان النص مقدمته الضافية تحت عنوان "آفاق الإبداع في شعر ابن زيدون" ووقعت في عشرين صفحة، وفيها يتعرض النص إلى الشعر الأندلسي بعامة، وإلى ثقافة الشاعر، والطبيعة الأندلسية، والمجتمع الأندلسي، ونشأة الشاعر وطبيعته ومزاجه، وتجاربه، والأحداث التي مرَّ بها، ثم يتعرض للإبداع في المعاني عند ابن زيدون، وإلى الأداء الشعري الذي هو مجاله الإبداعي المتألق، فلابن زيدون ذائقة مرهفة في اختيار الألفاظ المناسبة للموضوع الذي يعالجه.
بعد ذلك يبدأ كتاب علي عبد العظيم (المُحرَّر في مايو / آيار سنة 1955) بمقدمة عن الأندلس تلك الأيكة وارفة الظلال، دانية القطاف، يانعة الثمار، التي غردت عنادلها فترة من الزمان فملأت القلوب والأسماع وبهرت النفوس والألباب، ولكن صداها تبدد في غياهب الزمان وغمار الأحداث، ولم يبق من هذه الألحان إلا أنغام شاردة مهومة خلدها الزمن في طياته، وسجلها الخلود على صفحاته، فتهادت إلينا خلال القرون تثير كوامن الوجدان، وتحرك سواكن الأشجان.
وقد عبر الشعر عن ذلك كله، وظهر بالأندلس شعراء أفذاذ أبدعوا في الشعر آيات خالدات، باروا فيها شعراء المشرق، فقاربوهم أحيانا، وكادوا يبزونهم في بعض الأحايين.
ومن هؤلاء الأفذاذ ابن زيدون، الذي تعرض شارح الديوان ومحققه، إلى العصر الذي عاش فيه (القرن الخامس للهجرة) وتوقف عند ملوك الطوائف، وعند بني جهور بقرطبة، وبني عباد بإشبيليه، كما توقف عند ملامح الحضارة العربية بالأندلس، وعند أهم المدن: قرطبة وإشبيليه، والحياة العقلية والفكرية والمكتبات والحياة الأدبية في ذلك الزمن، والتي ازدهرت في عصر الطوائف خير ازدهار.
أما عن حياة ابن زيدون (394 ـ 463 هـ / 1003 ـ 1070م) فهو ينتمي من جهة أبيه إلى بني مخزوم، من بطون قريش، فهو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي. أما والده فكان من فقهاء قرطبة وأعلامها المعدودين، وكان ضليعا في علوم اللغة بصيرا بفنون الآداب.
وكان ميلاد الشاعر بالرصافة من أرباض قرطبة التي أنشأها عبد الرحمن الداخل وسماها الرصافة تشبيها برصافة جده الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان، واتخذها مقرا له ومتنزها في معظم أوقاته.
كما تحدث علي عبد العظيم عن نشأة الشاعر وثقافته وأساتذته، وصداقاته المبكرة، وأحواله في غمار الأحداث، فهو رجل ثورات، ومحب كبير، وعلى ذلك يتوقف عبد العظيم عند حبه العاصف بولادة بنت المستكفي، بل يتوقف عند ولادة نفسها التي تعد زهرة من زهرات البيت الأموي الكريم، فهي ابنة الخليفة محمد بن عبد الرحمن الملقب بالمستكفي، ولكنها تمردت على التقاليد بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس، وفتحت أبهاء قصرها للعظماء والأدباء، وبهذا فتحت صالونا أدبيا سبقت به شهيرات فرنسا بعدة قرون، تنافس فيه الشعراء والأدباء للتودد إليها، وكان من أبرز المتوددين أبو عبد الله بن القلاس، وأبو عامر بن عبدوس، وابن زيدون. كانت شاعرة أديبة ومحدثة بارعة، وماهرة في الموسيقى والغناء، وتتمتع بجمال فتَّان. ولكنها آثرت أن تظل عانسا حتى توفيت سنة 484 هـ وقد قاربت المائة.
كما أنها كتبت الشعر الماجن الخليع، ورصد علي عبد العظيم حالة المد والجزر في علاقاتها بالمتوددين إليها، وخاصة ابن زيدون.
تقول ولادة على سبيل المثال:
إني ـ وإن نظرَ الأنامُ لبهجتي ـ
كظباءَ مكَّةَ صيدهُنَّ حرامُ
يُحسَبْنَ من لينِ الكلامِ فواحشا
ويصدهُنَّ عن الخَنَا الإسلامُ
ومن حالة المد والجزر إلى العواصف والأنواء التي تعرض لها ابن زيدون، فألقت به في غيابة السجن، إلى أن تمكن من الفرار إلى إشبيليه بعد أن أخفقت وسائله وتوسلاته في استعطاف أميره. وفي إشبيليه يكتب نونيته الخالدة التي استهلها بقوله:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
ونابَ عن طيب لقيانا تجافينا
وختمها بقوله:
أوْلي وفاءً، وإن لم تبذلي صلةً
فالطيفُ يقنعنا، والذكرُ يكفينا
وفي الجوابِ متاعٌ إن شفعتِ به
بيضَ الأيادي التي ما زلتِ تولينا
عليكِ منا سلام الله ما بقيتْ
صبابةٌ بك نُخفيها فتُخفينا
وقد رصد عبد العظيم بعض الصفات الشخصية لابن زيدون، مثل ظرفه ورقة حديثه وسرعة بديهته، وولعه باللذات، فضلا عن عزة نفسه وشجاعته وإبائه.
كما رصد صفاته الجسمية، وتحدث عن فلسفته في الحياة، ونظرته إلى المجتمع.
أما عن آثاره الأدبية، فقد توقف عبد العظيم عند فنون ابن زيدون الشعرية وقسمها إلى: فن الغزل، وشعر الطبيعة والحب، وفن الإخوانيات، ومنها: المطارحات، ومجالس الأنس، والمناجاة. كما توقف عند فنونه النثرية والتي منها: الرسالة الهزلية، والرسالة الجدية، ورسالة الاستعطاف، والنثر الوصفي، والنثر النقدي، والنثر التاريخي.
وعن أسلوبه الفني يتحدث عبد العظيم عن الفكرة عند ابن زيدون التي تنهض على المشاكلة والمقابلة والاقتران والعاطفة والخيال والموسيقى والصورة.
لم ينل مكانه الجدير به
أما منزلته الأدبية فعلى الرغم من شهرة ابن زيدون وافتتان الناس به، فإن علي عبد العظيم يرى أنه لم ينل مكانه الجدير به، على الرغم مما قاله الباحثون الغربيون عنه، وإشادتهم بعبقريته، فوضعوه بذلك في مكانه الرفيع الذي يستحقه، فضلا عن شرَّاح رسائله الجدية والهزلية، ووحيه للقصَّاص والروائيين المعاصرين، فكتبوا مسرحيات وروايات، منها على سبيل المثال: مسرحية الوزير ابن زيدون مع ولادة لإبراهيم الأحدب الطرابلسي، وغرام الشعراء فصل مسرحي شعري لأحمد رامي، ومسرحية ولادة لعلي عبد العظيم، ورواية هاتف من الأندلس لعلي الجارم، ومسرحية غراميات ولادة لحسين سراج باشا (ومسرحية الوزير العاشق لفاروق جويدة)، وغيرها من الأعمال الأدبية التي استلهمت شخصية ابن زيدون وغرامياته مع ولادة، ومواقفه السياسية.
وقد قسم علي عبد العظيم ديوان ابن زيدون بعد تحقيقه إلى موضوعات عدة، منها نشوة القرب حيث عرف شاعرنا فنون الحب، وآثارها في القلب، فأحس نشوة اللقاء، كما ذاق مرارة الجفاء، وسعد بالوصال، وشقي بالدلال، وتفتحت نفسه للطبيعة وروعتها، كما انتشت بالصداقة وعذوبتها، وتراوحت حياته بين الإقبال والإدبار، والسمو والانحدار، والتجني والملال، وقرب الديار، وشحط المزار، وحنين الذكريات، وبريق الأمنيات، فرتَّل هذا كله أنغاما خالدات، فكانت من قصائده في هذا اللون: بلوغ المرام، وليلة وصال، وباقة أزهار، وذكريات حاليات، وهدية محبوبة، ونور ونار، والظالم والمظلوم، وموكب الجمال.
أما الطبيعة فقد فتنت شاعرنا كما فتنته حبيبته، فكتب ليالي قرطبة، ومواكب الذكريات، ومجالي الزهراء، وغيرها.
وبين اليأس والأمل يكتب: خطرات الظنون، والنائي القريب، والعهد المصون، وإرضاء الحبيب، وخداع الأماني، ومرارة الوداع، والقلب الرحيب، وعلَّة العطشان، وغيرها.
وعن لوعة الهجران ومرارته، والكيد والعناد يكتب: فنون المعاذير، والدلال القاتل، والحكم الجائر، وسوء العذاب، وغدر الحبيب، والحبيب الظالم، ولوعة الجفاء، وشماتة الأعداء، والادعاء الكاذب، ودعوة المظلوم، ووحشة الزمان التي يقول في مطلعها:
أيوحِشُني الزمانُ وأنتِ أُنْسِي؟
ويُظلمُ لي النهارُ وأنتِ شمسي؟
وفي باب الإخوانيات يكتب المطارحات الشعرية حيث يداعب أصدقاءه ويداعبونه شعريا، ويكتب في الإهداء والاستهداء حيث يرسل أبياتا من الشعر مع الهدايا إلى خلانه، ويتقبل هداياهم ويبادلهم التحية بالتحية، كما يكتب في مجالس الشراب، ولذة المناجاة.
أما في باب الوصف فيكتب عن الطبيعة الممتزجة بذكريات هواه.
كما يكتب في باب الشكوى والعتاب، وخاصة في عهد أبي الحزم بن جهور، قصائد في الضراعة والتوسل، وفي غيابة السجن ومرارة الاعتقال وطبائع النفوس.
يقول في مرارة الاعتقال:
ألمْ يأنِ أنْ يبكي الغمامُ على مِثلي؟
ويطلبُ ثأري البرقُ مُنْصلتَ النَّصْلِ
وهلا أقامتْ أنجمُ الليلِ مأتما
لتنْدُبَ في الآفاقِ ما ضاعَ من تَتْلي
(التتل: ضرب من الطيب)
كما يكتب في فنون المدائح والرثاء والهجاء والمطيّرات.
ويكتب في التعريف بالطيور أبياتا عن البازي والباشق والحبارى والدرَّاج والرأل والرهو والزرزور والسمام والسماني والشاهين والشرشور والشفنين والشقراق والصرد والظليم والعقاب والعقعق والعنقاء والهديل وغيرها.
يقول عن العنقاء على سبيل المثال:
الجودُ والغولُ والعنقاءُ ثالثةٌ
أسماءُ أشياءَ لم توجدْ ولم تكُنِ
أما في باب النثر فيكتب رسائله الهزلية والجدية والبكرية والمظفرية والعامرية والعبادية وغيرها.
وينتهي ديوان ابن زيدون بفهرس القوافي والبحور، فضلا عن فهرس آخر لقوافي الأشعار الواردة في الديوان لغير ابن زيدون.
درة مطبوعات دورة ابن زيدون
ولعل هذا الديوان على هذه الشاكلة، يعد درّة مطبوعات دورة ابن زيدون، ويعد أيضا أكبر تكريم للشاعر العربي الأندلسي، فعلى الرغم من روعة الاحتفالية القرطبية التي نظمتها المؤسسة، فإن إعادة طباعة الديوان على هذا النحو، وتوزيعه على المهتمين يعد الأثر الأقوى بعد انقضاء أيام الدورة.