ما زلت مع سمير عطا الله وللمرة الثانية أقرأ كتابًا له، قرأت "يمنى" وكانت رواية ذات طابع سياسي من الدرجة الأولى، وشرعت في قراءة السندباد وتحاملت على نفسي لإكمال قراءتها ببطء، إذ لم تشدني كثيرًا خصوصًا في بدايتها، فهي تصنف ضمن "أدب الرحلات" صادرة عن مكتبة العبيكان في الرياض في العام 2008، وتقع في 238 صفحة من القطع الصغيرة الحجم، 201 صفحة فقط هي الرواية الأصلية وباقي الصفحات هي مقتطفات من كتب رحالة ومؤرخين واستشهاد ببعض كتاباتهم فيما رأوا من عجائب المخلوقات بينما كانوا يذرعون بلاد الله سفرًا.
قسم الكاتب روايته إلى عشرين عنوانًا تحت مسميات اقتبسها من صلب الفقرات التي تندرج تحت كل عنوان، وأستطيع أن أقول إن الرواية تندرج تحت أدب الرحلات؛ لأن كاتبها يصف ما يراه وصفًا فنيًا وأدبيًا رائعًا حتى في اللحظات الأشد خطرًا على حياته وحياة من معه من المسافرين والقباطنة، نراه يصف ما يحدث وصفًا عميقًا دقيقًا بارعًا، وكأن لديه آلة تصوير تلتقط ما يشاهده وتسجل ما يسمعه بكل احتراف.
ألبس الكاتب الرواية لباسًا تاريخيًا، فأضاف لها الطابع التراثي عن طريق استخدام مفرداته، وعن طريق توظيف آلات العصر العباسي وسحب القارئ من يده ليدخل قصر الرشيد حيث كلفه وهو شاب في مقتبل العمر بزيارة الأراضي والبلدان المجهولة للتأكد من بسط سيطرة الدولة العباسية مترامية الأطراف عليها، فهو أشبه بمستكشف أو رسول سلام يحمل الهدايا والرسائل من أمير المؤمنين هارون الرشيد، إلى ملوك وحكام الأقطار المتناثرة على وجه المعمورة، سواء أكانت دولهم وممالكهم فوق سطح البحر أم على ظهر اليابسة، اُختِير الراوي وسُمّيَ بناءً على اقتراح أبي العتاهية كأحد جلساء الخليفة الرشيد، سمي بالسندباد لأنه يتنقل بين الهند والسند ويكثر الترحال بناء على طلب الخليفة، زوّد بما يحتاج إليه من ملاحين وقباطنة وخرائط وأدلاء وطبيب وطباخين وحرس أيضًا ليكتب عمّا يصادفه وليطمئن الرشيد أن هيبة الدولة العباسية على أرجاء المعمورة ما زالت في أمن وأمان، وواجه المتاعب ونام تحت الأشجار وركب الأهوال و صادف أقوامًا من أكلة لحوم البشر، ورأى طائر الرخ ذا الجناحين الكبيرين والرأس الشبيه برأس الإنسان ورأى العجائب ودوّن كل ما رآه ليقرأه على الخليفة حال عودته، خاض أكثر من رحلة وتزوج "راي تي" امرأة من الصين ذات جمال باذخ، وأنجبت له عددًا من الأولاد، تعددت رحلاته وتنوعت أسفاره وأصبح ذا شأن في قصر الرشيد، واستطاع الكاتب لقربه من القصر أن يسلط شعاعًا قويًا من الضوء على ردهات القصر من الداخل وما يحاك فيها من الدسائس القائمة على الحسد والبغضاء والوشاية لدى الخليفة بعزل هذا أو إبعاده أو ربما قتله، تبعًا للمصالح الخاصة بعيدًا عن أهمية الحفاظ على استتباب الأمن، وبسط العدل بين الرعية.
في كل بلدة يزورها أول ما يعتني في كتاباته بلباس أهلها ودورهم وطعامهم وشرابهم وطبيعة مناخهم ليلًا ونهارًا وتراثهم وعاداتهم أيضًا، ثم إن سنحت له الفرصة للقاء حاكم البلدة أو أميرها قدم له هدايا الرشيد وكأنه يشتري ولاءات هؤلاء الحكام للخليفة مقابل تلك الهدايا ويلتمس رضاهم أن تكون بلدانهم تحت حماية الرشيد ولو بشكل غير مباشر، والحقيقة أن الكاتب أبدع في الوصف وكانت لغته للشاعرية أقرب منها للسرد العادي فوصف الأشجار والأدغال والحيوانات الغريبة والجبال والأراضي والمياه والبحار والحيتان والطيور والألبسة ووجوه النساء وشعورهم وأجسامهم، والرجال العراة، بل حتى اللغة التي لم يكن يفهمها ترجمها لنا بسماعه لها دون أن ندرك نحن ولا هو معاني كلماتها، وفي إحدى رحلاته وقد أطال السفر فيها عاد إلى البصرة مسقط رأسه ودار أمه وأبيه الذي فقده في غيابه، فاستنكر وضع المدينة وكذا بغداد مقر الخلافة العباسية، فسأل من يثق به فأخبره أن الأمور لا تسرُّ صديقًا، والحرب على وشك أن تشتعل في القصر وأن سيدات القصور يتصرفن بمطلق الحرية فيخططن لتولية أبنائهن بعد الرشيد ويقصد الأمين والمأمون، وهذا استدعاء تاريخي لما كان قائمًا على مسرح الأحداث إبان حكم الرشيد في إشارة إلى دور السيدة زبيدة بنت جعفر المشهورة بورعها وحكمتها، والدسائس التي اندلعت بين ابني الرشيد الأمين والمأمون، لتوليهما الحكم، وأعوان كل منهما ضد الآخر... ولكن الطبيب المقرب سابقًا لدى الرشيد أخبر السندباد أن الخليفة يمر بوعكة صحية لا دواء لها إلا شجرة الشفاء وهي لا توجد إلا في جزيرة مدغشقر في إندونيسيا، وكان عليه أن يتجهز لرحلة سرية حتى لا يُكتشف أمره، ويأتي للخليفة بتلك النبتة التي ستعيد له صحته على حد زعم الطبيب، سار أيامًا طوالًا وركب البحر والأهوال والمخاطر، وظهر كغريب وسأل واستقصى فطال به السفر ليعود ومعه الدواء المطلوب ولكن في الوقت غير المناسب، ها هو الرشيد قد غادر بغداد التي ضاقت به جراء تلك الدسائس والمحسوبيات إلى الرقة مصيفه المعتاد ومنها إلى طوس وهي التي مات فيها، ثم يحاول البصري (السندباد) اللحاق به، ولكن لا فائدة، فقد رأى الرشيد في منامه أن يدًا تخرج من تحت سريره تحمل تربة فسأل عنها وقيل له إنه تربة طوس وبها ستدفن، ثم يروي قصة موته على لسان طبيبه جبرائيل بن بختشيوع بأن علة داهمته في طوس وأنه أقام ببستان ثم أمر السياف "مسرور" أن يأتيه بتربة ذلك البستان وقد تذكر رؤياه السابقة فلما رأى التربة في يد مسرور أيقن أنه هالك لا محالة وأن اليد هي اليد ذاتها التي رآها في نومه والتربة أيضًا، وقد استند الكاتب في روايته تلك على كتب تاريخية من تلك التي تناولت حياة الرشيد والدعة التي كانت في القصور والحروب والمغازي التي قامت في عهده، والتطور الذي أصاب بغداد إثر ازدهارها في سنوات حكمه، ثم أورد بعد الصفحة الثانية بعد المئتين أقوالًا لرحّالة ومؤرخين وروايات لما شاهدوه من عجائب المخلوقات وغرائب النباتات وبعض الأدوية التي لها مفعول السحر، بل إن بعض تلك المرويات ليبدو للقارئ اليوم أشبه بالخرافات ففي الصفحة 210 يروي عن أبي حامد الأندلسي قوله:
"وأقمت عند ملك الخزر أيامًا، ورأيت أنهم اصطادوا سمكة عظيمة جدًا وجذبوها بالحبال، فانفتح أذن السمكة وخرجت منها جارية بيضاء حمراء طويلة الشعر حسنة الصورة، فأخرجوها إلى البر وهي تضرب وجهها وتنتف شعرها وتصيح، وقد خلق الله تعالى في وسطها غشاء كالثوب الصفيق من سرتها إلى ركبتها كأنه إزار مشدود على وسطها، فأمسكوها حتى ماتت" انتهى كلامه.
في المجمل أقول إن عطا الله أراد أن يصف بعض مشاهداته ورحلاته بطريقة مغايرة فألبسها لباسًا قديمًا واتخذ من عصر هارون الرشيد زمنًا يناسب أسفاره، ووظف بعض الأحداث ليفصّل ثوبًا تاريخيًا لروايته، ولتأثره بما قرأ من كتب الرحلات والمؤرخين راح يسقط إسقاطاته على ما يكتب حتى وصل حد الغرابة فيما ذهب إليه، فعلًا كان سندبادًا ولكن بثوب عصري.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.