انتهيت اليوم من قراءة كتاب الأيام للأستاذ طه حسين. وبغض النظر عما لهذا الرجل أو ما عليه، فإن أي منصف سيعترف بما له من أسلوب عذب، وكلمات رصينة، ومترادفات غنية، يعطيك كل منها معنى جديدًا وإحساسًا فريدًا.
وكعادتي بعد كل ما أقرأ، لا بد من إجمال ما استفدته، عملاً بقول من نصحت ابنها يومًا: اقرأ، فإن كل كتاب تقرؤه يضيف عقلاً إلى عقلك... لذلك سأحاول في عجالة أن أشير إلى بعض ما علق بذهني من تلك الأيام:
- طفولة طه حسين كانت قاسية جدًا، وأقسى ما فيها هي المعاناة النفسية من ابتلائه بكف بصره، فلا هو بالذي أنفق طفولته في اللهو واللعب كغيره من الأتراب، ولا هو بالذي لاقى إشفاقًا كما ينبغي جراء علته، وإنما تعرض كثيرًا للسخرية والاستهزاء... حتى بعد أن التحق بالأزهر في القاهرة، كان بعض شيوخه يناديه: تعالَ يا أعمى، وفي ذلك من القسوة ما فيه.
- من أكثر ما شدني إلى إكمال أيامه هو إصراره وعزيمته التي تكاد لا تقهر، عزيمة في حفظ القرآن الكريم، وعزيمة في الصبر على حياة الأزهر القاسية كما يصفها هو، وعزيمة على تغيير مسار تعليمه من الأزهري إلى العام رغم عدم بدايته فيه، وعزيمة على نيل الليسانس ثم الدكتوراه من مصر، وعزيمة على السفر إلى فرنسا بعد ثلاث محاولات فشلت الأوليان منها ثم نجحت الثالثة، ثم أخيرًا عزيمة على مصارحة محبوبته وعدم اليأس من الزواج منها، وقد حصل له مراده.
- للرجل تجربة عاطفية صعبة، وأي صعوبة تلك التي يجدها المحب وهو يرى بقلبه كل يوم بل كل لحظة محبوبته لكنه لا يملك المصارحة... وهكذا كان الرجل، فقد كتم مشاعره بينه وبين نفسه زمنًا طويلاً، ولم يستطع أن يصارح بها رغم أنه يكتوي بنارها، لكنه قاوم مشاعره حتى مزقها وأطلق للسانه العنان.
- كم كانت زوجه رائعة بحق، في الجانب المشرق فقط الذي حكاه لنا، حيث لم تضع أي اعتبار لكونه كفيفًا، وإنما كانت له الخادم الذي يقوم بحاجياته، والصديق الذي يجد في الحديث معه لذة، والمعلم الذي يقرأ له ويترجم، والأم التي تخفف عنه المعاناة المادية بعد أن عادا إلى مصر وعانوا بعد ذلك من قلة ذات اليد... ولا شك أن كل هذه الصفات الجميلة قلما توجد اليوم.
- لاقى طه حسين من بعض الغرباء عنه معاملة وحنانًا ماديًا وعاطفيًا أكثر من أخيه الشقيق، وهو بذلك يؤكد أن هذا الثابت قديم ومستمر إلى الآن.
- روحه خفيفة وشخصيته ميالة إلى الفكاهة والضحك رغم كل المآسي التي عرضت له. لكن الحق يقال أن هذه الفكاهة وهذا الضحك وصل إلى الحد الذي لا يتورع فيه صاحبه عن ذكر معايب شيوخه وأساتذته وزملائه، فذاك شيخ كثير الأكل وثانٍ متفاصح متقعر في النطق وثالث موسوس في صلاته ورابع قليل الذوق وخامس منافق وسادس وسابع... كل تلك المعايب ذُكرت بكل سهولة دون مراعاة حرمة أصحابها.
- أخيرا، أعتقد أن مما ساعده على هذا الإبداع في كتابه هذا، أنه كان يمليه لا يكتبه، وفرق بين الطريقتين في التدوين، حيث يشعر من يملي أنه يخاطب من أمامه فتنساب الكلمات والعبارات انسيابا، تمامًا مثل من يلقي درسًا أو محاضرة، يشجعه الحضور أمامه على المزيد والمزيد.
انتهت أيام طه حسين، لكن لم تنته أحزانه وأفراحه ودروسه.
وإلى لقاء مع نهاية كتاب آخر بإذن الله.