ما زال حبر الإهداء طريًّا على أول صفحة من الكتاب مذيلًا بالتوقيع والتاريخ، إنه بخط يد الأديب الشاعر السعودي: سعد عبد الله الغريبي، والحقيقة أن الصديق الأديب أهداني أكثر من كتاب له، بين شعر ونثر، وكان آخر إهداء أهدانيه في جلسة أدبية في ردهة فندق (موفنبيك) بالرياض، في الثالث من سبتمبر 2018، كتابه الجميل مثل روحه "لكل شاعر حكاية"، بصفته شاعرًا تناول الغريبي حكايات الشعراء بطريقة مختلفة، ركز من خلالها على جوانب من حياتهم مختلفة عمّا درج عليه الآخرون وقد اعتدنا (فلان..حياته وشعره)، (الحماسة لدى فلان) (الحكمة في شعر فلان) (الصورة الفنية، الأسطورة، الرمز، المدينة، الريف في شعر فلان من الشعراء)، ولأن الغريبي أديب أيضًا كتب بلغة مألوفة مأنوسة سهلة غضة طرية، صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 2012 عن دار الرمك في جدة، وافتتحه المؤلف بإهداء إلى رفاق الحرف في مدونات "مكتوب" هؤلاء الرفاق الذين شاركوا الشاعر كتاباته وحرضوه على نشر الكتاب كما يقول في الإهداء، يقع الكتاب في 160 صفحة من القطع الصغير، تناول فيها الغريبي عشرة شعراء لا تربط بينهم أي صلة سوى أنهم شعراء، ومن أزمنة مختلفة، وهم:
أبو ذؤيب الهذلي، مسكين الدارمي، عبد الرحمن بن أبي عمار، يزيد بن الطثرية، أبو دلامة، المعتمد بن عباد، ابن عنين الدمشقي، البهاء زهير، زكي قنصل، حمد العسعوس.
وأوضح الغريبي أن ترتيبه لهم ليس له أي اعتبار سوى أنهم كانوا أصدق تعبيرًا عن دواخلهم وأثرى تجربة، أما القاسم المشترك الأكبر بينهم، فهو الشعر، وسلط الضوء على مواقف عدة من حياة كل منهم، فمنهم العاشق، ومنهم المادح المتزلف، ومنهم المتسول الظريف، كأبي دلامة، ومنهم البائس الفقير، مثل البهاء زهير، ومنهم المغترب مثل زكي قنصل، ومنهم شاعر الدعاية والإعلان كمسكين الدارمي، وأسبغ على كل واحد منهم لقبًا استوحاه من خلال تجربته الشعرية، تناول حياة بعضهم بفكاهة، وأشفق على الآخرين من لهاثهم وراء المال، وإراقة ماء وجوههم عند أقدام المادحين، إنه يسلك مسلك المعري في رسالة الغفران حين يستوقف الشاعر ويسأله ويعاتبه ويلومه ويشكره أحيانًا، يختصر المسافة الفاصلة بين زمنين متباعدين زمن الشاعر وزمن الكاتب، فهو يجلس إلى أبي ذؤيب الهذلي ويسأله عن أحواله، ويركز على عينيته الرائعة في رثاء أبنائه الخمس، ويتساءل مع نفسه ومع جليسه حول الشاعر مسكين الدارمي الذي حفظ له الناس أبياته الخاصة ببيع الخُمُر (جمع خِمار) حينما كسدت بضاعة صديقه، وكان الدارمي قد اعتزل الشعر، ولكنه عندما رأى ضيق صديقه بتلك البضاعة روّج لها وسوّقها بأبيات ما زال يرددها الناس في حفلاتهم ومجالس لهوهم، ومن هنا سماه شاعر الدعاية والإعلان، ولكنه لم يكتف بإيراد تلك الأبيات المشهورة فقط، بل عرّف القراء أن مسكين الدارمي له أشعار كثيرة، وهو شاعر ظريف من ظرفاء مكة، كما تناول جوانب كانت خافية على كثير منا في حياة الناسك العاشق عبد الرحمن بن أبي عمار وقد أشار تحت العنوان إلى أن حكاية الشاعر منقولة عن رواية سلامة القس لأحمد باكثير، والقصة التي تم التركيز عليها أن النفس تطرب للأدب وتحب الجمال، وإن أخفت ذلك تحت ثوب من الورع، وقد أفرد المؤلف له قرابة عشرين صفحة ونيف، وينتقل إلى يزيد بن الطثْرية شاعر الأناقة في العصر الأموي كما يسميه، ليجري معه مقابلة تنشر في مجلة وادي حنيفة إلا أن تلك المقابلة تأخرت كثيراً بسبب انشغال الصحف بتغطية أخبار ثورة الشعب على الخليفة الوليد بن يزيد، ثم يقرأ خبرًا مفاده أن بني حنيفة قد أجهزوا عليه بعد قتال ضارٍ لم يخلع يزيد جبة الخز عنوان الأناقة التي كان يلبسها طوال الوقت.
وينتقل الكاتب إلى العصر العباسي ليروي طرفًا من أخبار المتسول الظريف أبي دلامة، ولا يفصل بين العصور الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي والمملوكي والعصر الحديث، وهي الحقب التي تناولها بشكل خفيف طريف عن طريق شخصيات كتابه من الشعراء المغمورين، ويعرج على المعتمد بن عباد وزوجه اعتماد الرميكية، معرجًا على الأحداث السياسية التي كانت تعصف بالدولة آنذاك، وكيف كانت نهاية المعتمد في السجن.
وينصرف إلى شاعر يسكنه القلق، إنه ابن عنين الدمشقي، والحقيقة أنني لم أسمع بهذا الشاعر من قبل، وفاجأني الكاتب بقصائده الجميلة، وتنقلاته وغربته، كما أخذ البهاء زهير حيزًا جيدًا من الكتاب، كان شاعرًا طامحًا لوظيفة كبيرة، في بلاط الدولة ثم ضاقت به السبل حتى صار يبحث عن لقمة عيش فقط.
وأخّر الكاتب شاعرين من العصر الحديث هما: زكي قنصل وحمد العسعوس إلى نهاية الكتاب ليحكي لنا تجربة الغربة القاسية التي صنعت شاعرية زكي قنصل وعصاميّته مبكرًا، ثم شاعر نجد الوديع حمد العسعوس وشذرات من قصائده وشيئًا من حياته.
أورد الغريبي لكل شاعر من شعرائه عددًا من الأبيات في مواقف مختلفة؛ ليدلل على اتجاهاتهم من وجهة نظره باعتباره أديبًا وشاعرًا، وأقول مرة أخرى إنه لم ينظم العقد على أساس محدد، فنراه يستفيض في موقع ويوجز في آخر، ويتعاطف مع شاعر، ويتهكم على آخر، لأنه ينظر بعين الناقد النزيه والكاتب المحايد الذي لم تسقه العاطفة ليدلل على شاعرية شاعر دون سواه.
في نهاية المطاف أقول بشيء من الاطمئنان إن الغريبي استخدم منهجًا جديدًا في دراسته إن استطعنا أن نطلق عليها هذا الاسم، تناول أسماء مغمورة أحيانًا ولامعة ببعض البريق أحيانًا أخرى ليدلل لنا على أن الشعر هو الذي يقدم صاحبه، فربما ظلم كثير من الشعراء فغيبوا عن المشهد الثقافي بينما تسيّد آخرون بسبب إجماع القراء على شاعريتهم فقط، ناهيك عن الأسباب الأخرى التي تصنع النكرات.
كانت البساطة في التعامل مع المواقف والأحداث وتناول الحكايات بشفافية تامة دون التوغل في المنعطفات كثيرًا أهم ما يميز أسلوب الكاتب وهذا بحد ذاته يجعل الشهية مفتوحة للقراءة بكل سلاسة وهدوء.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.