"مسافر في القفار" الديوان الشعري الثاني للشاعر العربي الكويتي عبد العزيز سعود البابطين، أحد القابضين على جمرة الشعر العمودي، والمنافحين عنه في وطننا العربي.
وهو ديوان معظم قصائده يدخل في باب الغزل العذري، أو الغزل العفيف، وبذا يعد البابطين امتدادا للشعراء العرب: قيس بن الملوح، وجميل بثينة، وكثير عزة، وغيرهم. وقد تردَّد ذكر هؤلاء الشعراء وغيرهم، في قصائد البابطين غير مرة.
وإذا تأملنا عنوان الديوان "مسافر في القفار" فسنرى أنه يجمع بين جماليات الزمان، وجماليات المكان، فالسفر يكون في الزمان والمكان معًا، ولم يحدد الشاعر وقتا معينا لهذا السفر، بينما حدد المكان وهو القفار، أي الصحراء والفيافي والبوادي، زادُه ـ في هذا السفر الزَّمَكاني ـ الحب والأمل في لقاء المحبوب.

[IMG]http://www.nashiri.net/aimages/babtain.jpg[/IMG]
لقد باحت البوادي للشاعر بأسرارها في ديوانه الأول "بوح البوادي"، وها هو يعترف في مقدمة ديوانه الثاني بأن تشبثه بالصحراء والبادية والقفار جزء لصيق وهام داخل نفسه، وفي حياته. ويمضي في اعترافاته قائلا: "فنفْْسي تنطلق في الصحراء إلى أقصى مداها، وتتفتح رؤاي فيها إلى أقصى اتساعها، وأعتبرها المكان الطبيعي لروحي ونفْسي، أستنشق هواءها بملء رئتي، وأرنو إلى فضائها وأفقها البعيد، بمدى اتساع بصري، فأجد فيها كل ما تشتهيه نفسي من راحة وسعادة وهناء".
غير أننا قد نكتشف خداع المكان، إذا عرفنا أن الشاعر لم يثبت على مكان معين، حيث نراه ينتقل من مكان إلى آخر فمن الكويت إلى القاهرة مرورا بجنيف، ونيس وسفرنيه بفرنسا، ومرسى مطروح، وكابده بالعراق، وجده وفليج والأحساء والشيط بالسعودية، ولندن، والإسكندرية، وباماكو وتومبكتو بجمهورية مالي، وقلميم وطان طان وفاس بالمغرب، وبئر تدمر وبلودان بسوريا، وبعلشميه بلبنان، والأغواط بالجزائر، وتونس، ونور العرش بإيران، وغيرها. وقصائد أخرى كتبت على متن الطائرة. وعلى الرغم من ذلك يرى الشاعر أن روحه تنطلق وتتفتح في القفار التي لم تعد قفارا من وجهة نظره، فهل كل هذه البلاد والمدن التي زارها هي القفار الحقيقية من وجهة نظره الشعرية والنفسية؟
هي بالفعل كذلك من وجهة نظر الشعر والفلسفة، فالمكان الذي لا توجد فيه الحبيبة (ليلى الشاعر، أو عزة الشاعر، أو بثينة الشاعر، أو ولادة الشاعر) تعد قفرا، فرؤية الشاعر للعالم بدون الحبيبة، لا تبعث الأمل في النفوس، ولا تشيع الحب في القلوب، ومن ثم فالعالم بدون الحبيبة صحراء ويباب، مهما كان المحب / الشاعر في باريس، أو لبنان، أو جنيف، أو الإسكندرية، أو مسقط رأسه الكويت.
والزمان الذي ليس فيه الحبيبة، أيضا زمان شائخ، أو دهر خؤون، لذا فإن الشاعر يناديه، أو يشكو له ربما يحن هذا الزمان بوصال مع الحبيبة.
يقول الشاعر في مطلع قصيدة "وسادة العواطف" (1)
أيسمعُني الزمانُ أنا المُنادي
بصوتٍ تائهٍ في كلِّ نادي
أما من عودةٍ لعُهودِ حُبٍّ
تُذكِّرُني بنُعْماها الشوادِي
وسوف تحاول هذه الدراسة التوقف عند زمان الشاعر في هذا الديوان، علنا نَسبر أغوار التجربة الشعرية، ونصل إلى مكامن الأداء الشعري لدى الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، بعد أن حدَّد لنا موقفه من المكان وجمالياته الروحية والنفسية.
لابد لنا في البداية من تعريف الزمان (فالزمن والزمان: الدهر. وقيل: "الزمان يقع على جميع الدهر، وبعضه، وقيل: الزمان شهران إلى ستة أشهر، أما الدهرُ فلا ينقطع، وقيل الدهرُ عند العرب يقع على وقت الزمان من الأزمنة، وعلى مدة الدنيا كلها) (2).
وقال المتنبي:
ولكَ الزمانُ من الزمانِ وقايةٌ
ولكَ الحِمامُ من الحِمامِ فداءُ
وقد لاحظتُ أن لفظتي الزمن والزمان لم تردا في القرآن الكريم مطلقا، وإنما وردت كلمة الدهر عوضا عنهما، مثل الآية الكريمة "هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهرِ، لم يكن شيئا مذكورا"
(3) وقوله تعالي: "وقالوا ما هي إلا حياتُنا نموتُ ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر" (4).
والدهرُ لغةً: ـ والجمع: أدهُرٌ ودهورٌ ـ مدة الحياة الدنيا كلها، أو مدة بقاء الدنيا إلى انقضائها، أو الأبد الممدود، أو الزمان الطويل، أو الزمان قلَّ أو كثر. وقيل الدهر ألف سنة، وقيل مائة ألف سنة، وقيل الدهر هو الآن الدائم الذي هو امتداد الحضرة الآلهية، وهو باطن الزمان، وبه يتحد الأزل والأبد، وقيل: الزمان والدهر واحدٌ (5).
وفي ديوان "مسافر في القفار" نجد عناوين قصائد اتكأت في بنيتها على البيئة الزمنية ومشتقاتها، مثل أول قصيدة في الديوان "زمن الخطوب"، وقصائد أخرى لا تذكر فيها ألفاظ الزمان مباشرة، وإنما نجد عمل الزمان وسيره مثل: آن الأوان لنلتقي، نيران الأمس، ضياع السنين، يوم اللقاء، رحيل الليل، رحيل السنين، وهكذا.
يقول الشاعر في قصيدة "يوم اللقاء" (6) على سبيل المثال:
نسجَ الزمانُ على طويلِ مَدارِهِ
يومًا أضاءَ بنورِهِ دُنيانا
يومٌ ترقَّبهُ الفؤادُ مُشوَّقا
وصَبَا إليه مُدَلَّهًا وَلْهانا
ولعلنا نستطيع التوقف أمام هذه القصيدة (18 بيتا من بحر الكامل) بعض الشيء لنبحث عن الألفاظ الزمنية أو الدالة على الزمن، كنموذج تحليلي كاشف عن رؤية الشاعر لهذه القضية الفلسفية.
بداية سنجد في هذه القصيدة الألفاظ الزمنية التالية: الزمان (تكررت)، يوم (تكررت)، العمر، أمسى، سنين.
الشاعر يخبرنا أن هذا الزمان الطويل (الذي ربما يكون ألف سنة أو أكثر أو أقل) اختار يوما معينا للقاء الأحبة، ونلاحظ أن الشاعر هنا لم يهتم بالمكان قدر اهتمامه بالزمان، فقد حسم قضية المكان وجمالياته في مقدمة ديوانه التي تحدثنا عنها من قبل. وبالتالي يتفرغ لمعالجة قضية الزمان في شعره، هذا الزمان الذي كافأه بأن منحه يوما أضاء بنوره دنيا المحبين، فرقص الفؤاد معاقرا كأس الربيع، حتى الغيوم تضاحكت، وفرحت الدنيا بهذا اليوم الاستثنائي، وغدت صحارى العمر فيه جنانا (وهنا نلاحظ أن المكان المحسوم من قبل شعريًّا أو جماليًّا، تحوَّل إلى جنان نتيجة فعل الزمان، ووقعه على الشاعر المُحب، أو على مشاعره وأحاسيسه).
لقد امتدت يد الزمان في لحظة صفاء وهناء لتجود أو تمنح المحبين متمثلين في شاعرنا ومحبوبته، أجمل أيام العمر، فكان هذا اليوم عيد الزمان الذي أمسى فيه الكون ساحرا وفنانا.
ولم يشأ الشاعر أن يلوث أو يدنس يومه المختار الممنوح له بعد انتظار طويل، بلقاء حسي عابر، وإنما ارتدى حبُّه وهواه ثوبَ الطهارة والعفاف:
أَوَّاه ما أحلى اللقاءَ إذا ارْتدَى
ثوبَ الطهارةِ والعفافِ هوانا
مؤكدا انتسابه إلى قبيلة الشعراء العذريين الذين سبق أن تحدثنا عنهم من قبل.
ومع استمرار السعادة على هذا النحو المبهج غير المتوقع، وصفاء الزمان على هذا النحو الاستثنائي، لا تجد الطبيعة بدا سوى الاحتفال بهذا الإنسان الشاعر فتشارك النَّسمةُ أجواء الاحتفالية، وعصافير السماء تشارك بلحنها من عل.
ليس هذا فحسب، ولكن الزمان نفسه صاحب اليد الطولى في هذا اللقاء المبهج، يرقص احتفالا بهذا اليوم، وكأن الزمان نفسه خلقه الله تعالى أو جَدَله، بكل دوراته وشموسه وأقماره وعقارب ساعاته من أجل الوصول إلى هذا اليوم الموعود، فهناك أوقات فضلَّها الله على أوقات، وهناك أيام فضلَّها الله على أيام.
يقول الشاعر:
رقصَ الزمانُ بيومِنا، وعَواذِلي
رقصُوا معي يَشدُونَها ألحانا
يا يومَ لُقيانا خُلِقتَ كأنَّما
جُدِلَ الزمانُ لنسْجِ يومِ لقانا
وكعادة الإنسان والزمان أيضا الذي لا يظل على وتيرة واحدة، تتغير الأحوال وتتبدَّلُ الأزمان، ويطل الخوف والعذاب من جديد، وتضيع السنين، ويشكو الشاعر ليلَه إلى ليلِه، ويقول في قصيدة النجمة الخالدة (7):
تدورُ الليالي والحنينُ يلُفُّني
ويعصِفُ بي وَجْدي ويأسرُني سِري
وتُصبحُ أيامي سُهادًا ولوعةً
وأغدُو كأنَّ العُمرَ يجري ولا يجري
فما العُمرُ إلا أنْ تُواصِلَ من سَبَى
فُؤادَكَ من دونِ افتراقٍ ولا هجرِ
ولعل البيت الأخير يرقى لمستوى الحكمة، أو المثل السائر، وهي حكمة مركزة أو مقطَّرة، تأتي نتيجة التجارب العاطفية والصدمات النفسية التي كابدها الشاعر ـ على مدى زمانه ـ جرَّاء البعد عن الحبيبة.
ومع تقلُّب الأزمنة لا يجد الشاعر بُدًّا من هجاء الزمان الذي يبعده عن الحبيبة، فيقول في نهاية قصيدة "زمن الخطوب" (8):
مَضيْنا مرَّةً أخرى لنأيٍ
ألا شُلَّتْ يدا زَمَنِ الخطوبِ
لقد مال الزمان عن الأحبة، بعد أن أوسعهم عشقا، وجدل لهم يوما رائعا للوصال واللقاء والمحبة، فإذا به يغدر بهم، وتصيبهم نازلات الدهر، ويُلقي الدهر بكلكله الثقيل فوق الديار، فإذا الديار أرسم وطلول تذبح العاشقين، فيقول في قصيدة "تشرد":
ومالَ زمانُ الغدرِ يَحْطِمُ أكْؤسًا
بأيدي النَّدَامى، والزمانُ يميلُ
وهكذا يلعب الزمان بالأحبة بين وصال وفراق، وتشرُّد وعناق، ولكن هذا الفعل الزماني لا يغير من شيم المحب الولهان، فهو في جميع الأحوال خليل ومحب لا يأبه بإقبال الزمان عليه أو إدباره عنه، يقول في نهاية قصيدة "تشرد" (9) التي كتبت خلال فترة الاحتلال الصدامي للكويت عام 1991:
لأهلى لصحْبي للكرامِ من الوَرَى
جميعًا، أنا طولَ الزمانِ خليلُ
لكنه على الرغم من هذا الإعراض الظاهري عن فعل الزمن به وبمشاعره، يفرح كثيرا عندما يُقبل الزمان عليه، مرة أخرى، فيدعوه إلى مزيد من الإقبال، بل إنه يُغري الدهر بالتعاطف معه، فيشبهه بإنسان يسعد لابتهاجه، ويخبره بأن الكون يرقص في أشعاره فرحا بفعله.
فيقول في افتتاح قصيدة "لقاء" (10)
ألا يا بهجةَ الأيامِ زيدي
فؤادي نشوةً في يومِ عيدي
كأني اليومَ والدنيا رُواءٌ
ولدتُ مع السعادةِ من جديدِ
وأنَّ الدهرَ يسعدُهُ ابتهاجي
وأنَّ الكونَ يرقصُ في قصيدي
غير أن الشاعر لا يأمن لهذا الزمان كثيرا، بعد أن رأى تقلبه على هذا النحو. وبعد طول عناء منه. وبعد تجارب طويلة ومريرة معه، يصل إلى حل نهائي، يرى أنه أفضل الحلول في التعامل مع هذا الزمان الخؤون، ويكمن هذا الحل العبقري في البيت التالي من قصيدة "وشاهدتني" (11)
لسوفَ أجمعُ أمسي، حاضري، وغَدي
فيكِ، وأعشق في آفاقك السفرا
وهو يذكرنا بشطر البيت الشهير في قصيدة "جارة الوادي":
جُمِعَ الزمانُ فكانَ يومَ لقاكِ
وبذلك يحل الشاعر مشكلته ـ أو يتوهم ذلك ـ مع الزمان، فيجوب الآفاق سعيدا غير هيَّابٍ من تقلباته أو خَبَلِه، ودهرٌ خَبِلٌ أي ملتوٍ على أهله لا يرون فيه سرورا (12).


* إحالات

1 ـ عبد العزيز سعود البابطين. ديوان مسافر في القفار. الكويت: مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، 2004، ص 110.
2 ـ أحمد فضل شبلول. معجم الدهر. الرياض: دار المعراج الدولية للنش، 1996، ص 46.
3 ـ سورة الإنسان ـ الآية 1.
4 ـ سورة الجاثية ـ الآية 24
5 ـ معجم الدهر، ص 32.
6 ـ الديوان ـ ص 53
7 ـ الديوان ـ ص 69
8 ـ الديوان ـ ص 6
9 ـ الديوان ـ ص 13
10 ـ الديوان ـ ص 31
11 ـ الديوان ـ ص 52
12 ـ معجم الدهر ـ ص 26

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية