يُنهي د. أحمد محمد صالح كتابه المهم "صدمة الإنترنت وأزمة المثقفين" بسؤال صادم، يقول فيه: "إذا كان المستقبل لا يحتاج إلى البشر! فهل المستقبل يحتاج إلى العرب!؟".
صدر الكتاب عن سلسلة "كتاب الهلال" التي تصدرها دار الهلال بالقاهرة (العدد 655) وجاء في 328 صفحة من القطع الصغير، ووقع في سبعة فصول وتمهيد. يرى المؤلف في تمهيده، أن ثورة الاتصالات ـ وتحديدا الإنترنت ـ قلصت الزمن، وانتفت المسافة بين الحدث والخبر (أنت حيث لا مسافة) مما أدى إلى توزيع القوة في النظام العالمي الجديد لمصلحة الدول الأكثر تقدما تقنيا.
وهو يشير إلى أن قمة جنيف للمعلوماتية ـ التي عقدت في الفترة من 10 إلى 12 ديسمبر 2003 وحضرها 67 رئيس دولة ورئيس حكومة، وحوالي ستة آلاف من ممثلي المنظمات الدولية والأهلية والقطاع الخاص ـ أكدت على أهمية التعدد الثقافي واللغوي على شبكة الإنترنت، والحفاظ على التقاليد والتراث الوطني للشعوب.
تداعيات شبكة الإنترنت
غير أنه لا يغادر التمهيد قبل أن يطرح مدى حاجتنا لدراسة مستمرة لتداعيات شبكة الإنترنت الاجتماعية والفكرية والثقافية والقانونية والأخلاقية. ومن ثم يطرح بعض التساؤلات، من أهمها: ما تأثيرات المعلوماتية على المجتمع؟
وما الذي نقصده حين نقول إن الإنترنت أعادت تشكيل المجتمع؟ وكيف يتصل ويتواصل الناس؟
وكيف غيرت أنماط الاتصال الجديدة، الطريقة التي يعمل بها الناس؟
وكيف تؤثر الزيادة المتضاعفة السريعة في أعداد المستعملين للإنترنت، في تقليل وتقليص القيود وشروط التعليم الجامعي مثلا أو العمل السياسي؟
وكيف تؤثر الويب www على الطريقة التي يبحث ويستعمل فيها الناس المعلومات الصحيحة؟
بلا شك أنها أسئلة قد تبدو سهلة وبسيطة، وكلها تصب في أثنوجرافيا الإنترنت في تفاعلها مع السياقات الاجتماعية والثقافية والمؤسساتية.
أثنوجرافيا الإنترنت
وعلى هذا يكون الفصل الأول عن أثنوجرافيا الإنترنت، ويبدأ بسؤال يقول: هل مستعملو الإنترنت يشكلون مجتمعا له ثقافة متميزة عن ثقافتهم الأصلية؟
فإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فما السمات الرئيسية لثقافة مجتمع شبكة الإنترنت؟
ولعل الإجابة تكون أكثر يسرا لو نظرنا إلى الإنترنت على أنها بنية فوقية مجتمعية، متحررة من قيود الطبيعة البشرية، غير أنه يجب ألا ننسى أن أعضاء مجتمع الإنترنت هم في الوقت نفسه أعضاء في مجتمعاتهم التقليدية التي تدعمهم. وعلى ذلك فثقافة الإنترنت تعد امتدادا طبيعيا للعناصر السائدة في الثقافات الأخرى، فمعظم ثقافة الإنترنت مأخوذة من هذه الثقافات السائدة.
وعليه يعود المؤلف ليؤكد أنه لا يجب النظر إلى الشبكة كمجتمع مستقل، بل كبنية فوقية مجتمعية، متحررة من قيود الطبيعة البشرية.
ثم يقوم بالحديث عن العناصر المساندة والمشجعة في ثقافة الإنترنت، انطلاقا من مبدأ أن شخصيتك تُعرف مِنْ الذي تقوله، ولا يهم مَنْ تكون في الواقع. (أي شخصيتك في الواقع الافتراضي، أو شخصيتك الافتراضية).
من هذه العناصر: حرية المناقشة والتعبير، وهنا توجد إشارة إلى أن التكنولوجيا ستكون في قلب صراعات السلطة المتنوعة في العصر الرقمي.
ومن العناصر المساندة، الترحيب الدائم بالأعضاء الجدد، وهي خاصية واضحة في ثقافة الإنترنت، وقد بلغ تعداد مجتمع الإنترنت في العالم كله أكثر من 800 مليون مستخدم، بعد أن كان حوالي 391 مليونا حتى 31 مارس 2001.
ثم هناك الشعور بالانتماء القوي لثقافة مجتمع الإنترنت، خاصة بعد أن زادت شعبية الشبكة، الأمر الذي أدى إلى ظهور ثقافة الهاكرز، ومن المهم هنا التمييز بين ثقافة الإنترنت وثقافة الهاكرز، فجميع الهاكرز ينتمون لثقافة الإنترنت، ولكن ليس جميع مستعملي الإنترنت ينتمون لثقافة الهاكرز.
ويتوقف المؤلف عند العناصر التي قد تعوق التقدم في ثقافة الإنترنت، ومنها مستوى الطلاقة في اللغة الإنجليزية المكتوبة، ومستوى الإلمام بأبجدية الحاسوب والإنترنت، حيث لا معنى لحرية المعلومات بين أفراد ومثقفين أميين في الهجائية الإلكترونية. وتوجد إشارة إحصائية إلى أن المستخدمين العرب للشبكة لا يمثلون إلا 1.7% فقط من المجموع العام لمستخدميها في العالم (فمن بين 801.4 مليون مستخدم في أنحاء العالم، لم يزد عدد العرب بينهم عن 13.5 مليون).
أيضا من الأسباب التي قد تعوق التقدم في ثقافة الإنترنت، مستوى الإلمام بلغة تلك الثقافة، ومشاعر العداوة التي يحملها المستعملون الحاليون إلى المستعملين الجدد (على الرغم من الترحيب الدائم بالأعضاء الجدد).
الأديان والتدين على شبكة الإنترنت
يعد الفصل الثاني عن الأديان والتدين على الإنترنت من الفصول الشائكة في هذا الكتاب، حيث يرى المؤلف أنه من المحتمل رؤية أعداد متزايدة من الناس يمتلكون معرفة اختصاصية متقدمة أكثر من الخبراء المحترفين في الحقل نفسه، وفي مجال الدين يصبح لهؤلاء الذين لم يتدربوا ولم يؤهلوا كمحترفين في الشئون الدينية أن يمتلكوا بسهولة معرفة دينية وفيرة أكثر من الكهنة والرهبان أو القساوسة والشيوخ والوعاظ والحاخامات. (هل نضرب مثالا بعمرو خالد؟).
وقد وجدت على شبكة الإنترنت 22 ديانة عالمية من بين عشرة آلاف دين متميز.
ومن خلال إحصائيات قاعدة البيانات عن الأديان على الإنترنت، وجد أن حوالي 83 ـ 90% من سكان العالم يؤمنون بوجود الله. وأنه يوجد في العالم أكثر من 1 بليون مسلم (940 مليون من السنة، و120 مليون من الشيعة)، وأكثر من 2 بليون مسيحي (أكثر من نصفهم من أتباع الكاثوليكية) وأكثر من 750 مليون هندوسي، و20 مليون من السيخ، و15 مليون يهودي، وكلهم يؤمنون بوجود الله أو قوة عليا. وأن عدد اليهود المتدينين أقلية في إسرائيل، وأن عدد اليهود الذين يعيشون في الولايات المتحدة أكبر من عدد اليهود الذين يعيشون في إسرائيل.
عولمة الدين وتآكل جذور الأديان
وفي عصر المعلومات يلاحظ المؤلف ظاهرة يمكن تسميتها بعولمة الدين (الدين كظاهرة، وليس الدين نفسه) وهو يرى أن المعلوماتية الدينية ستنتشر، وستتشكل أنماط جديدة من المؤسسات الدينية، وعليه ستواجه الأديان عموما نقطة تحول كبرى من خلال تكنولوجيات الاتصال الحديثة التي تستغل في أنشطة التحويل العقائدي مثل الدعوة والتبشير لعقائدها.
ويرى المؤلف أن الإنترنت توسع النطاق الجغرافي الذي يمكن أن تصل إليه الأديان، ولكنها في الوقت نفسه تعمل على تآكل جذور تلك الأديان، وأن كل المعتقدات خلقت لها على الشبكة بيوتا روحية، ولكن بعض المواقع خلطت بين الصلاة والربح. فقد أحدثت الإنترنت تحولات كبيرة في الاستثمار والتسوق، والآن تؤثر على الكيفية التي يمارس بها الناس عقائدهم، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل: هل يمكن أن تنتهي تلك التحولات إلى خلق أديان هجينة جديدة من صنع التابعين أنفسهم؟
الصلاة في فضاء الإنترنت
موضوعات شتى يناقشها المؤلف في هذا الفصل الشائك الذي قد يفتح النار عليه، منها تسويق الأديان على الإنترنت، والصلاة في فضاء الإنترنت، وظاهرة الإسلام على الإنترنت، وهو يشير إلى أن الإسلام موجود بكل لغات العالم على الإنترنت، أقلها العربية، لغة القرآن الكريم.
أيضا يتناول المؤلف ظاهرة نساء المسلمين على الإنترنت، والمعارضة الإسلامية، والسلطة الإسلامية، والقرآن في الفضاء السيبيري. وينهي فصله هذا بأن انتشار المواقع الإسلامية وتعددها على الإنترنت يعكس رغبة صريحة من أصحاب تلك المواقع بتوظيف الانتشار العالمي لشبكة الويب لوصول القرآن الكريم لكافة أنحاء المعمورة خاصة السكان المسلمين في الدول النامية. وهنا يشير إلى أن فكرة اقتصار إمكانية وسهولة الولوج إلى الإنترنت على نخبة المجتمع فقط، أصبحت فكرة بالية، وبلا معنى بعد أن أصبحت الحاسبات متوفرة في الأماكن العامة من جامعات ومكتبات ومنازل.
هل نعلن وفاة الكتابة؟
فصل آخر لا يقل أهمية عن الفصل السابق، ولكنه عن مستقبل القراءة والكتابة في عصر المعلومات، يبدأه المؤلف بسؤال يقول: هل نعلن وفاة الكتابة؟!
وهو لا يتحدث عن موت النص، أو موت المؤلف (على حد تعبير رولان بارت)، بقدر ما يتحدث عن محاضرة أحد باحثي العلوم الاجتماعية في مركزCNRS بباريس، هو دان سبيربير الذي يرى أن الكتابة ليست الطريق الوحيد لإنتاج النصوص المكتوبة، ولكن هناك تقنيات تحويل الخطاب المنطوق إلى نصوص مكتوبة، كما ظهرت تقنيات تحويل النصوص المكتوبة إلى خطاب منطوق. وهنا يتوقع الباحث نهاية نشاط الكتابة، وأيضا نشاط القراءة.
وتعد السرعة من مزايا تقنيات تحويل الخطاب المنطوق إلى نص له فائدة واضحة، حيث إن هذه الطريقة أسرع عدة مرات من الكتابة اليدوية أو حتى الطباعة التي هي أبطأ من الخطاب المنطوق، ولكن في الوقت نفسه فإن الكتابة باليد تسمح للكاتب بالتعبير عن الفكرة بطريقة غنية وأكثر سيطرة مقارنةً بالخطاب المنطوق. فالكاتب يمكن أن يكتب ويصحِّح ويعيد الكتابة، وفي النهاية ينتج نصا خاليا من الترددات وحيرة تصليحات الكلام الشفهي.
وعلى كل حال فإن الباحث الفرنسي يعلن قرب انتهاء عصر القراءة والكتابة، وإمكانية الدخول إلى المعلومات المخزونة بشكل شفهي وسماعي، حيث الحاسبات الناطقة التي تمكننا من استبدال كل اللغة المنطوقة باللغة المكتوبة (الباء تدخل على المتروك الذي هو اللغة المكتوبة).
ويمضي الباحث الفرنسي في تأملاته قائلا: سنكون قادرين على تخزين واسترجاع المعلومات ببساطة من خلال النطق والاستماع، والنظر إلى الرسومات، وليس في النصوص.
وإذا أثبتت تقنيات تحويل الخطاب المنطوق إلى نص مكتوب فعاليتها ومناسبتها، فقد ينتهي ذلك بالناس إلى ترك نشاط الكتابة جملة بدون أن يقرروا عمل ذلك، أو حتى يلاحظوا أنهم فعلوا ذلك.
أما تحويل النص إلى خطاب منطوق، ففكرته تقوم على أن أحد الأشخاص عنده نص مكتوب يُقرأ له، بدلا من أن يقرأه بنفسه. كما هو الحال مع بعض الناس الأغنياء أو أصحاب السلطة الذين يستعملون السكرتيرات لكي يملين عليهن ولا يكتبون بأنفسهم، وإذا كان عندهم نصوص تقرأ لهم من قبل قرَّاء مستأجرين (أو كما نرى مع العُميان).
ولعلنا نلاحظ انتشار المكائن الناطقة الآن في العالم، مثل رسائل الرد الآلي بالهاتف، (وهو ما سوف يُعمم بعد ذلك، ولكن من خلال عرض النصوص على الشاشة لتقرأ آليا، وهو موجود حاليا من خلال بعض المواقع، وبعض الأقراص المدمجة الناطقة).
موت المؤلف والقارئ والناشر
غير أن المؤلف لا يغادر هذا الفصل قبل أن يناقش أفكار دان سبيربير، والنتائج والمضامين الثقافية المترتبة على تحويل الخطاب المنطوق إلى نص، وتحويل النص إلى خطاب منطوق، ومستقبل تعليم الكتابة، والقرَّاء والقراءة في العصر الإلكتروني، وموت المؤلف والقارئ معا، وهنا نتوقف مع المؤلف الذي يقول: "إذا كان روجر تشارتير، أعلن وفاة المؤلف والقارئ على جانبي الأطلنطي، فإن المنطقة العربية أعلنت من زمان موت المؤلف والقارئ والناشر، فمقولة "العرب لا يقرؤون" مقولة شهيرة، وتصدق اليوم أكثر من أي وقت مضى حيث دخلنا الألفية الثالثة، ونحن في ترتيب متدنٍّ للغاية من الناحية المعرفية. فمصر تنتح سنويا ـ على سبيل المثال ـ 20 كتابا لكل مليون مواطن مصري، بينما تنتج اليابان 422 كتابا لألف مواطن ياباني. وقد استقى المؤلف هذه الإحصائية من تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003.
ويتحدث المؤلف عما رصده روجر تشارتير بعد ذلك عن التحولات من اللفائف إلى المخطوطة إلى الإلكترون، حيث يتوقع في العقود القادمة احتمال تعايش ـ ليس بالضرورة أن يكون سلميا ـ بين شكلي الكتاب (المطبوع، والإلكتروني) وبين الأنماط الثلاثة للكتابة وإرسال النصوص: وهي الكتابة المخطوطة باليد، والنصوص المطبوعة، والنصوص الإلكترونية.
وهذا التعايش المحتمل يتطلب منا أن نفكر في الطرق الجديدة التي ستبنى بها حقول المعرفة، ومعرفة قيود القراءة أو الشروط التي يجب توفيرها لقراءة الكتاب الإلكتروني، والنصوص الإلكترونية، والتي منها الصور والأصوات والنصوص المرتبطة إلكترونيا (الهايبر تكست) بطريقة لا خطية. لقد اعتبرت الروابط والوصلات هي المفتاح في هذا العالم النصي غير المحدود، حيث يمكن تفتيت الوحدات النصية، ثم ضمها معا.
مكتبة الإسكندرية والذاكرة الرقمية
وهناك رأي آخر يرى دمج نظام اللفافة بنظام المخطوطة والكتاب المطبوع، لبناء النظام الإلكتروني، حيث يتم إعطاء النصوص الإلكترونية أصالة القديم، وهو ما يحاولون إقامته في مكتبة الإسكندرية لتحويل كل النصوص الموجودة التي لم تنشأ بالحاسبات إلى الصيغة الإلكترونية حتى لا تتعرض للدمار. وهذه أحد المهام الضرورية للمكتبات اليوم أن تجمع وتحمي وتفهرس كل النصوص التي كتبت في الماضي، ليسهل الوصول إليها. ومن ثم يكون دور المكتبات في العصر الإلكتروني أو العصر الرقمي، هو حماية الميراث المكتوب والإبداع الثقافي والجمالي.
وهنا يتساءل المؤلف: هل تستطيع مكتبة الإسكندرية الجديدة الحفاظ على التراث الثقافي الإنساني من خلال الذاكرة الرقمية؟
ولا يفوت تشارتير الحديث عن حماية حقوق المؤلف الأخلاقية والاقتصادية، والتي يجب أن يتحالف الناشر مع المؤلف للحصول عليها. وهذا التحالف من المحتمل أن يؤدي إلى تحويل عميق في العالم الإلكتروني حيث ستتضاعف كفاءة الأنظمة الأمنية الإلكترونية التي تستهدف حماية الكتب الإلكترونية وقواعد البيانات.
المعنى السيسولوجي للهاتف المحمول
لم يقتصر الكتاب على صدمة الإنترنت فحسب، ولكنه تحدث أيضا عن نظرية اجتماعية للهاتف المحمول، فتحدث عن المعنى السيسولوجي للمحمول، فعلى الرغم من أهمية المحمول اجتماعيا، وانتشاره بسرعة في أيدي الناس سواء الأميين أو المتعلمين، الفقراء أو الأغنياء، وخاصة جماعات العمر الأصغر (أكثر من ملياري جهاز، ستتضاعف خلال العامين القادمين) إلا أن حماس البحاث والمفكرين له كان أقل من الاهتمام الذي أثارته شبكة الإنترنت. ويبدو أن الأعماق الغامضة في فضاء الإنترنت هي التي تثير الناس دائما، ولكن على أية حال فإن الموجة الحالية من أدوات الاتصال المحمولة، والتي على وشك الانتهاء، سوف تؤدي إلى تحولات جوهرية بالتأكيد في فهم الأفراد لأنفسهم وللعالم، وبالتالي سوف تتغير الطريقة التي نبني بها العالم، خاصة بعد انتشار الرسائل القصيرة التي أصبحت تشكل ظاهرة ثقافية جديدة وغير مسبوقة تسمى "ثقافة الإصبع" التي تؤثر تأثيرا بالغا في حياة الفرد اليومية نتيجة نمط الاتصال الجديد، ذلك أن المستخدمين يغيرون تدريجيا من عاداتهم، ويتعلمون استعمال التقنية الجديدة في تشكيلة متنامية من الأغراض، لدرجة أن الهاتف المحمول أصبح حبل نجاة اجتماعي في عالم ممزق تسود فيه القطيعة، مع ملاحظة أن الشخص نتيجة استخدامه للمحمول أصبح محاصرا من قبل الآخرين، أكثر من ذي قبل.
ظاهرة الانقسام الرقمي
رؤية أخرى لظاهرة الانقسام الرقمي أو الفجوة الرقمية، هو موضوع الفصل الخامس بالكتاب، وتحدث فيه الكاتب عن المعلومات بين الاحتكار والانقسام، ويوضح الكاتب أن المعرفة هي الدلالات والمعاني التي يتحصل عليها الأفراد من المعلومات، وأن المعلومات هي الحقائق التي نستخلصها من البيانات، وأن المعرفة نبنيها على ترابط المعلومات المختلفة في بنية منطقية متماسكة. وعلى ذلك فالمعلومات هي العصب الحيوي في حركة الأمم وتطورها باعتبارها أساس المعرفة، وأن المعرفة هي القوة في القرن الواحد والعشرين.
وقد ظهرت الفجوة الكبرى بين دول تبتكر المعلومات وتوظفها بمهارة، وبين دول تستهلك المعلومات بمهارة محدودة. أو بمعنى أدق ظهرت فجوة معلوماتية بين دول المركز ودول الأطراف، أو بين دول الشمال ودول الجنوب، سميت بالفجوة الرقمية.
ويشير المؤلف إلى أن أغلبية السكان في العالم حتى الآن لم تستشعر وتلمس نتائج وأبعاد ثورة المعلومات، وأن محرك بحث شهير هو گوگل www.google.com أعطى إشارة إلى أن أكثر من 793 ألف موقع تناولت بالحديث والنقاش والبحث ظاهرة الانقسام الرقمي أو الفجوة الرقمية.
المثقف العربي وتحديات عصر المعلومات
ومن الفجوة الرقمية إلى الحديث في الفصل السادس عن المثقف العربي وتحديات عصر المعلومات، حيث أضاف هذا العصر تحديات جديدة وخطيرة أمام المثقف العربي، أولها ظاهرة فيض المعلومات، حيث صار نصيب الفرد من المعلومات غير مسبوق في تاريخ البشرية، ويقدر الباحثون أن متوسط نصيب أي إنسان على وجه الأرض من المعلومات سنويا هو 800 ميجابايت، وهو رقم غاية في الكبر بكل المقاييس. (فما هو استهلاك المثقف العربي من هذا الرقم؟).
التحدي الثاني الذي يواجه المثقف العربي في هذا المجال، هو تدني المستوى الثقافي والمعلوماتي حتى للصفوة، وانتشار الأمية الهجائية للتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت.
أما التحدي الثالث فهو المعركة المشتعلة دائما بين المحافظين الذين يسعون إلى تحويل الحاضر إلى ماض، والمثقفين الساعين إلى نشر ثقافة العصر من علوم وتكنولوجيا، ويتطلعون إلى مستقبل معلوماتي زاه، فيُتَّهم ـ معظمهم ـ بالعمالة الإمبريالية.
التحدي الرابع هو الواقع العربي المتقزم على الأصعدة كافة.
التحدي الخامس هو تحدي الاستبداد بالمعلومات، أي التحكم فيها وحجبها ومنعها، وتوظيف قوة المعلومات في الظلم والقهر والعدوان والفساد، والدعوة إلى السيطرة على المعلومات ومراقبتها على أساس أن هذا الإجراء سلاح في الحرب ضد الإرهاب.
ويرى المؤلف أن الإعلام الإلكتروني بدأ يقضي على إعلام الورق (الصحف) وبدأ يضايق إعلام الصورة (التلفزيون) وهو مرشح للسيادة في المستقبل.
اتحاد الروح ورقاقة السيليكون
في الفصل الأخير "الإنسان والمكائن في الألفية الثالثة"، وهو الفصل الذي ختمه المؤلف بسؤاله الموجع: إذا كان المستقبل لا يحتاج إلى البشر! فهل سيحتاج إلى العرب؟ يرى المؤلف أن المجتمعات الإلكترونية التفاعلية ستغير طرق الناس في الاعتقاد، والتعليم، والاتصال، وأن التطورات الأكثر إذهالا لم تظهر بعد للبشرية، كما يرى الخبراء، وأن حاسبات الغد سيقع عليها عبء الاتصال بك شخصيا لتعرف ماذا تريد، وأن كل المعارف المكتوبة في العالم ستوجد في جيب كل تلميذ حول العالم، حيث تكون الحاسبات في كل مكان وفي كل الأحوال.
وبنظرة مستقبلية يحدثنا المؤلف عن كتاب لراي كورزويل بعنوان "عصر المكائن الروحية" حيث يتخيل اتحاد الروح مع رقاقة السيليكون، وذلك بعد أن توصل أخصائيو علم الأعصاب من جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة، إلى ما يدعونه وحدة قياس الاتصال مع الله في جسم الإنسان، وهو مكان صغير جدا من الخلايا العصبية في شحمة الأذن الأمامية التي تبدو منشَّطة جدا أثناء ممارسة الشعائر والطقوس والواجبات الدينية. وعليه يمكن إنتاج مكائن لها حياتها الروحية، ولديها القدرة على إقناعنا بأن تجاربها الروحية ذات مغزى.
وإذا كان كتاب "رؤى مستقبلية ـ كيف سيغير العلم من حياتنا في القرن الواحد والعشرين" لمؤلفه عالم الفيزياء الأمريكي ميتشيو كاكو (ترجمة سعد الدين خرفان) يتحدث عن مصير البشرية خلال القرن الواحد والعشرين من خلال ثورات ثلاث هي: ثورة الكمبيوتر، والثورة البيوجزيئية، وثورة الكم، وأنه سيكون في قدرة العلماء إنتاج ترانزستورات كمية دقيقة أصغر من الخلية العصبية، مما يمنح الكمبيوتر قدرة على تطوير الخلايا العصبية إلى شبكات عصبية بقوة الشبكات الموجودة في المخ البشري، وعن طريق الثورة البيوجزيئية، يصبح من الممكن استبدال الشبكات العصبية لدماغنا البشري بأخرى مصنَّعة، فإن كورزويل يرى أن التعلم سيتم بشكل واسع عن طريق زراعة وغرز البيانات في الشبكة العصبية المتوفرة في الإنسان التي ستستخدم لتحسين الذاكرة والفهم والإدراك، ووقتها يستطيع الإنسان أيضا تحميل وتنزيل المعرفة مباشرة، مما يؤدي إلى الربط بين نيل المعرفة وبلوغها، ومجموعة الارتباطات والتراكيب (الإلكترونية أو السيليكونية).
أما الروحانيات فستتحول إلى مسألة ميكانيكية، تتم بإدخال البرنامج الصحيح، أو تحديد مكان الأعصاب الصحيحة للاستثارة، أي باتحاد الروح ورقاقة السيليكون، فيبهت الخط الفاصل بين الإنسانية والتقنية، كما يرى كورزويل.
وعزفًا على ما سبق ذكره في كتاب رؤى مستقبلية، يزعم كورزويل أنه خلال العشرة أو العشرين عاما القادمة، نستطيع أن ندخل الخلايا العصبية في الإنسان، ونزرع فيه واقعا افتراضيا كما نريد (أو نزرع فيه ما يشبه الإنترنت).
هل المستقبل سيحتاج إلى العرب؟
وفي نهاية الكتاب يُبدي د. أحمد محمد صالح قلقه على مصير الجنس البشري، وسيطرة الماكينة، أو تحول الإنسان الآلي من الماكينة المجردة إلى العقل المتعالي، الأمر الذي يؤدي إلى انقراض الإنسان بشكل واضح، خاصة إذا استطاع الإنسان الآلي (الروبوت) أن يكرر نفسه بالاستنساخ ويصبح عدة روبوتات، ويخرج بسرعة عن السيطرة، الأمر الذي يطرح سؤال حاجة المستقبل إلى البشر، وعليه (وفي ضوء عدم مشاركة العرب في كل ما تحدثنا فيه، أو عنه سابقا) يكون السؤال الحرج: هل المستقبل سيحتاج إلى العرب؟!