ليس أصعب على النفس من أن تفقد عزيزا، وفي مقدمة الأعزة الأبناء وإن كان بعضهم يرى موت الحبيب أقسى على النفس من موت الابن، وهذا غير سليم ولا يقاس عليه إلا حين تتوفر التجربة الحقيقية وإلا فهو مجرد لغو وتقول. الفرق بين الموقفين أنك في حال موت الحبيب يذكرك به أمور محددة تخصه، وهي لا شيء إذا ما قيست بما يذكر بذلك الابن، فالأب أو الأم لا يمكن لأي منهما أن يتجنب أسباب التذكير بمن مات من الأبناء... بعد الموت. إن كل ما في البيت أو في الكون يذكر بذلك الابن أو البنت بعد الموت. كلاهما مر وصعب، ولكن شتان بين موت حبيب وموت ابن أو ابنة. وخير دليل على ذلك ما بني عليه ديوان " رثاء القمر" للشاعر الكويتي الصديق الدكتور " سالم عباس خدادة" الذي عرف عنه نظم الشعر منذ ريعان الشباب، حتى إذا فقد ابنه الأكبر أحمد توقف نبع الشعر عن التدفق لديه إلا في تيار الرثاء والتذكير بمآثر أحمد الذي توفي في السادسة والعشرين من عمره، وهو بعد طيار حديث العهد في الخطوط الجوية الكويتية، وأب لصغيرتين، هما: لطيفة ودلال اللتان حلتا محل أبيهما بين جوانح الجد الشاعر.
صدر الديوان بعد عشر سنوات من الوفاة، وهذا يعني أنه في خلال هذه السنوات لم يكن لدى الأب الشاعر من موضوع أثير يشغله سوى رثاء أحمد، وذكر أحمد، والتعبير عن مشاعره الدفاقة نحوه كل أوان، حتى إنه صار يرى فيه القمر ويرثي فيه القمر، ويرثيه إن رثى القمر، ويشعر بالوحدة من دونه وإن كان معه القمر؛ فالقمر أحمد، وأحمد هو القمر، ولن يكون قمة إحساس نحو القمر، فإن رآه حزينا فلأنه يذكره به، وإن رآه باسما ذكره به أيضا...لقد أكد شاعرنا هنا ما ذهب إليه قبله بعقود الشاعر المصري الكبير " محمود غنيم" الذي عانى مرارة الموقف نفسه، فدفعه ذلك إلى إبداع معنى جديد لليتم في قوله:
ما اليتم موت والد
اليتم موت الولد!
فإحساس الشاعرين واحد يتمثل في الخسران الكبير، ذاك خسر ابنه، وكنوزا كبيرة معه، كما خسر الحياة وهو على قيدها ، وهذا خسر القمر فوق ذلك الخسران المبين، إذ لم يعد يحس جماله أو أثره الرائع في النفس، بل أضحى -أي القمر- مجرد وسيلة عظيمة تذكره بما لا ينسى ، تذكره بموت ابنه، وبالموت ، وبالغربة، وبالشتات.
إن كل ما في الديوان من قصيد ومشاعر تحمل ملامح الإبداع وعلاماته، من صدق الإحساس، وعمق الشعور بالخسران والفقد، والتعلق بكل ماله صلة بأحمد، وكل من اسمه أحمد، والدعاء له، وتصوير مكانه وقد خلا منه، والتعلق بابنتيه وبالقمر.. يحلق مع القمر تعبيرا عن صدق الشعور بالفقد وتميزه لعله ينسى الهم للحظات ولكن القمر أضحى هو أحمد وأضحى أحمد هو القمر وفي هذا ما يعلي شأن الفقيد ، ويقيم الموازنة المبررة بين فقيد لن يعود ومقيم جميل مثله يغيب ليعود ويعود ليغيب ولكنه على كل حال يعطي المأساة طابع الاستمرار والدوام...وهذا ما دفع الشاعر، لأنه شاعر بحق، إلى الحديث عن الفرح والحزن الضدين العامرين بقوله :
الحزن ضد الفرح
وهم يقولون الضد يظهر حسنه الضد
فهل يستطيع الفرح أن يظهر للحزن حسنا في أي قلب
وفي أي درب؟؟؟
ثم: وأنت أيها الفرح عذرا عذرا،
فلن يستطيع الحزن أن يظهر شيئا من حسنك في هذه الأيام!
ديوان عامر غامر والقول فيه يشد إلى ما قيل من قبل في رثاء الأبناء والأزواج والأهل، وإلى الموازنة بين هذا وذاك وتلك ولن نتوقف عن الحديث إلا وقد بنينا دراسة من مئات الصفحات تعرض الشعر وتوازن لكنها لن تفاضل؛ فالأسى متشابه والمعاني متقاربة، وهموم النقاد شريكة في الغم والهم حيث يتساوى الإبداع والقيم والتقدير وتزول مبررات المفاضلة، ويصبح محلها القلب قبل العقل، والشعور قبل كل تقدير، إنه السمو والرقي يسم كل قول وقصيد.