على هامش معرض الكتاب في الرياض خلال العام الماضي2017 أهداني د. حسين رحيّم روايته التي صدرت عن دار (ناشرون) في بيروت في العام 2016، مذيّلة بتوقيعه وخطه الجميل وهمس في أذني (اقرأها بحيادية) فقرأتها وقررت أن أقرأها معكم بصوت عالٍ، وربما لا تروق هذه القراءة لكثير من الكتّاب والمبدعين، إذ ربما تصرف القرّاء عن اقتناء العمل الأدبي، ولكنني أدركت من كلام الدكتور حسين أنه يستمع للقراءة الجهرية الجادة، ويحترم رأي الآخرين بشدة.
تقع الرواية في 136 صفحة من القطع المتوسط، فهي سهلة الحمل وسهلة الهضم أيضاً فلم تسبب لي كقارئ أي أعراض عسر هضم على غرار كثير من الكتابات التي تحتاج معها إلى شيء من التذمّر الداخلي، حشد المؤلف في روايته عدداً كبيراً من مفردات لهجة البدو في المنطقة الواقعة جانبي الفرات فجاءت العُطفة معجماً زاخراً بالألفاظ والمعاني والشروحات والاستطرادات حتى أصبح الجزء الأول من الرواية ذا حواشٍ عريضة ربما التهمت معظم صفحاتها، فقد أمعن الكاتب بشرح معانيها واستقى بعضها من المعاجم اللغوية كلسان العرب، لا شك أنه أدرك أن قراءه من ثقافات مختلفة فمنهم البدوي ومنهم الحضري ومنهم من لم يعرف من الصحراء سوى حروف كتابتها، ولم تتحفظ الرواية على بعض الممارسات التي تسود مجتمع البادية كالغدر والطعن بالظهر ومواعدة الحبيبة تحت جنح الظلام والتشنيع ببعض الأفعال الدنيئة، والخسة واللؤم كما أنها أظهرت الجانب الإيجابي في شخصية البدوي كالكرم والشجاعة وقوة البأس ورباطة الجأش والقناعة والصبر على أقدار الله، والتسليم والرضا بما يقع، والصبر والاحتساب، والعفة والاحتشام والحياء بالإضافة إلى الثأر والانتقام والشك والحذر والتطيّر أحياناً من رؤية البوم أو الغراب.
تسير الرواية بصبر جمل(رحول) يحمل هودج العُطفة، تتمركز حول نقطة هامة كانت محور اهتمام البدو آنذاك وعرفاً من أعراف الصحراء، وربما استقوها من الأمم السابقة، فكثيراً ما كان العرب يأخذون نساءهم في المعارك للحث على الاستبسال وعدم التراخي أمام سطوة الأعادي، وقد كانت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان تقول في غزوة أحد:
نحن بنات طارق = نمشي على النمارقْ
إن أقبلتم نعانقْ = أو أدبرتم نفارقْ
فراق غير وامقْ
وهي بذلك تحث فرسان قبيلتها على الاستبسال حيث لقي حمزة رضي الله عنه مصرعه يوم أن شقت بطنه وأكلت كبده وسميت آكلة الكبود، وهذا لا شك تأصيل لاصطحاب النساء إلى أرض المعركة، فالبدوي عندما تستنصر الحريم يهب لنجدتها ويقاتل قتال الأبطال خوفاً على عرضه من العار الذي يخشى أن يلحق به،
كذلك قالت (شما) وهي بطلة الرواية في المعركة التي دارت رحاها بين قبيلتها المجاهدة وقبيلة الشاهر:
حْليل اليوم = حْليل اليومْ
خذينا القوم = خذينا القومْ
بيرق عالي = وعز يدومْ
فاستبسل الفرسان وكسروا شوكة قبيلة الشاهر واستاقوا إبلها وعطفتها أمامهم،
وأنت تسير بمنعطفات الصحراء وبين سهولها ووديانها تجد بسهولة خيط الحكمة المفقود، والصبر والأناة والتريث قبل اتخاذ القرار لأنه بمثابة قرار سياسي بموجبه تباد قبيلة وتقوم على أنقاضها أخرى، الشيخ هذال بن صْعفق، وقد حرص الكاتب على ضبط كلماته ضبطاً دقيقاً كيلا يلحن القارئ في قراءة الأسماء(صْعَفَق، شْداد، خَبْرة، ربْعة، خْضيرة) وذلك لأن الأسماء وصلته سماعاً وبالتالي هو اضطر أن ينحّي قواعد العربية جانباً كي يوصل المعنى بدقة وأمانة.
كما حرص على أن يدور الحديث بين عرب الشيخ هذال في (ربْعته) باللهجة البدوية كما هي طازجة طرية وكأنك أحد الجالسين معهم، ولا شك أن كثيراً من كلمات القوم ما زالت تُتداول في مجالس أبناء المنطقة الشرقية من سورية(الرقة، الحسكة، دير الزور)، مع أن أغلب ساكنيها مزيج من أهل الأرياف والمدن وأن معظم البدو نأت بهم الصحراء فاستقروا بعيداً عن بلادهم الأصلية وتوزعوا في دول الخليج العربي، وإن بقي منهم شيء فهو قليل جداً وضائع في صحراء سورية، ولا سيما في الأحداث الساخنة التي تشهدها المنطقة اليوم.
كما حرص الكاتب على الوضوح فلم يتخف وراء كلمات مبهمة، ولم يتناول مفردات غريبة عن المجتمع البدوي إلا في المواضع التي يدلل بها على حجة أو يدحض بها رأياً مغايراً، كما استخدم المفردات العربية الناصعة البياض، السهلة المألوفة المأنوسة المحببة إلى النفس النقية المستلهمة من عروق المجتمع البدوي الموغل في طيبته وبساطته.
تسلسلت أحداث الرواية بسلاسة وانسيابية تامة، لم يسمح للتداعيات أن تأخذ بالقارئ يمنة ويسرة إلا في القليل النادر، وركز جل اهتمامه على محور الرواية(العُطفة) في قبيلة الشيخ هذال وما يدور بين مضاربها.
أشار إلى خناجر الغدر بين أفراد البيت الواحد فمثّل هذا التيار بوضوح تام شايش بن صنيتان ابن أخ الشيخ هذال لطمعه في المال فكان متواطئا مع جربوع بن غثيث من قبيلة الشاهر وعلى علم بمقتل حْمود ولد الشيخ هذال بعد سباق صباح العيد، كما أنه كان وراء زواج أخته ظبية من جربوع لقاء نوق ساقها له الأخير فادّعى شايش أنه حازها(بذْراعه)، كما أن في بيت الشيخ هذال وهو المعروف عنه التصرف الحكيم في الأوقات العصيبة هناك من أبنائه (مزْعل) كان يدّعي الشجاعة والرجولة ومكارم الأخلاق، وهو عكس ذلك وسرعان ما نقض أول خيط في سدة (ربْعة) أبيه حينما داهمه غريب، وعيّنه شيخاً بدلاً من أخيه صقر الذي مات قهراً لما آلت إليه حال القبيلة من ذل وهوان،
أشار الكاتب إشارة ذكية إلى المجتمع البدوي المحافظ كيف يتعامل مع احتياجاته بالشراء من الحوّاجين، والاستعانة بالربّابة(ربّابة الدْلال)، لأنه من الصعب جداً ارتياد أسواق المدينة ولا سيما من قبل النساء.
أطلعنا الكاتب على جانب اجتماعي هام وهو كيف يواجه البدوي الموت والحزن والمصيبة، وكيف يعيش أفراحه وأهازيجه، فعندما قتل حْمود ولد الشيخ هذال، تصبر الشيخ وأمر بالصبر ودعا أمه وأخته شمّا للصبر والدعاء واحتساب الأجر، ودفنه بالقرب منه، لأن البدو كانوا يدفنون موتاهم بالقرب منهم ولكن سرعان ما يرتحلون لأنهم ربما لا يحتملون مجرد تخيّل من يحبون تحت الجنادل و الثرى، ورغم أن الشيخ هذال يأمرهم بالـتأسي والصبر ولكنه أب والضربة قاصمة للظهر قتل ابنه الكبير في يوم عيد، ولم يستطع معرفة القاتل، كما أن النساء في الحزن تتشح بالسواد وهذا أمر متعارف عليه إلى يومنا هذا، ولا سيما في منطقة الفرات، وأصرت ظبْية وقد كانت (مْحيّرة) لولد عمها حْمود على جز ظفائرها ورمتها على جثة حْمود، وأشار إلى ثقافة تتضاد مع تعاليم الإسلام التي تقتضي أن يكون شرط الزواج الإيجاب والقبول، فالحِيار هو أن يتفق أهل الشاب وأهل الفتاة على أن تكون فلانة زوجة فلان وربما منذ ولادتها، وهي عادة ما زالت بعض القبائل متمسكة بها إلى عهد قريب.
فن الرثاء تجلى واضحاً عند شمّا حينما رثت أباها بأبيات تقطر دماً ودموعاً واقتصرت بقول الشعر عليه فقط وأنه لن تقوله من بعده:
جعل قبرك بختْري ونوّار = يا ابن صْعفق يا حر زيزوم
حرّمت عقبك قول الاشعار = وألبس سنة من سود الهدومْ
لم تغب عن الصحراء معالم الفرح، وانطلاق الأهازيج فالعادة أن يأتي الحوّاجون إلى مضارب القبيلة ليشتري الناس ما يحتاجون إليه من اللباس والأحذية والبخور والحناء والعطور والأسلحة أيضاً، مراسم الفرح تمتد لأسبوع كامل، وفي كل يوم يلعب الرجال الدّحة، وهي معروفة في قبائل شبه الجزيرة العربية إلى اليوم ومثلها السامري وخلافه، فكل منطقة لها طابعها الخاص وموروثها الشعبي الذي تتميز به عن سواها، في كل يوم ينحر الشيخ هذال (قُعُود) جملاً وعدداً من الخراف تكريماً للضيوف، وفي الدحة يناكف الرجال المرأة التي تتوسط جمعهم وهي (الحاشي) وهي امرأة تجيد اللعب بالسيف فتضرب كل من يقترب منها أو يحاول لمسها، وللعبة أصول تتعلق بخفة اليد وأخلاق الفرسان،
الثأر قضية تأكل وتشرب مع البدوي، وربما تثأر المرأة أيضاً كما فعلت ظبية إذ قتلت زوجها جربوع قاتل ولد عمها حمود.
التقاضي عند البدو والجلوس للحق، و(البشعة) وهي كي اللسان بالنار، حينما سرقت النوق من راعي الشيخ هذال،
العزف على الربابة كآلة موسيقية وحيدة في البادية، والسمر أمام موقد النار ودلال القهوة، واجتماع وجوه العشيرة عند الشيخ كلها تنقلنا إلى مجتمع البداوة والزمن الأخضر الجميل،
رأينا في العطفة كيف يتقن البدوي فن القتال، وهاهو الشيخ هذال يقسم الجيش إلى كراديس عندما هاجموا قبيلة الشاهر وقتلوا فوارسهم واستاقوا حلالهم وعُطفتهم أمامهم.
ممّا استوقفني عند الكتاب تسارع الأحداث السلبية وتلاحقها، فما إن يقتل حْمود ولد الشيخ هذال ولا يعرف قاتله، حتى يقتل أخوه ضاري بينما كان (يوسّم) الإبل، ثم يلحق بهم الأب، ثم النكبة الكبرى بقدوم غريب وجماعته وسيطرة كاملة على القبيلة، وانتزاع الشّيخة وتسليمها لمن ليس كفؤاً لها، وانتحار صقر إثر ذلك، واغتصاب شمّا وفق زواج أتم بالإكراه، هكذا سمّاه أخوها مجول وهي أيضاً بل كان اغتصاباً للقبيلة كلها، تمنيت أن يتروّى الكاتب في سردها بهذا الشكل المخيف، ربما ألمح في تلك التفاصيل ما آلت إليه بلادنا من أوضاع وتسلط الغرباء على مقدرات البلد والاحتلال الذي تواجهه المنطقة الشرقية من جميع الأطراف،
في العُطفة عشت المجتمع البدوي بعاداته وتقاليده ونمط حياته، وبساطته وحدّته، وإباء رجاله، وعفّة نسائه وطهارة قلوبهن وثيابهن، ولن أسهب أكثر من ذلك، فالرواية قيمة لمن أراد اقتناءها وأظنها ستكون متوفرة في معرض الكتاب القادم2018 في الرياض.
بقي أن أشكر أخي الدكتور حسين رحيّم على (العُطفة) تلك الهدية القيمة وأتمنى أن يتسع صدره لما ذكرت فلست ناقداً بالمعنى الحقيقي وإنما متذوق
للكلمة الجميلة، وقارئ نهم، كما أعتذر من القارئ الكريم الذي أثقلت عليه بكلماتي، والله الموفق.