في معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2018، رافقت عائلتي في التجوال في ردهاته، واختار أطفالي بعض الكتب، بينما وقعت عيني على رف صغير على مقربة من إحدى بوابات المعرض، وكان يبيع الكتاب بخمسة ريالات أيًّا كان حجمه أو الغرض الذي يتناوله، وكان عرضًا سخيًّا لقارئ مثلي، فاخترت مجموعة من الكتب ليس لسعرها فقط؛ ولكن للمحتوى الذي طرحته، ووقعت عيناي على رواية للكاتب اللبناني سمير عطا الله واسمها (يُمنى)، وشرعت في القراءة حتى قرأت قرابة 75 صفحة ولم تشدني الرواية كثيرًا، ومن عادتي ألا أستمر في طريق لا أحب السير فيه، ولكن القراءة تحتاج إلى الصبر دائمًا، ومضيت مع القارئ أكثر فأكثر... حتى فرغت من الرواية برمّـتها.
(يُمنى) رواية من القطع الصغير تتألف من 296 صفحة، صادرة عن مكتبة العبيكان في الرياض عام 2008، قسمها الكاتب الصحفي الروائي: سمير عطا الله، -وعهدي به يكتب في الشرق الأوسط بصفة مستمرة- إلى خمسة عشر فصلًا بعناوين مختلفة مستوحاة من فقرات ومقاطع الرواية، وتدور الرواية في مجملها حول سيدة لبنانية مسيحية في الأربعين من العمر، ربة منزل، مثقفة ذكية لماحة، تنزع نحو استقلال بلادها، ولها دور كوجه من وجوه الوسط الفنيّ، وسيدات المجتمع المخمليّ، في مناوأة المستعمر الفرنسي، ويسلط الكاتب الضوء على الأحداث التي دارت بين عامي 1942 و1986م، ولعله أراد في ذلك التأريخ لحقبة كان لبنان فيها تحت الانتداب الفرنسي، والنزاع البريطاني الأمريكي، وقد نال لبنان استقلاله في تشرين الثاني 1943م، في عهد الرئيس: بشارة الخوري.
نعود للرواية التي تتمحور حول (يُمنى)، صاحبة الصالون الأدبي السياسي الشهير في بيروت، إنها تنقلنا إلى صالون ولّادة بنت المستكفي، والأدباء الذي يتوافدون عليه في العصر الأندلسي، كما تذكرنا بصالون مي زيادة أيام الرافعي والعقاد أيضًا، وتصف الرواية تنقلاتها بين الريف والمدينة وبين وعواصم أوروبا، والثراء والبذخ الذي يظهر باديًا على ملابسها، وعطرها، وأثاث منزلها.
يجتمع في بيتها (صالونها) أعمدة التيارات السياسية والدينية آنذاك، التيار المسيحي، ويمثله الرئيس: بشارة الخوري، والتيار المسلم، ويمقله الرئيس: رياض الصلح، وتدور حوارات حول الوضع السياسي الذي يوشك على الانفجار في بيروت ولبنان كلها، حيث كانت على صفيح ساخن، ثم تلك العلاقات الواسعة التي تربط يمنى بالساسة والدبلوماسيين في العالمين العربي والأوروبي، وعلاقتها بالملك فاروق وزوجته والرحلات بالبواخر والحفلات الموسيقية التي تقام على ظهورها إلى الإسكندرية وروما وباريس، والرواية مكتوبة بلغة شعرية ذات مستوى عالٍ، كأن الكاتب أراد لكل شخص من شخوصه أن يكون أنيقًا مهذّب الكلام والهندام.
تزور يُمنى القاهرة والإسكندرية وتسافر إلى القدس، وتستمع إلى نبض الشارع السياسي وتكهنات القادة والزعماء ومندوبي الاحتلال الفرنسي والبريطاني، لقد كانت همزة وصل بين عدة أطراف متحاربة يسعى كل طرف للأخذ بنصيب وافر من لبنان سياسيًّا، كانت يُمنى أنيقة في حضورها، آسرة في عطرها، مثقفة في منطقها، إذا حضرت أبهرت الجميع، فكانت المحور في كل جلسة تشارك بها.
تتقدم السنوات فتفقد زوجها المحامي [جورج]، وتنتقل للعيش مع ابنتها في اليزرة، إحدى ضواحي بيروت الشرقية، وبالمناسبة، بيروت بيروتان: غربية وشرقية، والغربية أجمل كما رأ]تها بنفسي.
بدأت بطلة الرواية تفقد أشياءها وأناسها واحدًا تلو الآخر، فهذا زوجها يودّع الحياة ثم بعده يأتي دور السائق النوبي يوسف، الذي أصرّ على مرافقتها حتى أصبح مقعدًا لا يستطيع المشي تحت ضغط الهرم، إلى أن انتقل إلى جوار ربه.
أصبحت جدة [تيتا]، فباركت لـ يارا ابنة ابنتها في زواجها، وبعد أن اطمأ،ت على وصولها إلى باريس لقضاء شهر العسل، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف مطار بيروت بكل وحشية، فهاتهفت الرئيس [شارل الحلو] ثم بكت متعبة وخلدت إلى نومها.
من لم يقرأ تاريخ لبنان وزعاماته السياسية [وزعرانه] الكثيرين، لن تكون الرواية واضحة له، ولكنها حقبة زمنية جميلة بما فيها من غصص حيث مات رياض الصلح بحادث اغتيال، واعتزل بشارة الخوري السياسة، وظل [كميل شمعون] يتنبأ بحرب تأكل الأخضر واليابس والعيون الأوروبية تتطلع نحو لبنان بطمع.
صوّر عطا الله جمال لبنان كأنه لوحة فنبة من خلال لبت يُمنى، وشلالها والبحر الذي ينتظر إطلالتها من الشرفة كل يوم بعد الظهر، فأعاد الوهج الفني والزخم السياسي المحتدم في بيروت عاصمة الفن والأدب والسياسة وقبلة الأدباء والمثقفين، ما زلنا نقرأ في مطلع أغلب الكتب العربية أنها مطبوعة في بيروت، وهذا يدل على مكانتها قديمًا وحديثًا، وربما لو أتيحت الفرصة مرة أخرى للكاتب نفسه، سمير عطا الله لكتب عن لبنان الموزع شرقًا وغربًا، ولكن هذه المرة سيكتب عنها بمرارة تفوق ما كتبه حول (يُمنى)!
:التدقيق اللغوي
.سماح الوهيبي