الكتاب: فجر الاستقلال في سوريا منعطف خطير في تاريخها – خواطر وذكريات محمد سهيل العشي
المؤلف: محمد سهيل العشي
الناشر: دار النفائس – الطبعة الأولى - بيروت 1999
كتاب فريد يندر أن تحظى بمثله، يجبرك أن تقرأه بتمعن حرفاً حرفاً ليس لأنه كتب بإيجاز وعناية فائقة فقط، بل لأنه ممتلئ بمعلومات غزيرة يعز الإطلاع عليها في غيره، ولا يقتصر على سرد ما مضى وإنما يعبر عن وجهة نظر ناضجة في أحداث شارك في صنعها ومواقف شهدها ويأتي بأفكار وخطط ما تزال غير مطروحة حتى اليوم.
والكاتب من مواليد 1918 من أب دمشقي كان قائداً كبيراً في الجيش العثماني وأم لبنانية أبوها هو حسين آغا الصوري أحد أعيان صيدا. وقد شهد في طفولته طرد الفرنسيين عام 1926 من الغوطة ومن عدة أحياء في دمشق. تخرج من مدرسة عنبر بدمشق وهي المدرسة التي جمعت خيرة أساتذة وعلماء سوريا. ثم انتسب للكلية الحربية عام 1937 تلبية لنداءات الأستاذ بكري قدورة لتكوين نواة للجيش السوري.
بدأ علمه في ملازماً في الفوج السادس بدير الزورعام 1939 ثم انضم للثورة على الفرنسيين وعند الاستقلال كان برتبة ملازم أول وأصبح مرافقاً عسكرياً لرئيس الجمهورية شكري القوتلي قبل الاستقلال بقليل واستمر معه سنوات ثلاث. وشهد خلال هذه المدة جميع الأحداث المهمة كالاستقلال ومؤتمر القمة العربي في أنشاص ثم مؤتمر بلودان وحرب فلسطين، وأرسل في مهمات خاصة تتعلق بمهام دبلوماسية أو عسكرية خاصة. وقد عندما قام حسني الزعيم بانقلابه عام 1949 سجنه فترة ثم عينه قائداً لشرطة حلب. درس في مدرسة أركان الحرب في فرنسا عام 1950، ثم عاد قائداً لسلاح الطيران عام 1951 ، ثم بعث ثانية لفرنسا ليدرس في مدرسة الحرب العليا قيادة القطعات الكبيرة من مستوى الفرقة (عشرة آلاف مقاتل تقريباً) فما فوق. ولدى عودته أصبح مديراً للكلية الحربية عام 1954 ثم قائداً للواء الثالث على الجبهة السورية مع إسرائيل عام 1955، وفي اكتوبر 1956 كلف بقيادة الجمهرة السورية الأولى التي شكلت على عجل بقوة فرقة تقريباً للهجوم على إسرائيل انطلاقاُ من نابلس بالضفة الغربية بالاشتراك مع القوات الأردنية فجر يوم 31 أكتوبر 1956.
وفي عام 1957 تم تصنيفه من قبل الضباط اللذين كانوا يناوؤن الحكومة الشرعية باعتباره رجعياً فعزل عن القيادة الفعلية وكلف بمهمات شكلية إلى أن عزل من الجيش. وبعد انفكاك الوحدة مع مصر عاد أميناً عاماً لوزارة الداخلية، ثم سفيراً في المغرب، حيث بقي إلى آذار 1963 حيث اعتزل الحياة العامة ، وتنتهي مذكراته عند هذا الحد.
والكتاب يأتي بقصص وأسرار غير معروفة حتى للقارئ المهتم بتاريخ سوريا الحديث، وله آراء وتعليقات تدعو القارئ للتأمل، وسأختار بعض منها لعرضه لقارئ المقال:
1. يرى الكاتب أن الشعب السوري بمنأى عن الديموقراطية ومفاهيمها، أسير للتقاليد والأعراف من عشائرية وغيرها. ويرى أن الجمهورية السورية الأولى والتي دامت من عام 1946 إلى عام 1949 كانت ديموقراطية دستورية من قمتها إلى آخر أجهزتها، حيث كانت أبواب المسؤولين مفتوحة للشعب، الذي عاش حياته في ظل جميع المؤسسات الديموقراطية الفاعلة. وحينما قام حسني الزعيم بانقلابه الذي وضع حداً لتلك الصورة الوضاءة في تاريخ الوطن ، فإن الشعب السوري تقبّل هذا الإنقلاب، وتخلى بذلك عن حقوقه الديموقراطية، ولم يدافع عنها وذهب ضحية لهذا الموقف الغريب. كما يستغرب الكاتب استسلام الشعب لسلسلة الانقلابات وكأن الأمر لا يعنيه.
وكذلك لا يرى الكاتب في التشكيلة الغريبة لمجلس النواب السوري خيراً: حيث يوجد تنافر وتباين كبير بين النواب لغوياً وعرقياً وثقافياً وعشائرياً وطائفياً.
لذلك حينما تولى المؤلف الإشراف على الانتخابات النيابية العامة عام 1962 طلب تأجيلها فترة يتم خلالها إصلاح جذري في قواعد الشعب ليترقي بها إلى حد الحق والجدارة بالديمقراطية قبل أن ترد إليه أمانة الحكم. ولم يؤخذ برأيه مما أدى للمجيء مرة أخرى ببرلمان لا يعبر سوى عن المصلحة الضيقة للنواب أنفسهم. وللكاتب دراسة تتعلق بتنظيم العمل الحزبي في سوريا سلمها قبل مغادرته البلاد للعمل سفيرا بالمغرب كما سلمه مذكرة تتعلق بتنظيم المخابرات.
2. تألم الكاتب لإيقاف جمال عبد الناصر للهجوم السوري الأردني المشترك على إسرائيل وهو من جبهتين الجولان ونابلس. هذا الهجوم الذي كان سيبدأ بعد 36 ساعة من بداية العدوان الثلاثي عام 1956 وقد كلف الاستعداد له مجهودات قاسية جداً. هذا الهجوم لو تم لأربك إسرائيل أيما إرباك ودفعها لوقف تقدمها في سيناء والانسحاب منها دفاعاً عن قلب إسرائيل المهدد. وهذا التصرف غريب فعلاً من جمال عبد الناصر ولا يمكن فهمه وهو يدل في أحسن الافتراضات على غباء مطلق، أو رغبة من عبد الناصر بعدم مشاركته شرف التصدي للاستعمار لينفرد بكل الدعاية والأضواء. وقد كلفه ذلك احتلال سيناء ثم إحلال القوات الدولية فيها، وفتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية.
3. وللكاتب رأي في الوحدة السورية المصرية التي حصلت عام 1958 ، حيث يشرح لنا أن الشعب السوري بأسره كان يريد الوحدة مع مصر لكن الضباط الثوريين التقدميين أرادوها وحدة فورية اندماجية فجائية بدون دراسة وغير صالحة في حد ذاتها لتكفل ديمومتها. وقبل هؤلاء بدون تردد بشروط عبد الناصر الغريبة تماماً عن سوريا والتي حكمت على الوحدة وعلى المستقبل السياسي لسوريا معاً بالهلاك والدمار. وهذه الشروط هي: حل الأحزاب، إلغاء الحرية السياسية ( حل الأحزاب وتأميم الصحافة)، وإلغاء الحرية الاقتصادية (تأميم المنشئات الصناعية والبنوك وتحديد الملكية الزراعية). ويتأسف الكاتب على تفويت الفرصة لتكوين وحدة حقيقية تكون نواة لوحدة عربية شاملة.
4. كما يستغرب المؤلف عدم قدوم جمال عبد الناصر لسوريا لحظة وقوع الانفصال حيث "كان يكفي لعبد الناصر أن يظهر في دمشق، حتى ينحني أمامه كل الضباط دون استثناء، ولكن يبدو أنه منع من ذلك أو أنه أخطأ في تقدي الموقف آنذاك فلم يقدم على المجيء" ! ولا يبين لنا الكاتب من يستطيع منع جمال عبد الناصر من القدوم لسوريا!
5. ويعتبر الكاتب أن عبد الحميد السراج وزير الداخلية ومدير مخابرات الجيش الشهير، كان عميلاً لإحدى الدول الغربية، ويأتي على ذلك بشواهد أبرزها هروبه الغريب من السجن أيام الانفصال. ويبرز دوره في إفساد الجيش والحياة السياسية والاجتماعية.
6. يلقي المؤلف الضوء على بعض أدوار محسن البرازي المشبوهة. ويعرفنا بأنه كردي حاصل على الدكتوراة في الحقوق الدولية من فرنسا تولى منصب الأمين العام للقصر الجمهوري ولكنه تآمر مع أمريكا للانقلاب على الحكمومة الشرعية حيث تولى رئاسة الوزراء بعد الانقلاب. وفي عهد هذا الانقلاب المشؤوم والذي دام أقل من أربعة أشهر تم التوقيع على اتفاقية أرامكو والتابلاين اللتين كانتا تحظيان بالرفض المستمر، واتفاقية الهدنة الدائمة مع إسرائيل والتي أعطت لإسرائيل عشرة أمتار شرقي بحيرة طبرية، بعد أن كانت الحدود المرسومة في اتفاقية سايكس بيكو تمر في منتصفها(1).
7. كما يشير الكاتب تكراراً للدور الذي مارسه أكرم الحوراني في تخريب الحياة السياسية والعسكرية عبر تأليفه للحزب الاشتراكي الذي يدعو للثورة ودفعه لعناصر هذا الحزب للانضمام للجيش.
والكتاب رغم لغته المؤدبة الراقية وتحفظه الشديد يبقى ثرياً جداً بالمعلومات ومثيراً للتأمل وإعمال الفكر.
________________________________
(1) كان محسن البرازي محافظاً للواء اسكندرون وقد سهل تسليمه لتركيا حيث كان عميلاً للمخابرات التركية وقتها. كما تم إطلاع الجنرال التركي أورباي على جميع أسرار الجيش السوري دون اسثناء إبان رئاسته للحكومة السورية بحجة الرغبة في تحديث الجيش السوري على النمط التركي.