ينفتح المشهد الروائي لدى عبد الله نايه في روايته الجديدة " وجوه في الماء الساخن "، على ساحة  يتجمع فيها العمال تمهيدا للانطلاق الى أعمالهم داخل الحط الأخضر ،وهي ساحة الشجاعية المعروفة  بمدينة غزة .

ومع انفتاح هذا المشهد الذي غالبا ما يكون في ساعات الفجر الأولى ، تبدأ دورة الحياة  وتتعالى أصوات نفير السيارات وتعلو الضجة ، وتتردد نداءات الباعة وأصوات سائقي السيارات ، في مزيج بانورامي عجيب تشتهر به مدينة غزة ،وهذه الساحة بشكل خاص..

 وتبدأ معاناة العمال الغزيين الذين يذهبون الى أعمالهم داخل المصانع والكيبوتسات الإسرائيلية ، وهم يقاومون النوم الذي لا يزال يداعب جفونهم ،ولا تقف المعاناة  عند هذا الحد  بل تتعداه الى علاقتهم برب العمل الإسرائيلي ، تلك العلاقة القائمة على استغلال قوة العمل لديهم بأقصى درجة ، وإعطائهم اقل قدر ممكن من نتاج عملهم .

وعلاقتهم كذلك بالعامل اليهودي ، الذي لا يترك لهم سوى الأعمال الشاقة والقميئة التي يأنف هو من العمل فيها ، وينظر إليهم باستعلاء وكبرياء لا يخلو من التعصب القومي .

إلا أن المشهد يظل حبيس المكان ذاته ، ولا يتطور باتجاه إضاءة اكبر لصالح المشهد العام في المدينة ، فلا نرى مشاهد حركة جنود وسيارات عسكرية وحواجز  ، وكأن المدينة التي تجري فيها أحداث هذه الرواية غير مدينة غزة .

" جودة الفكرة "

وتبدو فكرة الكتابة في هذا الموضوع فكرة حسنة ، طرقتها قلة من كتاب الضفة الغربية وقطاع غزة ، قبل أن يطرقها تايه في روايته هذه ، وهو بذلك يخرج عن النمط الروائي السائد في الأدب الفلسطيني  منذ سنوات  طويلة ،والذي اقتصر على تناول جوانب محددة  من الانتفاضة ، فكانت مشاهده تقتصر على إطارات مشتعلة ورشق حجارة ودخان يعانق السماء .

إلا أن هذا النمط  - والحق يقال – قد أدي أغراضه ، وساهم في إبراز الانتفاضة  وتحويلها إلى نمط حياة لدى المجتمع الفلسطيني لفترة زمنية ليست قليلة.

إلا انه يتوجب ألان البحث عن طريق ووسائل جديدة، للتعبير عن هذا الحدث العظيم ، تتجاوز النمط الروائي السائد  ، باتجاه ترسيخ  الحدث وتقديمه بصورة تبرز الوجه الآخر له ، أي الوجه الإنساني الذي جرى تغييبه لدى معالجة هذا الفعل الشعبي العظيم ،  ليصبح على المدى البعيد جزءا من الموروث الشعبي الفلسطيني .

"مضامين تقدمية "

يقدم نايه في روايته الجديدة مفاهيم ذات مضامين تقدمية ، كالإضراب عن العمل والتضامن بين  العمال ،  إلا أن هذه المفاهيم تظل أسيرة بداياتها الأولى ،  ولا تتطور الى الدرجة التي يشتهيها القارئ ، فتكون النتيجة فصل العمال الذي اتهموا بالتحريض على الإضراب من أعمالهم  ، والخضوع لرغبة رب العمل الإسرائيلي  ، دون أن يرافق ذلك حركة احتجاجية  شاملة ومنظورة لدى العمال الآخرين.

على الرغم من أن الرواية تشهد موقفا آخر موازيا ،  يقوم فيه الأطفال بتصعيد حركتهم الاحتجاجية ، ورشق سيارة المقاول المحلي الذي يستغلهم بالحجارة وحبات البندورة.

وبذلك يكون الأطفال أكثر نضجا  ووعيا لحقوقهم من العمال الكبار ، إلا إذا كان الكاتب يقصد أن الخوف على لقمة العيش ، هو الذي دفع العمال إلى اتخاذ ذلك  الموقف ،  وهو  على أي حال ليس مبررا على الإطلاق :-

 " وقفت العربة أمام مقهى أبو درويش لينزل منها الأولاد ، نزلوا يحمل كل منهم حصته من البندورة ، توانوا عن الانصراف الى بيوتهم ووقفوا أمام العربة ،  وقد أغلقوا الطريق على أبو علي الذي أطلق بوق العربة ينبههم للابتعاد ، لكنهم لم يفسحوا له الطريق ، فظل واقفا ينتظر انصرافهم من أمامه ، امتدت أيديهم الى حبات البندورة تناولوا من أكياسهم وبدءوا برشقها نحو العربة ، ارتبك أبو علي وأوقف المحرك ، استمر الرشق  بغزارة ،  وتعالى صراخ الأولاد يشتمونه مع كل حبة بندورة تنفجر على حديد وزجاج العربة .

وهناك مواقف أخرى لها دلالاتها في  هذه الرواية ، يلامسها الكاتب عن بعد وهي على أي حال ليست وظيفة الرواية ، عمق الهوة التي تفصل  بين اليهود الشرقيين والغربيين ، وقد تبدى ذلك في موقف عزرا كوهين عندما سأله أبو شحاذة ، عما إذا كان لشموئيلي مدير المصنع أولاد على الحدود أجابه عزرا:

- أنت أهبل اللي مثله أولاده في أميركا


"تقنيات الرواية"


هذا من حيث المضمون ، أما من حيث الشكل فان ما يميز هذه الرواية سمة الإسهاب في الوصف ، التي يعمد إليها الكاتب من اجل إضاءة أفضل للمشهد الروائي،  لكشف سمات المكان والمناخ العام الذي تجري فيه أحداث الرواية ، هذا رغم ملاحظتي السابقة على ضيق المشهد  وتكراره ، وهي أيضا سمة  مميزة لهذه الرواية ، حيث يتكرر مشهد المقهى في أكثر من فصل من فصول الرواية،  و كذبك مشهد الساحة الذي يتكرر هو الأخر ، وكأنما أراد الكاتب توكيد هذين المشهدين  واعتبارهما مشهدين مركزيين في الرواية .

يميل الكاتب أحيانا الى استخدام الجملة القصيرة المتوترة ، لكنه ما يلبث أن يعدل عنها لصالح السياق السردي الذي اختطه منذ بداية الرواية ، والذي كان محكوما في اغلب الأحيان بصيغة الفعل المضارع ، وهي  صيغة الفعل الأثير لدى الكاتب .

يمزج الكاتب بين الفصحى والكلام المحكي ، وهذا المزج غالبا ما يستخدمه الكاتب في الحوار بين الشخصيات الذي تبدو الرواية غنية به ، وهذه اعتبرها ميزة أخرى من ميزات  الرواية ، إذ أن الحوار بين الشخصيات لا يمكن أن يكون  باللغة المتداولة بين الناس .

يقول الناقد والروائي اللبناني الياس خوري ، في مقابلة أجرتها معه مجلة " الحرية " بتاريخ 29/10/1998 "أريد أن اعترف هنا ، بان كتابة الحوار بالعامية أكثر صعوبة من كتابته بالفصحى ، لأنه عليك هنا أن تفصح العامية بطريقة ما ،  وان تدمج العامية في مبنى الفصحى ، لا أن تتركها مستقلة عنها  ، أنا اعتقد أن الأدب الحي عليه أن يتعامل مع اللغة الحية ، والأدب الحي هو الأدب الذي يقدر على استخدام اللغة كما تحكى ، وعلى محاولة دمجها باللغة الموروثة " .

"ثلاث مستويات"

تحافظ هذه الرواية على ثلاث  من مستويات التعبير وهي :

- السرد : حيث يقوم الراوي الذي هو الكاتب نفسه بهذه المهمة ، على مدى صفحات الرواية ، ولا يخفف من وطأة  ذلك  سوى الحوار بين الشخصيات ، الذي أجاد الكاتب توظيفه في خدمة النص الروائي  ، فكان هذا الحوار هو الجزء المتمم لعملية السرد.

-الحوار بين الشخصيات :  ويحتل  حيزا هاما في الرواية  ،  ويمكن من خلاله أن يتعرف القارئ على سيكولوجية الأشخاص ونوازعهم الداخلية  ، ومواقفهم من شتى القضايا المطروحة ، كقضية الاستغلال مثلا ، يقول أبو درويش القرمان :-

- الله حلل الشغل وحرم الاستغلال ، المال الحرام رايح ، ويل لكل همزة لمزه الذي جمع مالا وعدده ، البركة منزوعة يا لطيف.

ومواقف كثيرة لشخصيات أخرى في الرواية.

- الحوار الداخلي ( المونولوج)  : - ويشغل حيزا  بسيطا في الرواية ، إذ يقتصرعلى موقف واحد أو موقفين على الأكثر داخل النص الروائي، ومن خلاله يمكن التعرف على الصراع الداخلي نفس أبو إسماعيل العجاوي ، وموقفه من علاقات العمل السائدة داخل المصنع .-

"ليس من المعقول أن تظل هكذا ، بلا كرامة ، ولا إنسانية ، ولا حقوق ، ينظر إلينا معظم العمال اليهود كأننا خلقنا لخدمتهم.

 

" شخوص الرواية "


تقتصر رواية وجوه في الماء الساخن " على عدد محدد من الشخصيات ، التي لها دور فاعل في الرواية ، ولا نرى مثلا  دورا بارزا للمرأة فيها ،سوى شخصية سعده التي تقوم بدور ثانوي في الرواية ، مع انه دور مهم يفترض إضاءته بشكل أفضل .

شخصية أبوعلي جاد الله تبدو منسجمة مع ذاتها أكثر من الشخصيات الأخرى ،حيث يصورها الكاتب على لسان أبو درويش القرمان صاحب المقهى  ، ويحدد ملامحها كالتالي :-

" شايف يا خميس هالملعون !!

الله لا يبارك له ... شوف هالكرش

وإلا هالراس

منفوح نفخ من دم العمال وعرقهم"

ولا تقتصر ملامح هذه الشخصية عند  الوصف الخارجي لها ،  بل جهد الكاتب في تبيان دواخلها وكشف مواقفها.

 وهنا من المفيد الإشارة ،  إلى أن رواية تايه لا تقتصر على بطل محدد بعينه  ، رغم حرصه على إبراز دور إسماعيل العجماوي وأبو شحاده وتقديمها على أنهما من القادة النقابيين في المصنع.

إلا أن مواقف هاتين الشخصيتين ظلا محكومين بالخوف في تحركهما ،  داخل المصنع  وخارجه ، وفي علاقتهما مع مدير المصنع الإسرائيلي ، الذي يصر دائما على تجاهل مطالب العمال العرب.

 أبو إسماعيل العجماوي وأبو شحاذه ،   يمكن اعتبارهما نموذجا للبطل السلبي المتعدد الوجوه داخل الرواية ، مع أن في هذه الرواية نماذج للبطل الايجابي ، مثل محمود خميس الذي لا يتوانى عن المواجهة في  سبيل الدفاع عن حقوقه ،ورد الظلم عن زملائه العمال والأطفال وتحريضهم على التباطؤ في العمل ، بل  ومواجهة أبو علي جاد الله وكيل العمل المحلي ورجمه بالحجارة.

رواية وجوه في الماء الساخن تقدم  حيلة  الإنسان الفلسطيني على الحياة ، ومقاومته للموت الذي هو نقيض هذه الحياة ، وقد جاءت الانتفاضة في ختام روايته كنتيجة منطقية  وطبيعية لهذه المعاناة ،  التي تراكمت على مدى سنوات طويلة من عمر الاحتلال .

وقد نجح تايه في تقديم صورة هذه المعاناة في قالب فني جميل ، و لولا معايشته لها لما استطاع التعبير عنها بهذه الدقة والدرجة الفنية الرفيعة ..



عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية