للمرة الثانية أعود لغازي القصيبي، ليس تعصباً له ولكن لجمالية كتابته، ولأنني تورطت في رواية بحجم 465 صفحة وتحتاج إلى نفس طويل للقراءة، اقتضى الأمر أن تكون الكتابة على مراحل، أحسب أنني قرأت مزيجاً من الألوان الأدبية بين الشعر والرواية والقصة والمسرحية في كتاب واحد، صدرت الرواية عن دار رياض الريس، ويدعي الكاتب حسبما جاء على ظهر الغلاف أنها طبعت خمس مرات، الأولى في العام 1994، والخامسة في العام 1999، وهي جزء مقتطع من سيرة ذاتية امتدت بين عامي 1956 و1961، غطت فترة الدارسة في كلية الحقوق التي قضاها المؤلف في القاهرة في ريعان شبابه، وقسمها القصيبي إلى واحد وعشرين فصلاً في مطلع كل فصل يكتب التاريخ، ثم يلحقه بيتاً من أبيات المتنبي، ولا ننسى أن القصيبي من محبي المتنبي وبينهما قواسم مشتركة كبيرة من حيث الأنا المرتفعة لديهما، والتطلع الدائم إلى المعالي.
شقة الحرية يسكنها خمسة طلاب من البحرين بينهم فؤاد الطارف، ويعقوب وعبد الكريم وقاسم...، وحملت هذا الاسم للتعبير عن الديمقراطية التي كانت تمارس في الشقة، وهي تؤرخ لمرحلة ما يسمى بضياع الهوية العربية، ففي أحداث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، وأزمة الانفصال التي تلتها عام 1961، وعبد الناصر والوحدويين والقوميين والناصريين وحزب البعث والشيوعية والماركسية، كل هذه التيارات الحزبية كانت تستهوي الشباب آنذاك، فانقسم الطلاب إلى تلك التيارات للانخراط فيها، وفؤاد الناصري النزعة كان محبا لعبد الناصر منذ أيام الثانوية في البحرين ويعلق صور الزعيم في الفصل لإغاظة الأستاذ البريطاني هيدلي، مدرس اللغة الإنجليزية، كانت الشقة مزيجاً غير متجانس من الأهواء والأمزجة وطرق التفكير، يجمع بينها نزق الشباب والتعطش للجنس الآخر في ظل غياب الأهل والبعد عن الوطن، يتعرف فؤاد طالب الحقوق إلى سعاد طالبة سورية منتسبة لحزب البعث وتتطور العلاقة الحزبية بينهما إلى اللقاءات بحضور مؤسس الحزب ميشيل عفلق، وتأمل سعاد أن يتربى فؤاد على مبادئ حزب البعث، ويأمل فؤاد أن تثمر العلاقة عن حب لا حزب، إلا أن فؤاد يتخلى عن الحزب وعن سعاد معاً، بعد أن يمل تلك السرية المزعومة، وتلك اللقاءات الفارغة إلا من التنظير وتزجية الوقت، كما يسأم من عبادة الأصنام التي كانت سعاد تنتهجها بتبجيلها للرموز من أقطاب الحزب، فيقلع غير بعيد عن سعاد لتجرفه موجة أخرى من القومية ومعه من أبناء وطنه ماجد طالب الطب القادم من عنيزة في بطن القصيم، تتشعب الطرق وتضيق المسارب فينتهز بعضهم الفرص لممارسة الحرية بطريقة فجة فيوغل في الجنس حتى الأعماق، وهو من زعماء الوجودية، يدمن قراءة فرويد وماركس وآخرين ساهمت كتاباتهم في تشويش فكره الناشئ، ويتشرد بعيداً عن القاهرة ويفضي به المآل في بيروت ليعود بوساطة لدى الزعيم عبد الناصر فيكمل طريق الدراسة، في تلك الفترات يكتب فؤاد القصة القصيرة ويعرضها على صديقه الذي يشاطره الهواية ذاتها فيطبعان أول مؤلف لهما يسخر منه العقاد فيما بعد، وفي نفس فؤاد تساؤلات عن انطباعات العقاد، ويجالس طه حسين الذي أشاد بما كتب هو وزميله، ويجالس نجيب محفوظ على طاولة المقهى ذات يوم ليسأله أسئلة كثيرة يضج بها دماغه، وفي مؤتمر الأدباء العرب يدخل تحت عباءة الأديب البحراني إبراهيم العريض سعياً للانضمام إلى قافلة الأدباء الناشئين فيصافح الزعيم عبد الناصر ويقترب منه ويقبل جبينه ويرى الجرح الذي تركه الحلاق في ذقنه أيضاً، ويتحدث إلى سليمان العيسى الشاعر السوري المعروف، ونزار قباني ونازك الملائكة وعبد المعطي حجازي، وصدام حسين الهارب من بطش عبد الكريم قاسم، وعدد كبير من أهل الفكر والأدب والفلسفة والسياسة والفن في العالم العربي الممتد من المحيط إلى الخليج.
أزمة الجنس لم تنته لديه، ومازال المتنبي يرافقه في مطلع كل فصل من روايته ليكتب بيتاً شعرياً يستمد منه القصيبي وقود التوهج، ويلبس سترة النجاة، يقترب من الهاوية عندما يتعرف على فتاة فارغة أغلب الوقت ثرية من وجهاء القاهرة تنتهي المحادثات الهاتفية المتأخرة ليلاً إلى ما لا تحمد عقباه، مديحة مظهر رشوان، سليلة أسرة أرستقراطية فقد والدها جاهه منذ ثورة الضباط الأحرار، ولكنه لم يفقد ثروته، ولا عباءة الباشوية التي يرتديها، شابة مطلقة ثرية فينزلق معها، وتأتي الصحوة على هيئة محاكمة من جلساء الشقة شركاء المسكن، وقبلها يتعرف على الفنانة الجميلة شاهيناز فتدور بينهما رسائل، يثبت من خلالها أنه يود الاقتران بها، ولكنها تفضل المستقبل الفني الذي لا يرتبط بأي شخص بل يجعلها حرة حتى تبلغ مبتغاها، فيضع حداً لعلاقة حب من طرف واحد.
ويدخل نادي القصة الأدبي بعد نشر قصته مع زميل له في الكلية، وربما كان اهتمامه بذلك أكبر من اهتمامه بمواد الدراسة فالدراسة كما يقول أهون مما سمعه عنها قبل مجيئه إلى القاهرة، إلا أن القاهرة المدللة لا تسير المعاملات فيها إلا بالرشاوى والمحسوبيات والمعارف المسبقة والوساطات، يلتقي بليلى شاعرة كويتية من أسرة ثرية أيضاً مطلقة مرتين لزوجين أولهما يميني كويتي والثاني يساري فلسطيني، فتكتب له القصيدة تلو القصيدة حتى يقع في ما يشبه الحب وما يغري بالاستمرار وما يوصل إلى الصدمة. إلى أن يتخرج حاملاً إجازة في الحقوق وفي نيته إكمال دراسته في أمريكا.
لقد مر بعدد من النساء، وشبّ عن الطوق حتى أن هذه البحرين الصغيرة التي يحملها في جيبه وقلبه لم تعد تتسع لمغامراته، ولكنه لم يتعلم كيف يكون ناصرياً بامتياز، يحب عبد الناصر دون أن يفقد صلته بالدين الإسلامي، يصلي الجمعة بشكل منتظم ولكنه لا يكف عن علاقاته الصبيانية المدمرة، كما لا يكف عن النضال السياسي المزعوم، يعلق عليه أستاذ الشريعة في الكلية آمالاً كبيرة في تبليغ الدعوة في أمريكا، ويحثه القوميون العرب بعد آخر مؤتمر حضره في بيروت بعد إلحاح من رفيقه ماجد على مواصلة النضال في أمريكا فيزودونه بأسماء الرفاق هناك للاجتماع بهم مستقبلاً.
دائما أقول إن القصيبي يكتب بلغة سهلة مألوفة أسهل من شرب الماء لا غرابة فيها، ويدمج العامية المصرية في كتاباته إذا اقتضي السرد أن يكون عامياً على لسان إحدى بائعات الهوى أو بنات الليل أو على لسان ضابط الشرطة أو الخفير، أو سائق التاكسي أو البواب، تراه لا ينتقي كلماته ولكن يتركها تجري بعفوية، تسبح أمام القارئ كسمكة سريعة الانزلاق لا يرى إلا لمعانها، ومن الصعوبة الإمساك بها بين اليدين، عندما تقرأ تشعر كأنه هو الذي يقرأ عليك الرواية لا أنت من يقرأ، تصبح العلاقة بين البحرين والقاهرة علاقة تضاد أحياناً لاختلاف العادات والميول واتساع الرقعة الجغرافية الفاصلة بين الاثنين لدرجة أن كثيراً من أهل مصر لا يعرفون أين تقع البحرين، ويظنها العم محجوب سائق التاكسي جزءاً من الحجاز.
لكل رفيق من رفاق شقة الحرية حكاية اختزلها القصيبي بقضية نضالية غالباً ما تؤدي إلى انتكاسة هنا وأخرى هناك.
بقدر ما تمارس الحرية في مكان ما بقدر ما تظهر تداعيات ممارستها على أصحابها الأحرار، ويدفعون الثمن من سجن وتعذيب وطرد وترحيل ورفض واستجواب. ويظل الناصري معلقاً آماله على الزعيم عبد الناصر حتى تنتهي الوحدة بينه وبين سوريا بالانفصال عام 1961، وإذا بالزعيم يبارك تلك الخطوة ولا يملك إلا أن يبتسم تتغير عندها قناعات فؤاد الطالب الناصري حتى النخاع، يصف الزعيم بالكذب والجبن واستغلال النفوذ، تبدو القيادات الحزبية مؤامرة، ومصالح شخصية، يصف النضال السياسي للرفاق بالطرق الملتوية لاستدراج الحسناوات. عبر القصيبي في شقة الحرية عن آراء الشباب العربي في ذلك الوقت، مواقفهم من قضية فلسطين، الصراع القائم مع المعسكر الغربي وروسيا، وعن ضياع البوصلة ومحاولة التجديف وسط المعمعة، البحث عن القدوات والمثاليات الزائدة.
أرى أن القصيبي أراد حشد عدد كبير من الأسماء البالغة الأهمية في روايته ليضفي عليها طابع الاحترام أكثر من طابع الحب المحرم الذي يسمُها بطابع الانفلات الأخلاقي والتسيب والتسكع في البارات، الروتين اليومي الذي يحكم الناس في أعمالهم وزحمة الأوتوبيسات والانفجار السكاني الهائل الذي تشهده قاهرة المعزّ.
فقد الثقة في القدوات والقيادات أجهض قطار الأحلام قبل الانطلاق، التجاسر الواضح في الحديث عن السنة والشيعة في البحرين، والكرامات الخاصة بالأولياء الموتى وكيف يستطيعون بكراماتهم تهيئة النساء للحمل رغم أنهم جثث مسجاة في المقابر والمزارات. تصادم الإيديولوجيات الفكرية، ثقافة التخوين وإلقاء التهم والمناظرات الفكرية بين الشباب والانسياق وراء الأفكار المتطرفة، هذه الأشياء وأكثر وظفها القصيبي في روايته ليحبك منها قصة طويلة لا تخلو من الطرافة ولا تبتعد عن التعقيد، ظل يسأل سؤالا يلح على ذهنه كيف يوفق بين الإسلام والقومية العربية؟ وكان الرد بالمراوغة من قبل المنظرين والمفكرين، لم يجد إجابات شافية لما يدور برأسه من تساؤلات.
ربما لو كان القصيبي حياً لأخذ مني موقفاً على قراءتي الانطباعية لما كتب، لم يكن يختم الفصول بالخواتيم المناسبة لكي لا يتهيأ القارئ للعثور على الكنز، يترك الأمر معلقاً حتى المقطع الآخر، وفي ثناياه يطرح حلاً لمشكلة سبق أن طرحها في مقطع سابق، وهكذا تجري وراءه لتمسك بطرف خيط يوصلك للنهاية فلا تجد، تتشتت وأنت تتابعه تتشبث بفكرة فتطير بمجرد مزاحمة فكرة أخرى. إنه عالم معقد ونسيج كثيف وحياة أخرى داخل شقة الحرية، يصور لنا بدقة المشهد الثقافي العربي والتكتلات الحزبية والطائفية واللامنطقية أيضاً.