وعلى الرغم من شهرة ابن زيدون في تاريخ الأدب العربي، إلا أن الدارس يكتشف أن إبداعه الشعري لم يُدرس دراسة فنية تُلقي الضوء على عبقريته الشعرية، وتستقصي ـ بدقة ـ استخدامه للغة، وتحلل أبنيته الإيقاعية، وتبحث في تفاصيل التصوير الفني وملامحه، وتحدد أنماط البنية التي استخدمها، ودلالة كل ذلك.
وقد اكتفى معظم الباحثين أو المهتمين بابن زيدون ـ قبل فوزي خضر ـ بثلاثة جوانب لديه، هي: عشقه ولادة بنت المستكفي، ومكانته الأدبية باعتباره شاعرا مبدعا بليغا، ثم دوره السياسي الذي تقلب فيه بين الوزارة والسجن والهروب.
ومن هنا تأتي أهمية أطروحة خضر الذي غاص في شعر ابن زيدون، وقام بتحليله ودراسته دراسة فنية، بعد أن رجع إلى أربع طبعات لدواوين ابن زيدون، وجد أن أفضلها الطبعة التي قدمها علي عبد العظيم تحقيقا وشرحا، وبالتالي اعتمد نصوصها اعتمادا كليا.
ومن الطبيعي أن يبدأ الباحث بالحديث عن عصر ابن زيدون والحالة السياسية والحالة الاجتماعية والحياة الفكرية في هذا العصر، وما صاحبها من علوم وآداب. ثم قام بالتعريف بابن زيدون، ومنزلته، وأغراض شعره التي انقسمت إلى: الغزل الذي تفرع إلى: الشكوى والعتاب والحنين والشوق والهجر والفراق والاعتذار والوصال والبكاء، ثم المديح، فالإخوانيات، والرثاء، والحبسيات، والوصف، والخمريات، والحنين إلى الوطن، وأخيرا المطيرات، وهو فن ابتدعه ابن زيدون، يقوم على نوع من النظم في الألغاز والأحاجي التي تدور حول أنواع الطيور.
أما عن بينة القصيدة وأشكالها، فقد لاحظ الباحث أن ديوان ابن زيدون اشتمل على مائة وثمانية وستين نصا شعريا تختلف في بنائها، فمنها القصائد التي تتنوع بين الطول والقصر، ومنها المقطعات الشعرية، ومنها المخمسات والمربعات والأرجوزة.
وقد اعتمد ابن زيدون في بناء شعره على النمط التقليدي، وأحيانا كان يتوسل إلى الموضوع بأغراض أخرى.
التشكيل اللغوي والبناء الأسلوبي
ثم يتوقف الباحث عند التشكيل اللغوي في شعر ابن زيدون، راصدا الجملة الفعلية للتعبير عن فعل في زمن، والجملة الفعلية المؤكدة لاستبعاد شبهة الظن في سهو الشاعر، ولتعميق المؤكد وما ارتبط به في نفس السامع. والجملة الفعلية المنفية للنقض والإنكار وإبعاد المثبت عن ذهن المخاطب. والجملة الفعلية الاستفهامية.
كما لاحظ الباحث أن ابن زيدون يؤثر التراكيب الشعرية البسيطة، حيث تُعد البساطة في التعبير من الخصائص الأسلوبية اللافتة في شعره.
أيضا توقف الباحث عند المستوى الصرفي، حيث تتعدد الوظائف الصرفية باختلاف الميزان الصرفي في الأفعال المجردة والمزيدة، وفي المصادر وفي المشتقات.
وعلى ذلك رصد الباحث كيفية استعمال ابن زيدون لاسم الفاعل، وصيغ المبالغة منه، والصفة المشبهة، واسم المفعول، واسم التفضيل، واسم الزمان، والمستوى الدلالي حيث تعد الدلالة من أهم الوظائف التي تقوم بها الكلمات، بل إنها تكون الهدف الرئيسي ـ في معظم الأحيان ـ لأي نشاط لغوي.
أيضا يرصد الباحث ظواهر التقديم والتأخير والمشترك اللفظي والتكرار والترادف والتناص في شعر ابن زيدون.
وعن التناص نلاحظ وجود التناص القرآني في مثل قوله:
بأبي أنت !! إن تشأ تكُ بردا
وسلاما كنار إبراهيم
وهناك التناص الشعري، والتناص من خلال الأمثال والحكم، والتناص التراثي، وتناص العلوم في مثل قوله:
سعدت كما سعد المشترى
ونلت عُلاً لم ينلها زحل
أما عن البناء الأسلوبي في شعر ابن زيدون، فقد توقف الباحث عند الأسلوب الخبري، وهو أسلوب الكلام الذي يسوق خبرا، والأسلوب الإنشائي، مثل النداء، والاستفهام، والشرط، والقسم، والرجاء والتمني، والأمر أو الطلب، والنهي، والحذف، والتكوين البديعي، ومنه المقابلة والتضاد، مثل بيتيه المشهورين:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وطاب عن طيب لقيانا تجافينا
إن الزمان الذي مازال يضحكنا
أُنْسًا بقربهمُ قد عاد يبكينا
أيضا هناك الأضداد، والمتواليات، مثل توالي الأفعال، وتوالي المتشابهات، وحسن التقسيم، والتوريه. وكلها خصائص أسلوبية تدل على تدفق موهبته، وتمكنه من أساليب اللغة على اختلاف أنماطها وتنوع أبنيتها اللغوية، وقد ساعدت هذه الخصائص الأسلوبية على تحقيق قدر كبير من التميز في شعر ابن زيدون.
البناء التصويري والبناء الموسيقي
أما البناء التصويري، فقد كان عنوان الفصل الثالث من الأطروحة العلمية، وفيه توقف الباحث عند ينابيع الصورة عند ابن زيدون، مثل الطبيعة، والزمن، والمكان ومنه المكان المجازي.
كما قسم الباحث أنماط الصورة عنده إلى الصورة الحركية، والصورة البصرية، والصورة اللونية، والصورة السمعية، والصورة التذوقية، والصورة الشمية، والصورة اللمسية، والصورة الخطية. وفي بعض الأحيان كان يقوم الشاعر بمزج أنماط الصورة.
أيضا توقف الباحث عند البناء التصويري في قافية ابن زيدون، وعرض لنموذج تحليلي من خلال القصيدة التي يقول في مطلعها:
إني ذكرتُكِ بالزهراء مشتاقا
والأفقُ طلقٌ ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلالٌ في أصائله
كأنه رقَّ لي، فاعتلَّ إشفاقا
البناء الموسيقي كان عنوان الفصل الرابع، وفيه توقف الباحث عن الإطار الموسيقي الخارجي، أي الأوزان والقوافي، وما تحدثه من إيقاعات متوالية، وتحقق نوعا من الموسيقى التي تسهم في سهولة تلقي الشعر والانفعال به.
وقد لاحظ الباحث أن ابن زيدون استخدم أحد عشر بحرا، كان أكثرها من الطويل (34 قصيدة) ثم ـ على وجه الترتيب ـ الكامل والبسيط والخفيف والرمل والوافر والمتقارب والسريع والمجتث والمنسرح، والرجز (قصيدة واحدة).
أما الموسيقى الداخلية في قصائد ابن زيدون، فقد تحققت نتيجة التوازي في الصياغة، وحسن التقسيم، وتوليد التفعيلات، والجناس، والتكرار.
***
هكذا يضيء لنا فوزي خضر عالم ابن زيدون الشعري، من خلال التوقف عند التفاصيل الفنية الدقيقة التي أكدت في النهاية سر عبقرية هذا الشاعر، وسر خلود أشعاره، وصمودها أمام التيارات الشعرية المتنوعة سواء في الأندلس والمغرب العربي، أو المشرق العربي خلال الألف سنة الماضية، فتناقلها الناس عبر العصور وأحبوها، واستشعروا صدق الشاعر، وأحسوا أنه يعبر عن تجاربهم الشخصية، فعاشت قصائده على مر القرون، وظلت طازجة مؤثرة في القلوب تنتشي النفوس بالاستماع إليها وقراءتها.