أطباء من أجل المملكة، هذا الكتاب الصغير للمؤلف بول أرميردينغ أحدث ضجة داخلي عندما قرأته فلم يستغرق مني سوى ساعتين تقريباً، ولكن قراءته خلفت انطباعاً لدي بأن بعض الكتب وإن كانت بعيدة عن التخصص، خفيفة المحمل، ولكنها تنمي لدى قارئها ثقافة وتوثق حوادث وتواريخ لا تنسى بسهولة..
لدى مروري بمكتبة الملك عبد العزيز في معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام 2019، اشتريته بثمن بخس دراهم معدودة، ولكنني لم أكن فيه من الزاهدين وحاشا لله أن أزهد في كتاب، وإن الكتب من البضائع النفيسة في نفسي، يقع الكتاب في 214 صفحة من القطع الصغير ، وهو مزود بملاحق عدة ومليء بالصور ومذيل بالتراجم، ومختوم قائمة بإصدارات دارة الملك عبد العزيز وهي الجهة الناشرة، نشر الكتاب عام 1425ه، وقام بترجمته د. عبد الله السبيعي، والكتاب ملخص لمذكرات ورسائل لأطباء أمريكيين خدموا المملكة وقدموا الرعاية الصحية للأسرة السعودية بين عامي 1913 و1955م، وقد أشادوا باهتمام الملك عبد العزيز بالناحية الصحية لأبناء شعبه، وتعامله الراقي مع غير المسلمين، خصوصاً أنهم غير مسلمين، إلا أنه يؤكد للقارئ عبر مختلف صفحاته أن للبحرين والكويت أيضاً قصب السبق في إقامة المستشفيات ودور الرعاية الصحية، فمشفى مايسون التذكاري أسس منذ العام 1902، في الوقت الذي لم تشهد المملكة شيئاً من هذا إلا بعد مرور لا يقل عن عشر سنوات تقريباً، مما حدا بالملك المؤسس استدعاء هؤلاء الأطباء من البحرين لمعالجة المرضى في الأحساء والهفوف وحائل والرياض والطائف وبريدة وعنيزة، كما يدل دلالة واضحة على نشاط البعثات التبشيرية والإرساليات التنصيرية، وقد اشترط الملك عليهم قبل دخول البلاد ألا يدخلوا في هذه الأمور، وعاملهم بكل احترام وتقدير لقاء جهودهم.
لقد تعامل هؤلاء الأطباء مع مختلف شرائح المجتمع في الجزيرة العربية، كانوا يتنقلون بين البحرين والعقير عن طريق البحر ثم يركبون الجمال نحو الهفوف ومنها بالسيارات إلى الرياض، ما يضطرهم أحياناً لدفع تلك السيارات حينما تعلق بالرمال الناعمة، إذ لم تكن الطرق آنذاك معبدة كما يجب، وهذا قبيل اكتشاف النفط، ومن هؤلاء الأطباء من تنقل بين السعودية والكويت وعمان وقطر والبحرين والعراق، ومجملهم درسوا اللغة العربية فجاءت كتاباتهم تصور الواقع بدقة، وبأدواتهم البسيطة ومع قلة المؤن الطبية والاحتياجات اللازمة فقد أجروا آلاف العمليات الجراحية للمرضى فتكلل معظمها بالنجاح، وعالجوا الكسور والحروق وإصابات الحروب والرمد وغيرها.
من أولئك أذكر بعض من ورد ذكرهم في الكتاب أمثال الدكتور ستانلي ميلريا الإنجليزي الأصل وقد قضى فترة لا بأس بها في الكويت أعتقد أنه كان الطبيب الخاص للشيخ مبارك الكبير أو قريبا من بلاطه على الأقل، وقد تنقل بينها وبين البحرين، والدكتور بول هاريسون والدكتور لويس ديم والدكتورة إستر، والصيدلي عبد النبي سبكار البحراني، والذي رافق الدكتور نايكرك إلى السعودية بعد سماح حاكم البحرين آنذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة له بذلك، حسب الوثيقة (جواز السفر) التي وردت في الكتاب، وهو العربي الوحيد الذي كان يحمل صفة ممارس صحي بينهم، وبعض الممرضات اللائي قمن بدور الطبيب المعالج نظراً لقلة عدد الأطباء ولقربهن من النساء خاصة.
هؤلاء الأطباء عالجوا المرضى، وجابوا الصحاري والقفار، ودخلوا بيوت الناس وصوروا حياتهم ولمسوا آلامهم وأوجاعهم عن قرب، فوصفوا رحلاتهم بطريقة أشبه بطريقة كتابة المذكرات، كما وردت أسماء لبعض الشخصيات التي كان لها دور في سير الأحداث مثل مستر فلبي البريطاني الأصل مستشار الملك عبد العزيز آنذاك ورحلته التي قام بها وزوجته بدءاً من الرياض ثم الكويت فالعراق وانتهى به المطاف في لندن، وهناك ذكر لشخصية أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وهي شخصية التاجر المعروف عبد الرحمن القصيبي وهو والد الشاعر والأديب غازي القصيبي، حيث كان وكيلاً تجارياً للمملكة في البحرين منذ أيام الملك المؤسس، وهذا ما ذكره القصيبي في كتاباته أيضاً. والدكتور رشاد فرعون وهو سوري الأصل عمل مستشاراً وطبيباً خاصاً للملك عبد العزيز، كما مر الحديث عن أكبر شركة نفطية متعددة الجنسيات حول العالم استثمرت في حقول النفط في المملكة وهي شركة ستاندارد أوف أويل كاليفورنيا، كذلك شركة أرامكو السعودية.
ولعل أهم المحطات التي مرت بهؤلاء الأطباء هي معالجتهم للأسر الحاكمة سواء في البحرين أو في السعودية أو في الكويت، وبذلك حظوا برعايتهم وإكرامهم، فقد ذكر بعضهم أنه عالج الملك عبد العزيز، وذكر طبيب آخر أنه عالج الشيخ سلمان آل خليفة، وآخر تردد على قصر عبد الله بن جلوي أمير الأحساء لمعالجته بعد فقد ابنه في إحدى المعارك مما أدخله في نوبة اكتئاب حادة يسمونها السوداء.
وفي معرض حديثهم عن الحادث الذي وقع للأمير سعود بن عبد العزيز حيث أصيب بكسر في عضده نتيجة سقوطه من الجواد في إحدى المناسبات أكدوا على نمط الثقافة الصحية السائدة بين الناس آنذاك وأقصد به الطب الشعبي القائم على التوارث، وهذا هو المتاح في ذلك العهد، حيث طلب أن يتم تجبير الكسر بواسطة طبيب شعبي يسمى حمد بن قباع وهو بنّاء مشهور في نجد قام ببناء قصر المربع الخاص بالملك عبد العزيز. وكيف أفلحت جهودهم في إقناع المجتمع بصعوبة أن تجبير الكسور علم قائم بذاته، وأن ما اعتاده الناس سيصبح شيئاً من الماضي، وقد اقتنع الناس أكثر عندما تماثل ذراع الأمير سعود للشفاء.
حرص هؤلاء الأطباء على العمل بإخلاص نابع من الجانب الإنساني الذي يتشاركونه مع سائر البشر، ومن واجبهم كأطباء، ومن نبل رسالة الطب التي يحملونها وهم وإن كانوا مبشرين ومنصرين إلا أنهم استمالوا قلوب مرضاهم وأصدقائهم كما تحملوا صعوبة التنقل وشظف العيش وقسوة المناخ ووعورة الطرق، في تلك البقعة الجغرافية من العالم، وكان لهم دور كبير في تطور الرعاية الصحية وأساليب العلاج الحديث منذ مئة سنة ونيف في الجزيرة العربية على وجه الخصوص.
ولو لم يشر الكتاب إلا إلى الحقبة التاريخية التي عاصروها لكفى فقد صور لنا بدقة أحوال الناس المعيشية وبساطتهم وحياة البادية في الخيام والصحراء، واهتمام القادة بشعبهم في المجال الصحي في الوقت الذي كان الجدري ينهش الوجوه والسل يفتك بالأبدان.
#حميد_الأحمد